الأول : أن تكون بمعنى : بل الإضرابية .
الثاني : أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار .
الثالث : أن تكون بمعناهما معا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار ، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها ، خلافا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى : بل في قوله :
وبانقطاع وبمعنى بل وفت إن تك مما قيدت به خلت
ومراده بخلوها مما قيدت به : ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين ، فإن سبقتها إحداهما ، فهي المتصلة كما تقدم قريبا ، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنا للإضراب عما قبله إضرابا انتقاليا ، مع معنى استفهام الإنكار ، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم : أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - به جنة أي : جنون يعنون : أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون ، قبحهم الله ما أجحدهم للحق ! وما أكفرهم ! ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله : بل جاءهم بالحق [ 23 \ 70 ] فالإضراب ببل إبطالي .
والمعنى : ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح ، المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل ، أنه حق ، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق ، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] وقوله تعالى : فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون [ 52 \ 29 ] وهذا الجنون الذي افتري على آخر الأنبياء ، افتري أيضا على أولهم ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه : إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين [ 23 \ 25 ] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولا إلا قال قومه : إنه ساحر ، أو مجنون ، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطؤ أقوالهم لرسلهم عليه ، وذلك في قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 52 - 53 ] فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به ; لاختلاف أزمنتهم ، وأمكنتهم ، ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان ، وقد أوضح هذا المعنى في سورة [ ص: 341 ] البقرة في قوله كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم ، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان ، وكراهية الحق وقوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] ذكر نحو معناه في قوله تعالى : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون وقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية [ 22 \ 72 ] وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم ، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق ، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق ، أنهم يمتنعون من سماعه ، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه ، كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به ، وهو نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، من الحق ، والدعوة إليه ، وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] فترى بعضهم ينهى بعضا عن سماعه ، ويأمرهم باللغو فيه ، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق ، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل .
وهذه الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال : قوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] يفهم من مفهوم مخالفته ، أن قليلا من الكفار ، ليسوا كارهين للحق ، وهذا السؤال وارد أيضا على آية الزخرف التي ذكرنا آنفا ، وهي قوله تعالى : ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] .
والجواب عن هذا السؤال : هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلا من الكفار ، كانوا لا يكرهون الحق ، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق ، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم ، وأن يقولوا صبؤوا وفارقوا دين آبائهم ، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق ، الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله :
اصدع بأمرك ما عليك غضاضة
الأبيات وقال فيها : [ ص: 342 ]
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - أيضا :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعني بقول الأباطل
وقد بين أبو طالب في شعره : أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق ، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله :
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا