نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا معلقا ذلك على مشيئة [ ص: 253 ] الله الذي لا يقع شيء في العالم كائنا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا ، فقوله : ولا تقولن لشيء [ 18 \ 23 ] ، أي : لا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل إني فاعل ذلك الشيء غدا .
والمراد بالغد : ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد . ; ومنه قول ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
يعني أنه لا يعلم ما يكون في المستقبل ، إذ لا وجه لتخصيص الغد المعين بذلك ، وقوله : إلا أن يشاء الله [ 18 \ 24 ] ، إلا قائلا في ذلك إلا أن يشاء الله ، أي : معلقا بمشيئة الله ، أو لا تقولنه إلا بإن شاء الله ، أي : إلا بمشيئة الله ، وهو في موضع الحال ، يعني إلا متلبسا بمشيئة الله قائلا إن شاء الله ، قاله وغيره . الزمخشريوسبب نزول هذه الآية الكريمة : أن اليهود قالوا لقريش : سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن الروح ، وعن رجل طواف في الأرض ، ) يعنون ( ، وعن فتية لهم قصة عجيبة في الزمان الماضي ، يعنون أصحاب الكهف ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سأخبركم غدا عما سألتم عنه " ، ولم يقل إن شاء الله ، فلبث عنه الوحي مدة ، قيل خمس عشرة ليلة ، وقيل غير ذلك . فأحزنه تأخر الوحي عنه ، ثم أنزل عليه الجواب عن الأسئلة الثلاثة ، قال في الروح : ذا القرنين ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الآية [ 17 \ 85 ] ، وقال في الفتية نحن نقص عليك نبأهم بالحق الآيات [ 18 \ 13 ] إلى آخر قصتهم ، وقال في الرجل الطواف : ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا [ 18 \ 83 ] الآيات إلى آخر قصته .
فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة وسبب نزولها ، وأن الله عاتب نبيه فيها على عدم قوله إن شاء الله ، لما قال لهم " سأخبركم غدا " ، فاعلم أنه دلت آية أخرى بضميمة بيان السنة لها على أن الله عاتب نبيه سليمان على عدم قوله إن شاء الله ، كما عاتب نبيه في هذه الآية على ذلك ، بل سليمان بذلك كانت أشد ; فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث فتنة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة سليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية تسعين امرأة ، وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله " ، فقيل له - وفي رواية قال له الملك : " قل إن شاء الله " فلم يقل ، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف [ ص: 254 ] إنسان ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " ، وفي رواية : " ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " ا هـ . قال
فإذا علمت هذا فاعلم أن هذا الحديث الصحيح بين معنى قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا الآية [ 38 \ 34 ] ، وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله " إن شاء الله " ، وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصف إنسان ، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى : وألقينا على كرسيه جسدا الآية ، فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان الآية ، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان ، وطرد سليمان عن ملكه ; حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر مطرودا عن ملكه ، إلى آخر القصة ، لا يخفى أنه باطل لا أصل له ، وأنه لا يليق بمقام النبوة . فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة .
والظاهر في معنى الآية هو ما ذكرنا ، وقد دلت السنة الصحيحة عليه في الجلة ، واختاره بعض المحققين ، والعلم عند الله تعالى .