قال ابن كثير في تفسيره : هي المخالفة والمضادة ، وهي صادقة على الكفر ، وعلى قطع الطريق ، وإخافة السبيل ، وكذا الإفساد في الأرض ، يطلق على أنواع [ ص: 394 ] من الشر ، وقد قال الله تعالى : المحاربة وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [ 2 \ 205 ] .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن ، ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلال هي : أن يقتلوا ، أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم ، وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض ، وظاهر هذه الآية الكريمة : أن المحارب الذي يقطع الطريق ، ويخيف السبيل ، كما هو مدلول ، أو لأنها تدل على التخيير . الإمام مخير فيها ، يفعل ما شاء منها بالمحارب
ونظيره في القرآن قوله تعالى : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] ، وقوله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة [ 5 \ 89 ] ، وقوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] .
وكون الإمام مخيرا بينهما مطلقا من غير تفصيل ، هو مذهب مالك ، وبه قال ، سعيد بن المسيب ومجاهد ، وعطاء ، ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي والضحاك ، كما نقله عنهم ، وغيره ، وهو رواية ابن جرير ، عن ابن أبي طلحة ، ونقله ابن عباس القرطبي ، عن ، أبي ثور ، وسعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ومجاهد ، والضحاك ، والنخعي ، ومالك ، وقال : وهو مروي عن . ابن عباس
ورجح المالكية هذا القول بأن اللفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف ، لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال ، والافتقار إلى تقدير محذوف ، فالاستقلال مقدم ; لأنه هو الأصل ، إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
كذاك ما قابل ذا اعتلال من التأصل والاستقلال
إلى قوله : [ الرجز ]كذاك ترتيب لإيجاب العمل بما له الرجحان مما يحتمل
قاله ابن كثير ، ونقله القرطبي ، ، عن وابن جرير ، ابن عباس وأبي مجلز ، ، وغيرهم . وعطاء الخراساني
ونقل القرطبي ، عن أبي حنيفة ، إذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل ، فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله ، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه ، ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية ، هو القول الأول ; لأن ، وتفسير الصحابي لهذا بذلك ، ليس له حكم الرفع ، لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه ، ولا نعلم أحدا روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة ، خبرا مرفوعا ، إلا ما رواه الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب ، أو سنة في تفسيره عن ابن جرير أنس :
حدثنا علي بن سهل ، قال : حدثنا ، عن الوليد بن مسلم ، عن ابن لهيعة : أن يزيد بن أبي حبيب كتب إلى عبد الملك بن مروان ، يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس بن مالك أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، إلى أن قال : قال أنس : فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سرق ، وأخاف السبيل ، فاقطع يده بسرقته ، ورجله بإخافته ، ومن قتل فاقتله ، ومن قتل وأخاف السبيل ، واستحل الفرج الحرام ، فاصلبه " ، وهذا الحديث لو كان ثابتا لكان قاطعا للنزاع ، ولكن فيه ، ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه ، ولا يحتج به ، وهذا الحديث ليس راويه عنه ابن لهيعة ، ولا ابن المبارك ابن وهب ; لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما ، نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه ; لأنه قال في سوقه للحديث المذكور : وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر ، وذلك ما حدثنا به وابن جرير علي بن سهل ، حدثنا ، إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفا ، وذكرنا معه محل الغرض من المتن ، ولكن هذا الحديث ، وإن كان ضعيفا ، فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم ، ونسبه الوليد بن مسلم ابن كثير للجمهور .
واعلم أن أو يصلبوا ، اختلف فيه العلماء ، فقيل : يصلب حيا ، ويمنع من الشراب والطعام حتى يموت ، وقيل : يصلب حيا ، ثم يقتل برمح [ ص: 396 ] ونحوه ، مصلوبا ، وقيل : يقتل أولا ، ثم يصلب بعد القتل ، وقيل : ينزل بعد ثلاثة أيام ، وقيل : يترك حتى يسيل صديده ، والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمنا يحصل فيه اشتهار ذلك ; لأن صلبه ردع لغيره . الصلب المذكور في قوله :
وكذلك قوله : أو ينفوا من الأرض ، اختلف العلماء في فيه أيضا ، فقال بعضهم : معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم ، فيقام عليهم الحد ، أو يهربوا من دار الإسلام ، وهذا القول رواه المراد بالنفي ، عن ابن جرير ، ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن جبير والضحاك ، ، والربيع بن أنس ، والزهري ، والليث بن سعد . ومالك بن أنس
وقال آخرون : هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر ، أو يخرجهم السلطان ، أو نائبه ، من عمالته بالكلية ، وقال ، عطاء الخراساني ، وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء ، والحسن ، ، والزهري والضحاك ، ، إنهم ينفون ، ولا يخرجون من أرض الإسلام . ومقاتل بن حيان
وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن ، لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن ، فصار المسجون كأنه منفي من الأرض ، إلا من موضع استقراره ، واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك : [ الطويل ]
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
واختار ، أن المراد بالنفي في هذه الآية ، أن يخرج من بلده إلى بلد آخر ، فيسجن فيه ، وروي نحوه عن ابن جرير مالك أيضا ، وله اتجاه ; لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة ، كما يفعل بالزاني البكر ، وهذا أقرب الأقوال لظاهر الآية ; لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء ، فعلم أن المراد بالأرض أوطانهم التي تشق عليهم مفارقتها ، والله تعالى أعلم .