هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة : " ثم " التي هي للترتيب والانفصال ، وكذلك آية " حم السجدة " ، تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] . مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأنه قال فيها : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [ 75 \ 27 ] . [ ص: 206 ] ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] .
اعلم أولا أن رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " ، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك ، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء ، ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : ابن عباس أخرج منها مآءها ومرعاها الآية [ 79 \ 31 ] . وهذا الجمع الذي جمع به بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرءان العظيم ، إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه ، وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء . ابن عباس
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 21 \ 129 ] . وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال ، حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرءان العظيم ، وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرءان :
الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير ، أنه تعالى نص على ذلك في سورة " فصلت " حيث قال : وقدر فيها أقواتها [ 41 \ 11 ] ، ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] .الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا ، والدليل من القرءان على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل .
[ ص: 207 ] قوله تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة [ 7 \ 11 ] .
قوله : خلقناكم ثم صورناكم بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] ، أي مع ذلك ، فلفظة " بعد " بمعنى مع ، ونظيره قوله تعالى : عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 13 ] .
وعليه فلا إشكال في الآية ، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة ، وبها قرأ مجاهد : " والأرض مع ذلك دحاها " ، وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق منها أن " ثم " بمعنى الواو ، ومنها أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .