وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن إحرام أحد الزوجين ، أو الولي ، ليس مانعا من عقد النكاح ، وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة ، وهو مروي عن الحكم ، ، والثوري وعطاء ، وعكرمة ، وعزاه صاحب " المغني " ، ، والظاهر أن عزو هذا القول الأخير لابن عباس أصح من عزو لابن عباس النووي له القول الأول كما ذكرناه عنه آنفا كما سترى : ما يدل على ذلك إن شاء الله تعالى .
وإذا علمت أقوال أهل العلم في الإحرام بحج أو عمرة ، هل هو مانع من عقد النكاح ، أو لا ؟ ، فهذه أدلتهم . أما الجمهور القائلون : بأن الإحرام مانع من النكاح ، فاستدلوا بما رواه مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال :
قرأت على مالك ، عن نافع ، عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر ، بنت شيبة بن جبير . فأرسل إلى يحضر ذلك وهو أمير الحج . فقال أبان : سمعت أبان بن عثمان - رضي الله عنه - يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عثمان بن عفان " . لا تنكح المحرم ، ولا ينكح ولا يخطب
وحدثنا ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، عن حماد بن زيد أيوب ، عن نافع . حدثني نبيه بن وهب ، قال : بعثني ، وكان يخطب عمر بن عبيد الله بن معمر بنت شيبة بن عثمان على ابنه . فأرسلني إلى وهو على الموسم . فقال : ألا أراه أعرابيا : " أبان بن عثمان " ، أخبرنا بذلك إن المحرم لا ينكح ولا ينكح عثمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثني أبو غسان المسمعي ، حدثنا عبد الأعلى ( ح ) ، وحدثني أبو الخطاب زياد بن يحيى ، حدثنا محمد بن سواء . قالا جميعا : حدثنا سعيد عن مطر ، ، عن ويعلى بن حكيم نافع ، عن نبيه بن وهب ، عن ، عن أبان بن عثمان - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عثمان بن عفان " . لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ولا يخطب
وحدثنا ، أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد . جميعا عن وزهير بن حرب . قال ابن عيينة زهير : حدثنا عن سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى نبيه بن وهب ، عن ، عن أبان بن عثمان عثمان يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " " . المحرم لا ينكح ولا يخطب
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، حدثني أبي عن جدي ، حدثني خالد بن يزيد ، حدثني ، عن سعيد بن أبي هلال نبيه بن وهب : أن أراد [ ص: 19 ] أن ينكح ابنه عمر بن عبيد الله بن معمر طلحة بنت شيبة بن جبير في الحج ، يومئذ أمير الحج ، فأرسل إلى وأبان بن عثمان أبان : إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر . فأحب أن تحضر ذلك ، فقال له أبان : ألا أراك عراقيا جافيا ! إني سمعت يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عثمان بن عفان " . لا ينكح المحرم
وحدثنا ، أبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نمير جميعا ، عن وإسحاق الحنظلي ، قال ابن عيينة : حدثنا ابن نمير ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار أبي الشعثاء : أن أخبره : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ابن عباس ميمونة وهو محرم ، زاد : فحدثت به ابن نمير فقال : أخبرني الزهري : أنه نكحها وهو حلال ، وحدثنا يزيد بن الأصم يحيى بن يحيى ، أخبرنا داود بن عبد الرحمن ، عن ، عن عمرو بن دينار ، جابر بن زيد أبي الشعثاء أنه قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس ميمونة وهو محرم . عن
حدثنا ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا جرير بن حازم أبو فزارة ، عن ، حدثتني يزيد بن الأصم : ميمونة بنت الحارث ابن عباس . انتهى من صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال . قال : وكانت خالتي وخالة مسلم . وحديث عثمان المذكور في صحيح مسلم رواه أيضا مالك ، وأحمد ، وأصحاب السنن . وقال بعد أن ساقه : حديث أبو عيسى الترمذي عثمان حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم : ، عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وهو قول بعض فقهاء التابعين ، وبه يقول وابن عمر مالك ، ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، لا يرون أن يتزوج المحرم . وقالوا : إن نكح فنكاحه باطل . وحديث عن يزيد بن الأصم ميمونة المذكور في صحيح مسلم : " " رواه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهو حلال الترمذي ، وأبو داود ، ، وابن ماجه ، وقال والإمام أحمد الترمذي : حدثنا قتيبة ، ثنا عن حماد بن زيد ، عن مطر الوراق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار أبي رافع قال : " ميمونة ، وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول فيما بينهما " . قال تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو عيسى : هذا حديث حسن ، لا نعلم أحدا أسنده غير عن حماد بن زيد ، عن مطر الوراق ربيعة . وروى عن مالك بن أنس ربيعة ، عن : " سليمان بن يسار ميمونة وهو حلال " رواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج مالك مرسلا ، ورواه أيضا عن سليمان بن بلال ربيعة مرسلا . انتهى محل الغرض منه . وحديث أبي رافع هذا رواه أيضا ، وروى الإمام أحمد مالك - رحمه الله - في موطئه ، عن نافع أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول : لا ينكح المحرم ، ولا يخطب على نفسه ، ولا على غيره . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك أنه بلغه : أن سعيد بن [ ص: 20 ] المسيب ، وسالم بن عبد الله سئلوا عن نكاح المحرم ؟ فقالوا : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح . وفي " الموطأ " أيضا عن وسليمان بن يسار مالك ، عن : أن داود بن الحصين أبا غطفان بن طريف المري ، أخبره أن أباه طريفا ، تزوج امرأة وهو محرم . فرد - رضي الله عنه - نكاحه . وحديث عمر بن الخطاب أبي غطفان بن طريف ، هذا رواه أيضا ، وروى الدارقطني عن الإمام أحمد - رضي الله عنهما - أنه سئل عن ابن عمر مكة ، فأراد أن يعتمر أو يحج ؟ فقال : لا تتزوجها ، وأنت محرم ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، انتهى منه بواسطة نقل امرأة أراد أن يتزوجها رجل ، وهو خارج من المجد في " المنتقى " .
فهذا هو حاصل أدلة من قال : بأن الإحرام مانع من عقد النكاح ، وأما الذين قالوا : بأن الإحرام لا يمنع عقد النكاح ، فقد استدلوا بما رواه الشيخان في صحيحيهما ، وأصحاب السنن ، عن والإمام أحمد - رضي الله عنهما - " ابن عباس ميمونة وهو محرم " ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج : " وللبخاري ميمونة وهو محرم ، وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف " ، ا هـ . تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -
قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه ، عن - رضي الله عنهما - فيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ابن عباس ميمونة وهو محرم ، والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] وهو المشرع لأمته بأقواله ، وأفعاله ، وتقريره صلوات الله وسلامه عليه ، فلو كان تزويج المحرم حراما لما فعله - صلى الله عليه وسلم - واحتج الجمهور القائلون بمنع نكاح المحرم بالأحاديث المتقدمة ، قالوا : ثبت في صحيح مسلم من حديث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عثمان بن عفان " يراد بها النهي ; كقوله تعالى : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب " وصيغة النفي في قوله : " لا ينكح ، ولا ينكح ، ولا يخطب فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا في الحج ، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء ; كما هو مقرر في المعاني .
والحديث دليل صحيح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على منع نكاح المحرم وهو معتضد بما ذكرنا معه من الأحاديث ، والآثار الدالة على منع نكاح المحرم . وأجاب الجمهور القائلون : يمنع إحرام أحد الزوجين أو الولي عقد النكاح عن حديث المذكور ، بأجوبة . ابن عباس
[ ص: 21 ] واعلم أولا : أن المقرر في الأصول : أنه إذا اختلف نصان وجب الجمع بينهما إن أمكن ، وإن لم يمكن وجب الترجيح .
وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن من أجوبتهم عن حديث المذكور ، أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث ابن عباس ميمونة ، وأبي رافع : " " ووجه الجمع في ذلك ، هو أن يفسر قول أنه تزوجها وهو حلال : أنه تزوجها وهو محرم بأن المراد بكونه محرما في الشهر الحرام ، وقد تزوجها - صلى الله عليه وسلم - في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء ، كما ذكره ابن عباس - رحمه الله - في صحيحه في كتاب : " المغازي في باب عمرة القضاء " . البخاري
قال بعد أن ساق حديث المذكور ، وزاد ابن عباس : حدثني ابن إسحاق ، ابن أبي نجيح وأبان بن صالح ، عن عطاء ، ومجاهد ، عن قال : " ابن عباس ميمونة في عمرة القضاء " انتهى منه . ومعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة من سنة سبع ، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام ، أو في الحرم أو غير ذلك . تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال ابن منظور في " اللسان " : وأحرم الرجل : إذا دخل في حرمة لا تهتك . ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام ، وقد أنشده في اللسان شاهدا لذلك - قول زهير :
جعلن القنان عن يمين وحزنه وكم بالقنان من محل ومحرم
وقول الآخر :
وإذ فتك النعمان بالناس محرما فمليء من عوف بن كعب سلاسله
وقول الراعي :
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ودعا فلم أر مثله مقتولا
فتفرقت من بعد ذاك عصاهم شققا وأصبح سيفهم مسلولا
ويروى : فلم أر مثله مخذولا ، فقوله : قتلوا ابن عفان الخليفة محرما : أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة ، وقيل المعنى : أنهم قتلوه في حرم المدينة ; لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك ، سواء كانت زمانية ، أو مكانية أو غير ذلك .
وقال بعض أهل اللغة ، منهم : إن معنى قول الراعي : محرما في بيته [ ص: 22 ] المذكور كونه في حرمة الإسلام ، وذمته التي يجب حفظها ، ويحرم انتهاكها وأنه لم يحل من نفسه شيئا يستوجب به القتل ، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير ، قول الأصمعي عدي بن زيد :
قتلوا بليل محرما غادروه لم يمتع بكفن كسرى
يريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز ، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به ، حين ملكوه عليهم ، وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئا يستوجب به منهم القتل . وذلك هو مراده بقوله : محرما ، وعلى تفسير قول : وهو محرم بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس ، وبين حديث ابن عباس ميمونة وأبي رافع ، ولو فرضنا أن تفسير حديث بما ذكر ليس بمتعين وليس بظاهر كل الظهور ، وأن التعارض بين الحديثين باق ، والمصير إلى الترجيح إذا واجب . وحديث ابن عباس ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ، لأن ابن عباس ميمونة هي صاحبة القصة ، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره . وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره ، لأنه أعرف بالحال من غيره ، والأصوليون يمثلون له بحديث ميمونة المذكور ، مع حديث . وإليه أشار في " مراقي السعود " في مبحث الترجيح ، باعتبار حال الراوي بقوله عاطفا على ما ترجح به رواية أحد الراويين على رواية الآخر : ابن عباس
أو راويا باللفظ أو ذا الواقع وكون من رواه غير مانع
ومحل الشاهد منه قوله : أو ذا الواقع : أي يقدم خبر ذي الواقع المروي على خبر غيره كخبر ميمونة ، مع خبر ومما يرجح به حديث ابن عباس أبي رافع على حديث : أن ابن عباس أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه ، فهو مباشر للواقعة ، ليس كذلك ، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر لما روى على خبر غيره ; لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره ، والأصوليون يمثلون له بخبر وابن عباس أبي رافع المذكور : أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال ، قال : وكنت الرسول فيما بينهما ، مع حديث المذكور : " ابن عباس " . أنه تزوجها وهو محرم
ومما يرجح به حديث ميمونة ، وحديث أبي رافع معا ، على حديث : أن ابن عباس ميمونة ، وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمل الحديث المذكور ، ليس ببالغ وقت التحمل . وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله ; لأن البالغ أضبط من الصبي لما تحمل ، وللاختلاف في قبول [ ص: 23 ] خبر المتحمل ، قبل البلوغ من الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ ، وإن كان الراجح قبول خبر المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ ; لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه ، وإلى تقديم خبر الراوي المباشر على خبر غيره ، وتقديم خبر المتحمل بعد البلوغ على خبر المتحمل قبله . وابن عباس
أشار في " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار حال الراوي ، بقوله عاطفا على ما يرجح أحد الخبرين :
أو كونه مباشرا أو كلفا أو غير ذي اسمين للأمن من خفا
فإن قيل : يرجح حديث ، بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحيهما . ومعلوم أن ما اتفق عليه ابن عباس مسلم ، أرجح مما انفرد به والبخاري مسلم ، وهو حديث ميمونة ، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد ، وهو حديث أبي رافع .
