[ ص: 236 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا وحجة من قال : لا يلزمه شيء : هو حديث نذر فيمن نذر نذرا لا يلزم الوفاء به ، هل تلزمه كفارة يمين ، أو لا يلزمه شيء ؟ أبي إسرائيل ، أنه لا يقعد ولا يتكلم ، ولا يستظل ، وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا : أنه لا يفي بهذا النذر ، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين . وقد قدمنا هذا في سورة " مريم " ، موضحا . وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة ، على من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه . فقد قال مالك لما ذكره : ولم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكفارة ، وأما الذين قالوا : إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين ، فقد احتجوا بما رواه مسلم ، في صحيحه : وحدثني هارون بن سعيد الأيلي ، ، ويونس بن عبد الأعلى وأحمد بن عيسى ، قال يونس : أخبرنا وقال الآخران : حدثنا ابن وهب ، أخبرني ، عن عمرو بن الحارث كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن شماسة ، عن أبي الخير ، عن - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عقبة بن عامر " اهـ ، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به . كفارة النذر كفارة اليمين
وقال النووي في " شرح مسلم " : اختلف العلماء في المراد به ، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج ، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا : إن كلمت زيدا مثلا ، فلله علي حجة ، أو غيرها ، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين ، وبين ما التزمه . هذا هو الصحيح في مذهبنا ، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله : علي نذر ، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية ، كمن نذر أن يشرب الخمر ، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر ، وقالوا : هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم ، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ كلام النووي .
ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى : وليوفوا نذورهم ، فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به ، وبين شيء آخر .
والأظهر عندي في معنى الحديث أن من كأن يقول : علي لله نذر ، أنه تلزمه كفارة يمين ، لما رواه نذر نذرا مطلقا ، ابن ماجه وصححه ، عن والترمذي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عقبة بن عامر " ، وروى نحوه كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين أبو داود ، ، عن وابن ماجه ، وفي الحديثين بيان المراد بحديث ابن عباس مسلم ، بأن المراد به : النذر [ ص: 237 ] المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره بل أطلقه ، والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام ، كما قدمناه مرارا ، والمطلق يحمل على المقيد .
ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه . وأنزل الله في ذلك : لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، قال الله بعد ذلك : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين ، وكذلك قال وغيره : بلزوم كفارة اليمين ، على القول بأنه حرم جاريته ، والأقوال فيمن حرم زوجته ، أو جاريته ، أو شيئا من الحلال معروفة عند أهل العلم . فغير الزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولا واحدا ، والخلاف في لزوم كفارة اليمين ، وعدم لزومها ، وظاهر الآية لزومها ، وبعض العلماء يقول : لا يلزم فيه شيء ، وهو مذهب ابن عباس مالك وأصحابه ، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته ، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهبا معروفة في محلها ، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار ; لأن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فهو بمثابة ما لو قال لها : أنت حرام ، والظهار نص الله في كتابه ، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة " المجادلة " .
أما فقد قدمنا القول ، بأن فيه كفارة يمين ، والمراد بنذر اللجاج : النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله . نذر اللجاج
قال في " المغني " : وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين ، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا ، أو يحث به على شيء مثل أن يقول : إن كلمت زيدا ، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة ، فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه ، فلا يلزمه شيء ، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ، ويسمى نذر اللجاج ، والغضب ، ولا يتعين الوفاء به ، ثم قال : وهذا قول ابن قدامة عمر ، وابن عباس ، وابن عمر وعائشة ، ، وحفصة ، وبه قال وزينب بنت أبي سلمة عطاء ، ، وطاوس وعكرمة ، والقاسم ، والحسن ، ، وجابر بن زيد والنخعي ، وقتادة ، وعبد الله بن شريك ، ، والشافعي والعنبري ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، ، وأبو ثور وابن المنذر ، وقال : لا شيء في الحلف بالحج ، وعن سعيد بن المسيب ، الشعبي والحارث العكلي ، وحماد ، والحكم : لا شيء في الحلف بصدقة ماله ; لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم ، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه ; لأنه لم يخرجه مخرج القربة ، وإنما التزمه على طريق [ ص: 238 ] العقوبة ، فلم يلزمه . وقال أبو حنيفة ومالك : يلزمه الوفاء بنذره ; لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر . وروي نحو ذلك عن . الشعبي
ولنا ما روى قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " عمران بن حصين " ، رواه لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين ، سعيد بن منصور والجوزجاني في المترجم . وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " ، إلى أن قال : وعن من حلف بالمشي والهدي ، أو جعل ماله في سبيل الله ، أو في المساكين ، أو في رتاج الكعبة ، فكفارته كفارة يمين أحمد رواية ثانية : أنه تتعين الكفارة ، ولا يجزئه الوفاء بنذره . وهو قول بعض أصحاب ; لأنه يمين ، انتهى محل الغرض من " المغني " ، وروى الشافعي أبو داود ، عن أن أخوين من سعيد بن المسيب الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني القسمة ، فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ، وفيما لا تملك ولا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة رحم " ، اهـ رواه " لا يمين عليك أبو داود ، : لم يصح سماعه من وسعيد بن المسيب عمر . قاله بعضهم : وعليه فهو من مراسيل سعيد ، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - ، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد من عمر ، وأنه قال : إن لم نقبل سعيدا ، عن عمر ، فمن يقبل . والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب " تهذيب التهذيب " ، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر ، وحديث سعيد المذكور عن عمر : إما متصل ، وإما مرسل من مراسيل سعيد ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولكن لم يسمع من سعيد بن المسيب ، فهو منقطع ، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب عائشة : أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة . فقالت : يكفر عن اليمين . أخرجه مالك ، والبيهقي بسند صحيح . وصححه اهـ . ولفظ ابن السكن مالك في " الموطأ " : فقالت عائشة - رضي الله عنها - : يكفره ما يكفر اليمين ، وليس في " الموطأ " أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه : أنها سئلت عن رجل قال : مالي في رتاج الكعبة وهو بابها وهو براء مكسورة ، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم .
وهذا الذي ذكرنا هو : حاصل حجة من قال : إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين ، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا ، خلافا لمن قال : لا شيء فيه . وأما فلا خلاف في [ ص: 239 ] أنه حرام ، وأن الوفاء به ممنوع ، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به ، فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه ، وعن نذر المعصية أحمد والثوري وإسحاق ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية : فيه الكفارة . وذكر الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك ، واحتج من قال : بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة الواردة بأنه : " " ، ونفي نذر المعصية مطلقا يدل على نفي أثره ، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته ; لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع . وإن قلنا : إن الصيغة في قوله : " لا نذر في معصية " ، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية ، فالنهي يقتضي الفساد ، وإذا فسد المنذور بالنهي بطل معه تأثيره في الكفارة . قالوا : والأصل براءة الذمة من الكفارة . قالوا : ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه : " لا نذر في معصية " . قال المجد في " المنتقى " : رواه لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله أحمد ، وأبو داود . وفي لفظ عند أحمد : " " ، وهو من رواية إنما النذر ما ابتغي به وجه الله ، عن أبيه ، عن جده . وفي إسناده مناقشات تركناها اختصارا ، واحتج من قال : بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك . عمرو بن شعيب
منها : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ، قال المجد في " المنتقى " : رواه الخمسة ، واحتج به لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " أحمد ، وإسحاق . ومعلوم أن مراده بالخمسة : الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، ولفظ أبي داود في هذا الحديث :
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر ، ثنا ، عن عبد الله بن المبارك يونس ، عن ، عن الزهري أبي سلمة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين
حدثنا قال : ثنا ابن السرح وهب عن يونس ، عن بمعناه . وإسناده قال ابن شهاب أبو داود : سمعت أحمد بن شبويه ، يقول : قال : يعني في هذا الحديث : حدث ابن المبارك أبو سلمة ، فدل ذلك على أن لم يسمعه من الزهري أبي سلمة ، وقال أحمد بن محمد : وتصديق ذلك : ما حدثنا أيوب ، يعني ابن سليمان ، قال أبو داود : سمعت يقول : أفسدوا علينا هذا الحديث ، قيل له : وصح إفساده عندك ، وهل رواه غير أحمد بن حنبل ؟ قال : ابن أبي أويس أيوب كان أمثل منه ، يعني : أيوب بن سليمان بن بلال ، وقد رواه أيوب .
حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، ثنا أيوب بن سليمان ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن ، عن سليمان بن بلال ابن أبي عتيق ، عن وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب سليمان بن [ ص: 240 ] أرقم أن أخبره ، عن يحيى بن أبي كثير أبي سلمة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " ، قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين أحمد بن محمد المروزي : إنما الحديث حديث علي بن المبارك ، عن ، عن يحيى بن أبي كثير محمد بن الزبير ، عن أبيه ، عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن عمران بن حصين سليمان بن أرقم وهم فيه ، وحمله عنه ، وأرسله عن الزهري أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها . قال أبو داود : روى بقية عن ، عن الأوزاعي يحيى ، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اهـ من سنن أبي داود بلفظه . وفيه سوء ظن كثير ، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين : وهما بالزهري سليمان بن أرقم ، ، وأرسله عن ويحيى بن أبي كثير أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور ، لا يصح ; لأن لم يسمع هذا الحديث من الزهري أبي سلمة ، ومما يقوي سوء الظن المذكور أن بالزهري سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه ، فحذف المتروك . ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية ، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها ، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده . وما ذكره بعضهم : من أن الثوري كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما . وإن كان ضعيفا عند غيرهما . ومن المستبعد أن يكون والأعمش يحسن الظن الزهري بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به .
والحاصل أن لزوم الكفارة في نذر المعصية ، جاءت فيه أحاديث متعددة ، لا يخلو شيء منها من كلام . وقد يقوي بعضها بعضا .
وقال الشوكاني : قال النووي في " الروضة " : حديث " " ، ضعيف باتفاق المحدثين . قال الحافظ : قلت : قد صححه لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين ، الطحاوي ، فأين الاتفاق . انتهى منه . وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه ، ومناقشتها اختصارا . والأحوط لزوم الكفارة ; لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب . فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية ، فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع ، ومن لم يخرجها بقي مطالبا بها على قول وأبو علي بن السكن أحمد ، ومن ذكرنا معه .