المسألة السادسة والعشرون : في الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفى منه الحق في حكم من قتل أو أصاب حدا خارج الحرم ، أو لا يستوفى منه حتى يخرج من الحرم ؟
اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب :
الأول : أنه يستوفى منه الحق قصاصا كان أو حدا قتلا كان أو غيره .
الثاني : أنه لا يستوفى منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم ، سواء كان قتلا أو غيره .
الثالث : أنه يستوفى منه كل شيء من الحدود إلا القتل ، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم ، ولا في قصاص ، والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم .
قال في " المغني " : وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج ابن قدامة الحرم ، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه ، وهذا قول ، ابن عباس وعطاء ، ، وعبيد بن عمير ، والزهري وإسحاق ، ومجاهد ، ، والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه .
وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس ، فعن أحمد فيه روايتان :
إحداهما : لا يستوفى من الملتجئ إلى الحرم فيه .
والثانية : يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام " : " ، وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ، ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب ، فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام فلا يسفك فيها دم الخرقي ، وهي ظاهر المذهب .
قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في [ ص: 461 ] الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته ، حتى يخرج منه إلى أن قال : وقال مالك والشافعي وابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني ، وقطع السارق ، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان ، اهـ محل الغرض منه .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم ، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم ، ويوعظ ، ويذكر حتى يخرج ، وقال أبو يوسف : يخرج مضطرا إلى الحل ، وفعله ابن الزبير .
وروى من طريق ابن أبي شيبة عن طاوس : من أصاب حدا ثم دخل ابن عباس الحرم لم يجالس ولم يبايع ، وعن مالك ، : يجوز إقامة الحد مطلقا فيها ; لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن ، اهـ محل الغرض منه . والشافعي
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " مشيرا إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم ، وقد ذهب إلى ذلك مالك وهو اختيار والشافعي ابن المنذر ، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان ، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والحنفية ، وسائر أهل العراق ، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة : إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما ، ولا يقيم به حدا حتى يخرج منه من لجأ إليه ، اهـ محل الغرض منه .
وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم ومناقشتها ، أما الذين قالوا : يستوفى منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك ، ، والشافعي وابن المنذر ومن وافقهم ، فقد استدلوا بأدلة :
منها أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص ، ليس في شيء منها تخصيص مكان دون مكان ، ولا زمان دون زمان ، وظاهرها شمول الحرم وغيره ، قالوا : والعمل بظواهر النصوص واجب ، ولا سيما إذا كثرت .
ومنها أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة [ ص: 462 ] الحرم ; لأن أحق البلاد بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمه ، وطاعة الله في حرمه ليس فيها انتهاك له كما ترى .
أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ " الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخزية ، فهو استدلال في غاية السقوط; لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط غلط غلطا فاحشا ; لأنه من كلام إن كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما ، قال عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا البخاري قتيبة ، حدثنا الليث ، عن ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري أبي شريح العدوي أنه قال وهو يبعث البعوث إلى لعمرو بن سعيد مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغد من يوم الفتح ، فسمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال " : مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب " ، فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، وهذا صريح في أنه من كلام إن يعارض به عمرو بن سعيد الأشدق أبا شريح لما ذكر له كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق ، ولا سيما في حال معارضته به لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح - رضي الله عنه - وفي صحيح مسلم - رحمه الله - مثل ما في من حديث البخاري أبي شريح إسنادا ومتنا .
وإذا تقرر أن القائل : إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ; لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار أمر بقتل الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له فيه الحرم ، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرمتها عادت كما كانت ، ففعله - صلى الله عليه وسلم - في وقت إحلال الحرم له ساعة من نهار ، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة ، كما ترى .
وأما الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص [ ص: 463 ] في غير النفس ، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه فيه " : " الحديث ، قالوا : تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره ، ولا يقاس غيره عليه ; لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس ، فيبقى غير القتل داخلا في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان ، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح ، ويؤيده أن قوله " : دما " نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد ، أو غير ذلك . فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما
واستدلوا أيضا بقول - رضي الله عنهما - : لو وجدت قاتل ابن عمر عمر في الحرم ما هجته ، قال المجد في المنتقى : حكاه أحمد في رواية الأثرم .
وأما الذين قالوا بأن الحرم لا يستوفى فيه شيء من الحدود ، ولا من القصاص قتلا كان أو غيره ، فقد استدلوا بقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، قالوا : وجملة ومن دخله كان آمنا خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام ، يستوجب أمن من دخل الحرم ، وعدم التعرض له بسوء ، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم .
واستدلوا أيضا بآثار عن بعض الصحابة ، كما روي عن ، أنه قال في الذي يصيب حدا ، ثم يلجأ إلى ابن عباس الحرم : يقام عليه الحد ، إذا خرج من الحرم ، قال المجد في " المنتقى " : حكاه أحمد في رواية الأثرم ، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال : يستوفى من اللاجئ إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعا ، قتلا كان أو غيره ; لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله ، وفعل ذلك طاعة ، وتقرب إليه وليس في طاعة الله وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه ، وأجراها على الأصول ، وهو أولاها ، هو الجمع بين الأدلة ، وذلك بقول من قال : يضيق على الجاني اللاجئ إلى الحرم ، فلا يباع له ، ولا يشترى منه ، ولا يجالس ، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج ، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم ; لأن هذا القول جامع بين النصوص ، فقد جمع بين استيفاء الحق ، وكون ذلك ليس في الحرم ، وفي هذا خروج من الخلاف ، [ ص: 464 ] والعلم عند الله تعالى ، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية .