وأما ما يترتب على ذلك من الاهتداء إلى وجه الحجة والاستدلال ، فقوله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=28977_31851فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ) إلخ . قال
الراغب : أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة ، يقال : جنه الليل ، وأجنه ، وأجن عليه . فجنه : ستره ، وأجنه : جعل له ما يجنه ، كقولك : قبرته ، وأقبرته ، وسقيته ، وأسقيته ، وجن عليه كذا ستر عليه . انتهى . ومنه الجن والجنة - بالكسر - والجنة بالضم
[ ص: 464 ] وهي الترس يستر به ما يحاول العدو ضربه من الوجه والرأس وغيرها ، والجنة - بالفتح - وهي البستان الذي يستر الشجر أرضه من الشمس . والكوكب والكوكبة واحد الكواكب ، وهي النجوم . والفلكيون يطلقون المؤنث على المجموعة المعينة منها ، والعرب تطلقه على الزهرة ، كما غلب إطلاق النجم معرفا على الثريا ، ولم ينقل إلينا تأنيث النجم ، والعامة تقول نجمة .
والمعنى أن الله تعالى لما بدأ يريه ملكوت السماوات والأرض تلك الإراءة التي عللها بما تقدم آنفا ، كان من أول أمره في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل ، وستره أو ستر عنه ما حوله من عالم الأرض نظر في ملكوت السماء ، فرأى كوكبا عظيما ممتازا على سائر الكواكب بإشراقه وجذب النظر إليه - يدل على ذلك تنكير الكوكب - وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه المشترى الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء
اليونان والروم ، وكان
قوم إبراهيم سلفهم وأئمتهم في هذه العبادة ، وعن
قتادة أنه الزهرة . فماذا قال لما رآه ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=28977قال هذا ربي ) أي مولاي ومدبر أمري ، قيل : إنه قال ذلك في ذلك في مقام النظر والاستدلال لنفسه ، وقيل : في مقام المناظرة والحجاج لقومه ، واعتمد من قال بالأول على ما روي في التفسير المأثور من عبادته - عليه الصلاة والسلام - لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه ، حتى أراه الله تعالى بعد كمال التمييز حجته على بطلان عبادتها ، والاستدلال بأفولها وتعددها وغير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها ، وأن ذلك كله كان قبل النبوة ودعوتها . ومنه قصة طويلة مروية عن
محمد بن إسحق فيها أن
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم
نمرود بن كنعان أن يقتله ، إذ كان أخبره المنجمون بأن سيولد في قريته غلام يفارق دينهم ، ويكسر أصنامهم ، فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا ، وفيها أن
إبراهيم كان يشب في اليوم كما يشب غيره في شهر ، وفي الشهر كما يشب غيره في سنة ، وأنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته أن تخرجه من المغارة ، فأخرجته عشاء ، فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض - وذكر رؤيته للكواكب ، فالقمر ، فالشمس . . . ولاشك في أن هذه القصة موضوعة لهذه المسألة ، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق أخذها عن بعض
اليهود الذين كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص ليلبسوا عليهم دينهم ، فتبطل ثقة
يهود وغيرهم بهم . وروى نحوه
أبو حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي .
والسدي المفسر كذاب معروف كما قال علماء الحديث ، واسمه
محمد بن مروان . وأما ما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من تفسير " هذا ربي " بالعبادة فلا يصح ، وهو من مراسيل
علي بن طلحة مولى بني العباس ، وقد روى عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس تفسيرا كثيرا ولم يره ، وقال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : له أشياء منكرات . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : صدوق يخطئ ،
ومعاوية بن أبي صالح الراوي عنه من رجال مسلم ، وقد لينه
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين ، وقال
أبو حاتم : لا يحتج به ، ولم يرضه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، ولا
nindex.php?page=showalam&ids=12858ابن القطان ، فكيف
[ ص: 465 ] يؤخذ بروايته عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن
إبراهيم خليل الرحمن كان في صغره مشركا ؟ وهذا إذا فرضنا أن السند إليه صحيح ! .
