بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة : أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر ; أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال ، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك - ضل عنهم ; أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا ، فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده ، لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا ، [ ص: 172 ] فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر ، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم ، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، كما قال تعالى : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [ 17 \ 67 ] .
وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة ; كقوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 22 - 23 ] ، وقوله : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 63 - 64 ] ، وقوله : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، وقوله : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور [ 31 \ 32 ] ، وقوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله [ 39 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه " في سورة الأنعام " وغيرها .
ثم إن الله جل وعلا بين في هذا الموضع الذي نحن بصدده ، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله ، مع أنه قادر على إهلاكهم بعد وصولهم إلى البر ، بأن يخسف بهم جانب البر الذي يلي البحر فتبتلعهم الأرض ، أو يرسل عليهم حجارة من السماء فتهلكهم ، أو يعيدهم مرة أخرى في البحر فتغرقهم أمواجه المتلاطمة ، كما قال هنا منكرا عليهم أمنهم وكفرهم بعد وصول البر : سخافة عقول الكفار أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا [ 17 \ 68 ] وهو المطر أو الريح اللذين فيهما الحجارة أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم [ 17 \ 69 ] ; أي بسبب كفركم ، فالباء سببية ، و " ما " مصدرية . والقاصف : ريح البحار الشديدة التي تكسر المراكب وغيرها . ومنه قول أبي تمام :
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
يعني : إذا ما هبت بشدة كسرت عيدان شجر نجد ؛ رتما كان أو غيره .
[ ص: 173 ] وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا هنا من قدرته على إهلاكهم في غير البحر بخسف أو عذاب من السماء - أوضحه في مواضع أخر ; كقوله : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء الآية [ 34 \ 9 ] ، وقوله : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم الآية [ 6 \ 65 ] ، وقوله : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير [ 67 \ 16 - 17 ] ، وقوله " في قوم لوط " : إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر [ 54 \ 34 ] ، وقوله : لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 33 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل : إنها السحابة أو الريح ، وكلا القولين صحيح ; لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصبا وحصبة ، وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصبا أيضا ; ومنه قول : الفرزدق
مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
وقول لبيد :
جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
وقوله في هذه الآية : ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 96 ] ، " فعيل " بمعنى " فاعل " . أي تابعا يتبعنا بالمطالبة بثأركم ; كقوله فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها [ 91 \ 14 ، 15 ] ، أي لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك . وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعا ، ومنه قول الشماخ يصف عقابا :
تلوذ ثعالب الشرفين منها كما لاذ الغريم من التبيع
أي : كعياذ المدين من صاحب الدين الذي يطالبه بغرمه منه .
ومنه قول الآخر :
غدوا وغدت غزلانهم وكأنها ضوامن غرم لهن تبيع
أي خصمهن مطالب بدين .
ومن هذا القبيل قوله تعالى : فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان الآية [ 2 \ 178 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " " وهذا هو معنى قول إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع وغيره : " تبيعا " أي نصيرا ، وقول مجاهد : نصيرا ثائرا . ابن عباس