ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
و " ما " في قوله تعالى : ( على ما كذبوا ) مصدرية ( وأوذوا ) عطف على ( كذبوا ) أي فصبروا على تكذيب أقوامهم لهم وإيذائهم إياهم . والإيذاء فعل الأذى ، وهو ما يؤلم [ ص: 316 ] النفس أو البدن من قول أو فعل ، وقد أوذي الرسول - صلى الله عليه وسلم - بضروب من الإيذاء كما أوذي الرسل قبله ، آذاه المشركون في مكة بأقوالهم وأفعالهم ، واليهود والمنافقون في المدينة بقدر استطاعتهم .
وقوله تعالى : ( حتى أتاهم نصرنا ) غاية للصبر ، أي : صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء إلى أن جاءهم نصرنا العظيم بالانتقام من أقوامهم ، وإنجائنا إياهم هم ومن آمن معهم من أذاهم وكيدهم . وفيه بشارة للرسول مؤكدة للتسلية بأنه سينصره على المكذبين الظالمين من قومه ، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة البعثة ، وإيماء إلى حسن عاقبة الصبر ، فمن كان أصبر كان أجدر بالنصر إذا تساوت بين الخصمين سائر أسباب الغلب والقهر . وإضافة النصر إلى ضمير العظمة العائد على العزيز القدير تشعر بعظمة شأنه . وتشير إلى كونه من الآيات المؤيدة لرسله .
( ولا مبدل لكلمات الله ) في وعده ووعيده التي منها وعده للرسل بالنصر ، وتوعده لأعدائهم بالغلب والخذلان . ولا في غير ذلك من الشرائع والسنن التي اقتضتها الحكمة ، والمراد من هذه الكلمات هنا قوله في " سورة الصافات " : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) ( 37 : 171 - 173 ) اقرأ الآيات إلى آخر السورة ، فنفي جنس المبدل لكلمات الله مثبت لكلمته في نصر المرسلين بالدليل - أي إن ذلك النصر قد سبقت به كلمة الله وكلمات الله لا يمكن أن يبدلها مبدل ، فنصر الرسل حتم لا بد منه . وكلمات الله جنس يشمل كلمات الأخبار وإنشاء الأحكام كما سيأتي في تفسير ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ) ( 115 ) من هذه السورة . وإضافة الكلمات هنا إلى الاسم الأجل الأعظم تشعر بعلة القطع بأنه لا مبدل لها ; لأن المبدل لكلمات غيره لا بد أن تكون قدرته فوق قدرته ، وسلطانه أعلى من سلطانه . والتبديل عبارة عن جعل شيء بدلا من شيء آخر وتبديل الأقوال والكلمات نوعان : تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول ، وكلمة [ ص: 317 ] مكان كلمة . ومنه ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) ( 2 : 59 ) وتبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفوذ الوعد والوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق . والمتكلمون الذين يجوزون إخلاف الوعيد يقولون : إن لله أن يبدل ما شاء من كلماته ، وإنما يستحيل ذلك على غيره ، وتبديله إياها لا يشمله النفي في الآية ، فإن قيل لهم : قد يشمله ما هو أعم منه في هذا المعنى كقوله تعالى في " سورة ق " : ( ما يبدل القول لدي ) ( 50 : 29 ) قالوا : إن النصوص الواردة في العفو تخصص العام من نصوص الوعيد ، أو : لا نسلم أن العفو عن بعض المذنبين من قبيل التبديل ، وسيأتي بسط هذا البحث في موضع آخر .
( ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) هذا تقرير وتأكيد لما قبله ، أي : ولقد جاءك بعض نبأ المرسلين في ذلك ، أو : ولقد جاءك ما ذكر أو ذلك الذي أشير إليه من خبر التكذيب والصبر والنصر من نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل ، والنبأ الخبر أو ذو الشأن من الأخبار لا كل خبر . وقد روي أن الأنعام نزلت بعد الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل . وكلمة " نبأ " رسمت في المصحف الإمام بياء هكذا ( نبإي ) والياء كرسي للهمزة المحذوفة كالنقط ، فينطق بالهمزة دونها كما ترسم في وسط الكلمة في مثل " نبئهم " . وكان ينطق بها من لا يهمز .
ومن العبرة في الآية أن الله تعالى وعد المؤمنين ما وعد المرسلين من النصر ، فقال : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) ( 40 : 51 ) وقال : ( ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) ( 30 : 47 ) وهي نص في تعليل النصر بالإيمان . ولكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين ، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين ، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين ، ولأهوائهم لا لله ناصرين ، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين ، وإن الله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه ، وإنما ينصر المؤمن الصادق وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته ، ويتحرى الحق والعدل في حربه لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه ، يدل على ذلك أول ما نزل في شرع القتال قوله تعالى من " سورة الحج " : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) إلى قوله : ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) ( 22 : 39 ، 40 ) فأما الرسل الذين نصرهم الله ومن معهم فقد كانوا كلهم مظلومين ، وبالحق والعدل معتصمين ، ولله ناصرين . وقد اشترط مثل ذلك في نصر سائر المؤمنين ، فقال في " سورة القتال " : ( ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ( 47 : 7 ) والإيمان سبب حقيقي من أسباب النصر المعنوية ، يكون مرجحا بين من تساوت أسبابهم الأخرى ، فليس النصر به من خوارق العادات . وأما تأييد الله تعالى للرسل [ ص: 318 ] بإهلاك أقوامهم المعاندين فهو أمر آخر زائد على تأثير الإيمان في الثبات والصبر ، والاتكال على الله تعالى عند اشتداد البأس وعروض أسباب اليأس . ومن كان حظه من صفات الإيمان ولوازمه أكبر كان إلى نيل النصر أقرب إذا كان مساويا لخصمه في سائر أسباب القتال ولا سيما حسن النظام وجودة السلاح ، وقد سبق لنا كلام في هذه المسألة في مواضع من التفسير وغيره ( راجع كلمة " نصر " من فهارس أجزاء التفسير ومجلدات المنار ) .