ومن العجيب أن
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير اختار هذا القول مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه ، وهو الذي جزم به الجمهور مع أنه كان مناظرا لقومه ، فقال ما قال تمهيدا للإنكار عليهم ، فحكى مقالتهم أولا حكاية استدرجهم بها إلى سماع حجته على بطلانها ، إذ أوهمهم أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم كر عليه بالنقض ، بانيا دليله على قاعدة الحس ونظر العقل ، وقيل : إنه استفهام إنكار أو تهكم واستهزاء حذفت أداته ، أي : أهذا ربي الذي يجب علي أن أعبده ؟ وقيل أراد : هذا ربي بزعمكم ، أو إنكم تقولون هذا ربي ، وذلك مما لا يلتئم مع ما يأتي في الشمس ، ولا يقبله الذوق .
أما
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير فاحتج أولا بالرواية ، وقد علمت أنها لا تصلح حجة على دعوى شرك
الخليل - عليه الصلاة والسلام - ولو في الصغر على أنها مطلقة - وثانيا بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر ، وسترى حسن توجيهها على الوجه الآخر . وأما الجمهور فاحتجوا بحجج كثيرة أطال الإمام
الرازي في تعدادها ، وفي أكثر ما أورده نظر ظاهر . وأقوى حجتهم السياق من حيث تشبيه إراءة الله تعالى إياه هذا الملكوت وما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه وقومه في عبادة الأصنام ، ومن إسناد هذه الإراءة إلى الله تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها ، ومن تعليل الإراءة بما تقدم ، ومن التعقيب على ذلك بمحاجة قومه ، وقوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=28977_29426فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب ، قال : لا أحب من يغيب ويحتجب ، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب ، وأشار بقوله " الآفلين " إلى أن هذا الكوكب فرد من أفراد جنس كله يغيب ويأفل ، والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقد جماله وكماله ، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة ، فإن أحب شيئا من ذلك بجاذب الشهوة دون الاختيار فلا يلبث أن يسلو عنه بنزوح الدار والاحتجاب عن الأبصار ، إلا أن يصير حبه من هوس الخيال ، وفنون الجنون والخبال ، وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله - لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح - فلا يجوز إلا أن يكون للرب الحاضر القريب ، السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يأفل ، ولا ينسى ولا يذهل ، الظاهر في كل شيء بآياته وتجليه ، الباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي فيه (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ( 6 : 103 ) ولكن تشاهده البصائر بآثار صفاته في الخلق والتقدير ، وسلطانه في التصرف والتدبير ، وما كان ليخفى على
الخليل الأول ما قاله الخليل الثاني في مقام الإحسان ،
[ ص: 466 ] وما ملته إلا عين ملته في الإسلام والإيمان ، وهو "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003313أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فكيف يعبد هذه الكواكب التي تأفل وتحجب عن عابديها ، ويخفى حالهم عليها ؟ ! .
وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان ، وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية ؛ لدلالته على الحدوث أو الإمكان ، وهو تفسير الشيء بما قد يباينه ، فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت الأفول في غروب القمرين والنجوم ، وفي استقرار الحمل ، وكذا اللقاح في الرحم ، فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني ، وهو الغيوب والخفاء . وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى آخر وهو ظاهر غير محتجب ، وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضا ، وهو غلط كسابقه ، فإن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها ، ومذهب المتأخرين من علماء الفلك - وهو الصحيح - أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي ، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليس من سبب أفولها المشاهد في شيء ، وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم ، ولا يدري شيئا من أمر عبادتهم ، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=42لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) ( 19 : 42 ) ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول ; فإن
قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية ، بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها ، وبقدمها مع حركتها ، وما زال الفلاسفة والفلكيون يقولون بقدم الحركة وأزليتها ، وعلماء الكون في هذا العصر يعدون الحركة مبدأ وجود كل شيء . وأنها ملازمة للوجود المطلق من الأزل إلى الأبد .
وقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري من أولئك النظار ، وقد قال بعد ما يأتي في القمر والشمس : ( فإن قلت ) : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ ( قلت ) : الاحتجاج بالأفول أظهر ؛ لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب . انتهى . وقال ابن المنير : إنه من عيون نكته ووجوه حسناته . انتهى . والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا ، لا برهانا نظريا جليا ، وأن وجه منافاة الربوبية فيه هو الخفاء والاحتجاب والتعدد ، وأن البزوغ والظهور لم يجعل فيه مما ينافي الربوبية ، بل بني عليه القول بها ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29622_29448من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهورا كظهور غيره من خلقه كما علم مما تقدم آنفا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=77nindex.php?page=treesubj&link=28977فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ) أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال : هذا ربي - على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما تقدم ، وقد استعملت العرب هذا الحرف في التعبير عن ابتداء طلوع النيرات وأول طلوع الناب . وفي بزغ البيطار والحاجم للجلد ، وهو تشريطه بالمبزغ ; ولذلك قالوا : إن معنى البزغ الشق ،
[ ص: 467 ] فالنيرات تشق الظلام بطلوعها ، وجعله بعضهم تشبيها بشق الناب والسن للثة ، وشق البيطار والحجام للجلد . والظاهر أن
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - رأى الكوكب في ليلة ، ورأى القمر في الليلة التالية لها كما يؤخذ من العطف بالفاء ، وذلك أنه لا فاصل بين ليلة وأخرى إلا النهار ، وهو ليس بمظهر للكواكب والقمر ؛ فكأنه غير فاصل ، ويحتمل أن يكون قد رأى الكوكب والقمر في ليلة واحدة ، وإذا كانت هذه الليلة هي التي رأى الشمس في أول نهارها - وهو المتبادر - وجب أن يكون رأى الكوكب في أول الليل هاويا للغروب ، وبعد أفوله بقليل بزغ القمر ، وأن ذلك كان في وسط الشهر ، وأنه سهر مع بعض قومه الليل كله حتى أفل القمر في آخره ، وكثيرا ما يفعل الناس هذا ، ولا سيما في الليالي البيض ولو لم يكن لهم غرض ديني أو علمي منه ، وقد يتصور وقوع ذلك في بعض الليالي القليلة من السنة كالليلة الخامسة عشرة من شهر رجب من سنتنا هذه ( سنة 1336 هـ ) فإن الشمس تغرب فيها عن أفق
مصر الساعة 6 والدقيقة 28 ويطلع القمر بعد غروبها بعشرين دقيقة ، وفي هذه المدة يحتمل أن يرى بعض السيارات أو نحوها من النجوم المشرقة الممتازة - كالشعرى - هاويا للغروب ، ويغرب بعدها بربع ساعة ، ويغرب القمر في تلك الليلة بعد انتهاء الساعة الرابعة بدقيقتين من صبيحتها ، وتشرق الشمس بعد غروبه بأربع عشرة دقيقة ، ولكن يعكر على هذا أنه لا يظهر فيه جن الليل ، وهو إظلامه . وإنما يتعين تصوير وقوع ما ذكر في مثل هذه الليلة من الشهر والقمر بدر والشمس في الدرجة الخامسة من برج الثور ، إذا تعين أنه لا يجوز وصف القمر والشمس بالبزوغ إلا في أول طلوعهما من وراء أفق القطر كله ، وقد يقال : إن هذا غير متعين بالوصف ، وأنه يجوز أن يقال : رأيت القمر بازغا ولو بعد طلوعه بساعات ، كما يقال : رأيت ناب البعير بازغا بعد طلوعه بأيام . ثم إن البزوغ والغروب منهما ما هو حقيقي عرفا وما هو نسبي ، فمن كان في مكان مطمئن أو محاط بالبنيان والشجر ، يبزغ عليه القمر والشمس بعد بزوغهما في أفق قطره ، ويغربان عنه قبل غروبهما عن ذلك الأفق ، وقد يكون في مكان يحجب مشرقه ما ذكر دون مغربه وبالعكس - فيختلف البزوغ والغروب باختلاف ذلك . وبهذا يتسع مجال احتمال وقوع ما ذكر في ليلة واحدة وصبيحتها بغير تكلف . والكلام في الآيات مرتب على رؤية الكوكب رؤية غير مقيدة بحال ولا وصف ، وعلى رؤية القمر والشمس بازغين لا على بزوغها ، فالأول يصدق برؤيته قبيل الغروب في أول جنون الليل ، والآخران يصدقان بالرؤية في حال البزوغ النسبي ، وقد غفل عن هذه الدقة في تعبير التنزيل من زعم أن رؤية ما ذكر لا يتصور وقوعه في ليلة واحدة وصبيحتها ، ومن فرض لذلك وجود حال في ذلك المكان الخالي من الجبال .