فالجواب : أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين صحة الحديث ، إلى ، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعا لم يمنع ذلك من ترجيح حديث ابن عباس ميمونة وأبي رافع عليه ; لأنهما أعلم بحال الواقعة منه ; لأن ميمونة صاحبة الواقعة ، وأبو رافع هو الرسول المباشر لذلك . فلنفرض أن قال ذلك ، وأن ابن عباس أبا رافع وميمونة خلفاه ، وهما أعلم بالحال منه ; لأن لكل منهما تعلقا خاصا بنفس الواقعة ليس مثله . لابن عباس
ومن المرجحات التي رجح بها بعض العلماء حديث تزوجه - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو حلال على حديث تزوجه إياها ، وهو محرم ، أن الأول : رواه أبو رافع ، وميمونة . والثاني : رواه وحده ، وما رواه الاثنان أرجح مما رواه الواحد كما هو مقرر في الأصول ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي : ابن عباس
وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية
كما تقدم في سورة البقرة . ولكن هذا الترجيح المذكور يرده ما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " ، ولفظه : فالمشهور عن : " ابن عباس " وصح نحوه عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم عائشة . انتهى منه . وأبي هريرة
وعلى تقدير صحة ما ذكره ابن حجر فمن روى أن تزويجها في حالة الإحرام - أكثر .
[ ص: 24 ] فإن قيل : يرجح حديثهم إذا بالكثرة .
فالجواب : أنهم وإن كثروا فميمونة ، وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم ، والمرجحات يرجح بعضها على بعض ، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن ، ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة - رضي الله عنها - عن نفسها ، وأخبر به الرسول بينها ، وبين زوجها - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبر به غيرهما ، وأشار في " مراقي السعود " إلى ما ذكرنا بقوله :
قطب رحاها قوة المظنه فهي لدى تعارض مئنه
ومن أقوى الأدلة الدالة على أن حديث ، لا تنهض به الحجة ، على جواز عقد النكاح في حال الإحرام هو أنا لو سلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ابن عباس ميمونة ، وهو محرم ، لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة إلى أمته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره من حديث - رضي الله عنه - ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة . والأظهر دخوله هو - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العموم ، فإذا فعل فعلا يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول ، دل على أن ذلك الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل . فيكون خاصا به - صلى الله عليه وسلم - . عثمان بن عفان
وقد تقرر في الأصول : أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح ، إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا يخالفه كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم القولي ، فيكون ذلك الفعل خاصا به - صلى الله عليه وسلم - . وقد أشار صاحب " مراقي السعود " إلى ذلك في كتاب السنة بقوله :
في حقه القول بفعل خصا إن يك فيه القول ليس نصا
فإن قيل : لا حجة في حديث عثمان المذكور في صحيح مسلم ، على منع عقد النكاح في حال الإحرام ; لأن المراد بالنكاح فيه وطء الزوجة ، وهو حرام في حال الإحرام إجماعا ، وليس المراد به العقد .
فالجواب من أوجه :
الأول : أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد به عقد النكاح ، لا الوطء . الأولى : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث المذكور : " " فقوله : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح " بضم الياء ، دليل على أن المراد : لا يزوج ، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك [ ص: 25 ] الوطء ; لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام ، وطلب الزوج وطء زوجه في حال إحرام وليها ، فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعا ، فدل ذلك على أن المراد بقوله : " ولا ينكح " ليس الوطء بل التزويج ، كما هو ظاهر القرينة الثانية : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال أيضا : " ولا يخطب " ، والمراد خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها ، وذلك دليل على أن المراد العقد ، لأنه هو الذي يطلب بالخطبة ، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم . ولا ينكح
الوجه الثاني : أن راوي الحديث ، وهو من أعلم الناس بمعناه ، فسره بأن المراد بقوله : " ولا ينكح " : أي لا يزوج ; لأن السبب الذي أورد فيه الحديث ، هو أنه أرسل له أبان بن عثمان عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير ، فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام ، ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث ، بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء .
الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الأحاديث ، والآثار الدالة على منع التزويج في حال الإحرام ، كحديث ، عند ابن عمر أحمد : أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل ، وهو خارج من مكة : فأراد أن يعتمر أو يحج ، قال : لا تتزوجها وأنت محرم ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، ا هـ .
فتراه صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام التزويج .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في حديث هذا : في إسناده ابن عمر أيوب بن عيينة ، وهو ضعيف وقد وثق ، وكالأثر الذي رواه مالك والبيهقي ، عن والدارقطني أبي غطفان بن طريف : أن أباه طريفا تزوج امرأة ، وهو محرم فرد نكاحه ، ا هـ . عمر بن الخطاب
وذلك دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج ولا يخصه بالوطء . وقد روى البيهقي في " السنن الكبرى " بإسناده عن الحسن ، عن علي قال : من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته .
وروى بإسناده أيضا عن عن أبيه : أن جعفر بن محمد عليا - رضي الله عنه - قال : لا ينكح المحرم ، فإن نكح رد نكاحه . وروي بإسناده أيضا عن شوذب مولى زيد بن ثابت : أنه تزوج ، وهو محرم ، ففرق بينهما . زيد بن ثابت
[ ص: 26 ] قال : وروينا في ذلك عن - رضي الله عنهما - وروي بإسناده أيضا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قدامة بن موسى قال : تزوجت ، وأنا محرم فسألت فقال : يفرق بينهما ، وروي بإسناده أيضا عن سعيد بن المسيب : أن رجلا تزوج ، وهو محرم فأجمع سعيد بن المسيب أهل المدينة على أن يفرق بينهما .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل ، هو أن إحرام أحد الزوجين أو الولي مانع من عقد النكاح ; لحديث عثمان الثابت في صحيح مسلم ، ولما قدمنا من الآثار الدالة على ذلك ، ولم يثبت في كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يعارض ذلك الحديث . وحديث معارض بحديث ابن عباس ميمونة ، وأبي رافع ، وقد قدمنا لك أوجه ترجيحهما عليه . ولو فرضنا أن حديث ، لم يعارضه معارض ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ابن عباس ميمونة ، وهو محرم . فهذا فعل خاص لا يعارض عموما قوليا لوجوب تخصيص العموم القولي المذكور بذلك الفعل كما تقدم إيضاحه .
أما ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ابن بشار ، ثنا ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن رجل ، عن قال : وهم سعيد بن المسيب في تزويج ابن عباس ميمونة وهو محرم ، فلا تنهض به حجة على توهيم ; لأن الراوي عن ابن عباس سعيد ، لم تعرف عينه كما ترى ، وما احتج به كل واحد من المتنازعين في هذه المسألة من الأقيسة كقياس من أجاز النكاح في الإحرام ، النكاح على شراء الأمة في الإحرام لقصد الوطء ، وكقياس من منعه النكاح في الإحرام على نكاح المعتدة بجامع أن كلا منهما لا يعقبه جواز التلذذ ; كالوطء والقبلة تركناه وتركنا مناقشته ، لأن هذه المسألة من المسائل المنصوصة فلا حاجة فيها إلى القياس ، مع أن كل الأقيسة التي استدل بها الطرفان لا تنهض بها حجة .