[ ص: 379 ] إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم قوله تعالى : ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم
الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، قوم كفروا بعد إيمانهم .
وقال بعض العلماء : هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به .
وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه ، وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم .
وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ 2 \ 89 ] ; لأن قوله : فلما جاءهم ما عرفوا مبين معنى قوله : من بعد ما تبين لهم الهدى ، وقوله : كفروا وصدوكم مبين معنى قوله : ارتدوا على أدبارهم .
وقال بعض العلماء : نزلت الآية المذكورة في المنافقين .
وقد بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى ، هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيرا إلى علة ذلك : الشيطان سول لهم أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين ، وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر .
قال : سول سهل لهم ركوب العظائم من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا ، الزمخشري وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني . انتهى .
[ ص: 380 ] وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم بطول الأعمار ; لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي .
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان : قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل ، وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان .
وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل ، ومنه قوله تعالى : وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 183 ] ، وقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [ 3 \ 178 ] .
ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار ، كما قال تعالى : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] .
وقال تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك إلى قوله : وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] .
وقال بعض العلماء : ضمير الفاعل في قوله : وأملى لهم على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى .
والمعنى : الشيطان سول لهم أي سهل لهم الكفر والمعاصي ، وزين ذلك وحسنه لهم ، والله - جل وعلا - أملى لهم : أي أمهلهم إمهال استدراج .
وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله ، قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم [ 8 \ 48 ] ، وقوله تعالى : تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم [ 16 \ 63 ] ، وقوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجا : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 381 ] ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله تعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] ، وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، وقوله تعالى : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وحده من السبعة " وأملي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام ، بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف ، فيه الوجهان المذكوران آنفا في فاعل : وأملى لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل .
وقد ذكرنا قريبا ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقوله في إملاء الله لهم : وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 45 ] ، كما تقدم قريبا .
والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر راجعة إلى قوله تعالى : الشيطان سول لهم وأملى لهم .
أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم : قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر .
وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون .
والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل ، أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .
وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة الشورى في الكلام على قوله [ ص: 382 ] تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك .
وبينا في سورة الشورى أيضا شدة ، وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى : كراهة الكفار لما نزل الله كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] ، وقد قدمنا مرارا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والله يعلم إسرارهم قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " أسرارهم " بفتح الهمزة ، جمع سر .
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إسرارهم بكسر الهمزة مصدر أسر كقوله : وأسررت لهم إسرارا [ 71 \ 9 ] ، وقد قالوا لهم ذلك سرا فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم أي : فكيف يكون حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة ؟ أي قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الملائكة يتوفون الكفار وهم يضربون وجوههم وأدبارهم جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنفال : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 8 \ 50 ] ، وقوله في الأنعام : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون [ 6 \ 93 ] .
فقوله : باسطو أيديهم أي بالضرب المذكور .
والإشارة في قوله : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي أعني قوله : يضربون وجوههم ، أي ذلك بضرب وقت الموت واقع بسبب بأنهم اتبعوا ما أسخط الله أي أغضبه من الكفر به ، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله .
والإسخاط استجلاب السخط ، وهو الغضب هنا .
[ ص: 383 ] وقوله : وكرهوا رضوانه لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله ; لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزل ، فاستلزمت كراهة ما نزل كراهة رضوانه لأن رضوانه فيما نزل ، ومن أطاع كارهه ، فهو ككارهه .
وقوله : فأحبط أعمالهم أي أبطلها ، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، وقد أوضحنا المقام في ذلك إيضاحا تاما في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [ 17 \ 19 ] .
وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] .
واعلم أن هذه الآية الكريمة ، قد قال بعض العلماء : إنها نزلت في المنافقين .
وقال بعضهم : إنها نزلت في اليهود ، وإن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ، وهو عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعويق عن الجهاد ونحو ذلك .
وبعضهم يقول : إن الذين اتبعوا ما أسخط الله هم اليهود حين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرفوه وكرهوا رضوانه ، وهو الإيمان به - صلى الله عليه وسلم .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها ، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله .
مسألة
اعلم أن كل مسلم ، يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات ، من سورة محمد وتدبرها ، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد ; لأن كثيرا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد .
لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن .
[ ص: 384 ] فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله : سنطيعكم في بعض الأمر ، فهو داخل في وعيد الآية .
وأحرى من ذلك من يقول لهم : سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله ، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم .
وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ، وأنه محبط أعمالهم .
فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا : سنطيعكم في بعض الأمر .