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=77nindex.php?page=treesubj&link=28977فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) أي : فلما أفل القمر كالكوكب ،
[ ص: 468 ] وهو أكبر منه منظرا وأبهى نورا من الأرض ، قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدني ربي الذي خلقني إلى العبادة التي ترضيه بإعلام خاص من لدنه لأكونن من القوم الضالين عما يجب أن يعبد به ، فيتبعون فيه أهواءهم أو اجتهادهم ، فلا يكونون عابدين له بما يرضيه ، ولا يقتضي أن كل ضال يعبد الأصنام أو الكواكب ، بل هذا تعريض آخر بضلال قومه يقرب من التصريح ، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحي الإلهي .
قال
ابن المنير في " الانتصاف " : والتعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله : " لا أحب الآفلين " وإنما ترقى في ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال ، فما عرض - صلوات الله عليه - بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره ، والدليل على ذلك أنه ترقى النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم ، والتقريع بأنهم على شرك بين ، ثم قيام الحجة عليهم ، وتبلج الحق ، وبلغ من الظهور غاية المقصود . انتهى . وذلك قوله عز وجل :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78nindex.php?page=treesubj&link=28977فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) أي قال مشيرا إليها على الطريقة التي بيناها فيما قبله : هذا الذي أرى الآن أو الذي أشير إليه ربي . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : جعل المبتدأ مثل الخبر بكونهما عبارة عن شيء واحد ، كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك . (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=23ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ) وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفة الله : علام ، ولم يقولوا علامة - وإن كان العلامة أبلغ - احترازا من علامة التأنيث . انتهى . وجوز
أبو حيان أن يكون تذكير الإشارة إلى الشمس حكاية لما قيل بلغة العجم ، وأكثر لغاتهم لا تميز بين المذكر والمؤنث في الإشارة ولا في الضمائر . ونوقش في كون ذلك مقتضى الحكاية ، وفي دعوى كون لغة
إبراهيم من تلك الأعجمية ، وقد سبق لنا القول بأنها عربية ممزوجة ، على أن بعض الأعاجم يذكرون الشمس ويؤنثون القمر . وسيأتي فيما نذكر من عقائد
قوم إبراهيم أن للشمس زوجة .
وأما قوله - صلوات الله وسلامه عليه - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78هذا أكبر ) فهو تأكيد لإظهار النصفة للقوم ، ومبالغة في تلك المجاراة الظاهرة لهم ، وتمهيد قوي لإقامة الحجة البالغة عليهم ، واستدراج لهم إلى التمادي في الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدهم عنه . ومعناه أن هذا أكبر من القمر والكواكب قدرا ، وأعظم ضياء ونورا ، فهو إذا أجدر منهما بالربوبية ، إن كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية .
وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=28977_31851فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ) إِلَخْ . قَالَ
الرَّاغِبُ : أَصْلُ الْجَنِّ سَتْرُ الشَّيْءِ عَنِ الْحَاسَّةِ ، يُقَالُ : جَنَّهُ اللَّيْلُ ، وَأَجَنَّهُ ، وَأَجَنَّ عَلَيْهِ . فَجَنَّهُ : سَتَرَهُ ، وَأَجَنَّهُ : جَعَلَ لَهُ مَا يَجِنُّهُ ، كَقَوْلِكَ : قَبَرْتُهُ ، وَأَقْبَرْتُهُ ، وَسَقَيْتُهُ ، وَأَسْقَيْتُهُ ، وَجَنَّ عَلَيْهِ كَذَا سَتَرَ عَلَيْهِ . انْتَهَى . وَمِنْهُ الْجِنُّ وَالْجِنَّةُ - بِالْكَسْرِ - وَالْجُنَّةِ بِالضَّمِّ
[ ص: 464 ] وَهِيَ التُّرْسُ يُسْتَرُ بِهِ مَا يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ ضَرْبَهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَغَيْرِهَا ، وَالْجَنَّةُ - بِالْفَتْحِ - وَهِيَ الْبُسْتَانُ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّجَرَ أَرْضَهُ مِنَ الشَّمْسِ . وَالْكَوْكَبُ وَالْكَوْكَبَةُ وَاحِدُ الْكَوَاكِبِ ، وَهِيَ النُّجُومُ . وَالْفَلَكِيُّونَ يُطْلِقُونَ الْمُؤَنَّثَ عَلَى الْمَجْمُوعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُهُ عَلَى الزُّهَرَةِ ، كَمَا غَلَبَ إِطْلَاقُ النَّجْمِ مُعَرَّفًا عَلَى الثُّرَيَّا ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا تَأْنِيثُ النَّجْمِ ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ نَجْمَةٌ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَدَأَ يُرِيهِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الَّتِي عَلَّلَهَا بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا ، كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ، وَسَتَرَهُ أَوْ سَتَرَ عَنْهُ مَا حَوْلَهُ مِنْ عَالَمِ الْأَرْضِ نَظَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ ، فَرَأَى كَوْكَبًا عَظِيمًا مُمْتَازًا عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ بِإِشْرَاقِهِ وَجَذْبِ النَّظَرِ إِلَيْهِ - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَنْكِيرُ الْكَوْكَبِ - وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْمُشْتَرَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ آلِهَةِ بَعْضِ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ مِنْ قُدَمَاءِ
الْيُونَانِ وَالرُّومِ ، وَكَانَ
قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ سَلَفُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ ، وَعَنْ
قَتَادَةَ أَنَّهُ الزُّهَرَةُ . فَمَاذَا قَالَ لَمَّا رَآهُ ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=28977قَالَ هَذَا رَبِّي ) أَيْ مَوْلَايَ وَمُدَبِّرُ أَمْرِي ، قِيلَ : إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ فِي مَقَامِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِنَفْسِهِ ، وَقِيلَ : فِي مَقَامِ الْمُنَاظِرَةِ وَالْحِجَاجِ لِقَوْمِهِ ، وَاعْتَمَدَ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ عِبَادَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي صِغَرِهِ اتِّبَاعًا لِقَوْمِهِ ، حَتَّى أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ كَمَالِ التَّمْيِيزِ حُجَّتَهُ عَلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِهَا ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِأُفُولِهَا وَتَعَدُّدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهَا عَلَى تَوْحِيدِ خَالِقِهَا ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَدَعْوَتِهَا . وَمِنْهُ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ فِيهَا أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِي مَغَارَةٍ أَخْفَتْهُ فِيهَا خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ مَلِكِهِمْ
نَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ أَنْ يَقْتُلَهُ ، إِذْ كَانَ أَخْبَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ بِأَنْ سَيُولَدُ فِي قَرْيَتِهِ غُلَامٌ يُفَارِقُ دِينَهُمْ ، وَيُكَسِّرُ أَصْنَامَهُمْ ، فَشَرَعَ يَذْبَحُ كُلَّ غُلَامٍ وُلِدَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وَصَفَ أَصْحَابُ النُّجُومِ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي عَيَّنُوا ، وَفِيهَا أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي شَهْرٍ ، وَفِي الشَّهْرِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي سَنَةٍ ، وَأَنَّهُ طُلِبَ مِنْ أُمِّهِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ وِلَادَتِهِ أَنْ تُخْرِجَهُ مِنَ الْمَغَارَةِ ، فَأَخْرَجَتْهُ عِشَاءً ، فَنَظَرَ وَتَفَكَّرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - وَذَكَرَ رُؤْيَتَهُ لِلْكَوَاكِبِ ، فَالْقَمَرِ ، فَالشَّمْسِ . . . وَلَاشَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابْنَ إِسْحَاقَ أَخَذَهَا عَنْ بَعْضِ
الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّنُونَ الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْقِصَصِ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، فَتَبْطُلُ ثِقَةُ
يَهُودَ وَغَيْرِهِمْ بِهِمْ . وَرَوَى نَحْوَهُ
أَبُو حَاتِمٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ .
وَالسُّدِّيُّ الْمُفَسِّرُ كَذَّابٌ مَعْرُوفٌ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ ، وَاسْمُهُ
مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ . وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَفْسِيرِ " هَذَا رَبِّي " بِالْعِبَادَةِ فَلَا يَصِحُّ ، وَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ
عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ مَوْلَى بَنِي الْعَبَّاسِ ، وَقَدْ رَوَى عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرًا كَثِيرًا وَلَمْ يَرَهُ ، وَقَالَ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَهُ أَشْيَاءُ مُنْكَرَاتٍ . وَقَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ : صَدُوقٌ يُخْطِئُ ،
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الرَّاوِي عَنْهُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ ، وَقَدْ لَيَّنَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابْنُ مَعِينٍ ، وَقَالَ
أَبُو حَاتِمٍ : لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَلَمْ يَرْضَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ ، وَلَا
nindex.php?page=showalam&ids=12858ابْنُ الْقَطَّانِ ، فَكَيْفَ
[ ص: 465 ] يُؤْخَذُ بِرِوَايَتِهِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ كَانَ فِي صِغَرِهِ مُشْرِكًا ؟ وَهَذَا إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ السَّنَدَ إِلَيْهِ صَحِيحٌ ! .
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنَ جَرِيرٍ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مَعَ تَقْرِيرِهِ الْقَوْلَ الْمُقَابِلَ لَهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْجُمْهُورُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ ، فَقَالَ مَا قَالَ تَمْهِيدًا لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ ، فَحَكَى مَقَالَتَهُمْ أَوَّلًا حِكَايَةً اسْتَدْرَجَهُمْ بِهَا إِلَى سَمَاعِ حُجَّتِهِ عَلَى بُطْلَانِهَا ، إِذْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ ، ثُمَّ كَرَّ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ ، بَانِيًا دَلِيلَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْحِسِّ وَنَظَرِ الْعَقْلِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَوْ تَهَكُّمٍ وَاسْتِهْزَاءٍ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ ، أَيْ : أَهَذَا رَبِّي الَّذِي يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَعْبُدَهُ ؟ وَقِيلَ أَرَادَ : هَذَا رَبِّي بِزَعْمِكُمْ ، أَوْ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ هَذَا رَبِّي ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ مَا يَأْتِي فِي الشَّمْسِ ، وَلَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ .
أَمَّا
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ فَاحْتَجَّ أَوَّلًا بِالرِّوَايَةِ ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى دَعْوَى شِرْكِ
الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَوْ فِي الصِّغَرِ عَلَى أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ - وَثَانِيًا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي قَالَهَا بَعْدَ أُفُولِ الْقَمَرِ ، وَسَتَرَى حُسْنَ تَوْجِيهِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ كَثِيرَةٍ أَطَالَ الْإِمَامُ
الرَّازِيُّ فِي تَعْدَادِهَا ، وَفِي أَكْثَرِ مَا أَوْرَدَهُ نَظَرٌ ظَاهِرٌ . وَأَقْوَى حُجَّتِهِمُ السِّيَاقُ مِنْ حَيْثُ تَشْبِيهِ إِرَاءَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ هَذَا الْمَلَكُوتَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِبْطَالِ رُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ بِإِرَاءَتِهِ ضَلَالَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ، وَمِنْ إِسْنَادِ هَذِهِ الْإِرَاءَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الدَّالِّ عَلَى تَمْيِيزِ مَا رَأَى بِهَا عَلَى مَا كَانَ يَرَى قَبْلَهَا ، وَمِنْ تَعْلِيلِ الْإِرَاءَةِ بِمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنَ التَّعْقِيبِ عَلَى ذَلِكَ بِمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ آتَاهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=28977_29426فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) أَيْ فَلَمَّا غَرَبَ هَذَا الْكَوْكَبُ وَاحْتَجَبَ ، قَالَ : لَا أُحِبُّ مَنْ يَغِيبُ وَيَحْتَجِبُ ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحِبِّهِ الْأُفُقُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحُجُبِ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ " الْآفِلِينَ " إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَوْكَبَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسٍ كُلُّهُ يَغِيبُ وَيَأْفُلُ ، وَالْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ وَالذَّوْقِ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ حُبَّ شَيْءٍ يَغِيبُ عَنْهُ وَيُوحِشُهُ فَقْدُ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ ، حَتَّى فِي الْحُبِّ الَّذِي هُوَ دُونَ حُبِّ الْعِبَادَةِ ، فَإِنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِجَاذِبِ الشَّهْوَةِ دُونَ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْلُوَ عَنْهُ بِنُزُوحِ الدَّارِ وَالِاحْتِجَابِ عَنِ الْأَبْصَارِ ، إِلَّا أَنْ يَصِيرَ حُبُّهُ مِنْ هَوَسِ الْخَيَالِ ، وَفُنُونِ الْجُنُونِ وَالْخَبَالِ ، وَأَمَّا حُبُّ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْحُبِّ وَأَكْمَلُهُ - لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْعَقْلِ الصَّحِيحِ - فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّبِّ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ ، السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الرَّقِيبِ ، الَّذِي لَا يَغِيبُ وَلَا يَأْفُلُ ، وَلَا يَنْسَى وَلَا يَذْهَلُ ، الظَّاهِرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِآيَاتِهِ وَتَجَلِّيهِ ، الْبَاطِنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ الْخَفِيِّ فِيهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( 6 : 103 ) وَلَكِنْ تُشَاهِدُهُ الْبَصَائِرُ بِآثَارِ صِفَاتِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ ، وَسُلْطَانِهِ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ ، وَمَا كَانَ لِيَخْفَى عَلَى
الْخَلِيلِ الْأَوَّلِ مَا قَالَهُ الْخَلِيلُ الثَّانِي فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ ،
[ ص: 466 ] وَمَا مِلَّتُهُ إِلَّا عَيْنُ مِلَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ، وَهُوَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003313أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " فَكَيْفَ يَعْبُدُ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ الَّتِي تَأْفُلُ وَتُحْجَبُ عَنْ عَابِدِيهَا ، وَيَخْفَى حَالُهُمْ عَلَيْهَا ؟ ! .
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْأُفُولَ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، وَجَعَلُوا هَذَا هُوَ الْمُنَافِي لِلرُّبُوبِيَّةِ ؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُدُوثِ أَوِ الْإِمْكَانِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِمَا قَدْ يُبَايِنُهُ ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا اسْتَعْمَلَتِ الْأُفُولَ فِي غُرُوبِ الْقَمَرَيْنِ وَالنُّجُومِ ، وَفِي اسْتِقْرَارِ الْحَمْلِ ، وَكَذَا اللَّقَاحُ فِي الرَّحِمِ ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهَا مِنَ الْأَوَّلِ عَيْنُ مُرَادِهَا مِنَ الثَّانِي ، وَهُوَ الْغُيُوبُ وَالْخَفَاءُ . وَقَدْ يَتَحَوَّلُ الشَّيْءُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْتَجِبٍ ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّغَيُّرِ لِيَجْعَلُوهُ عِلَّةَ الْحُدُوثِ الْمُنَافِي لِلرُّبُوبِيَّةِ أَيْضًا ، وَهُوَ غَلَطٌ كَسَابِقِهِ ، فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ لَا تَتَغَيَّرُ بِأُفُولِهَا ، وَمَذْهَبُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ أُفُولَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ لَا بِحَرَكَتِهَا هِيَ ، وَأَنَّ حَرَكَتَهَا عَلَى مَحَاوِرِهَا وَحَرَكَةَ السَّيَّارَاتِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ لَيْسَ مِنْ سَبَبِ أُفُولِهَا الْمُشَاهَدِ فِي شَيْءٍ ، وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ لِطَيْفٌ بِجَهْلِ قَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ ، وَلَا يَدْرِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِ عِبَادَتِهِمْ ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=42لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ) ( 19 : 42 ) وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّعْرِيضُ عَلَى قَوْلِ النُّظَّارِ فِي تَفْسِيرِ الْأُفُولِ ; فَإِنَّ
قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ ، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَفْلَاكَ قَائِلِينَ بِرُبُوبِيَّتِهَا ، وَبِقِدَمِهَا مَعَ حَرَكَتِهَا ، وَمَا زَالَ الْفَلَاسِفَةُ وَالْفَلَكِيُّونَ يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْحَرَكَةِ وَأَزَلِيَّتِهَا ، وَعُلَمَاءُ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَعُدُّونَ الْحَرَكَةَ مَبْدَأَ وُجُودِ كُلَّ شَيْءٍ . وَأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلْوُجُودِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ .
وَقَدْ كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أُولَئِكَ النُّظَّارِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ مَا يَأْتِي فِي الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ : ( فَإِنْ قُلْتَ ) : لِمَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْأُفُولِ دُونَ الْبُزُوغِ وَكَلَاهُمَا انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ؟ ( قُلْتُ ) : الِاحْتِجَاجُ بِالْأُفُولِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مَعَ خَفَاءٍ وَاحْتِجَابٍ . انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : إِنَّهُ مِنْ عُيُونِ نُكَتِهِ وَوُجُوهِ حَسَنَاتِهِ . انْتَهَى . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ تَعْرِيضًا خَفِيًّا ، لَا بُرْهَانًا نَظَرِيًّا جَلِيًّا ، وَأَنَّ وَجْهَ مُنَافَاةِ الرُّبُوبِيَّةِ فِيهِ هُوَ الْخَفَاءُ وَالِاحْتِجَابُ وَالتَّعَدُّدُ ، وَأَنَّ الْبُزُوغَ وَالظُّهُورَ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ مِمَّا يُنَافِي الرُّبُوبِيَّةَ ، بَلْ بُنِيَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِهَا ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29622_29448مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظُهُورًا كَظُهُورِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=77nindex.php?page=treesubj&link=28977فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ) أَيْ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ طَالِعًا مِنْ وَرَاءِ الْأُفُقِ أَوَّلَ طُلُوعِهِ قَالَ : هَذَا رَبِّي - عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْحَرْفَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ ابْتِدَاءِ طُلُوعِ النَّيِّرَاتِ وَأَوَّلِ طُلُوعِ النَّابِ . وَفِي بَزْغِ الْبَيْطَارِ وَالْحَاجِمِ لِلْجِلْدِ ، وَهُوَ تَشْرِيطُهُ بِالْمِبْزَغِ ; وَلِذَلِكَ قَالُوا : إِنَّ مَعْنَى الْبَزْغِ الشَّقُّ ،
[ ص: 467 ] فَالنَّيِّرَاتُ تَشُقُّ الظَّلَامَ بِطُلُوعِهَا ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ تَشْبِيهًا بِشَقِّ النَّابِ وَالسِّنِّ لِلَّثَةِ ، وَشَقِّ الْبَيْطَارِ وَالْحَجَّامِ لِلْجِلْدِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى الْكَوْكَبَ فِي لَيْلَةٍ ، وَرَأَى الْقَمَرَ فِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ لَهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَاصِلَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَأُخْرَى إِلَّا النَّهَارَ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُظْهِرٍ لِلْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ ؛ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ فَاصِلٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ الَّتِي رَأَى الشَّمْسَ فِي أَوَّلِ نَهَارِهَا - وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْكَوْكَبَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ هَاوِيًا لِلْغُرُوبِ ، وَبَعْدَ أُفُولِهِ بِقَلِيلٍ بَزَغَ الْقَمَرُ ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ ، وَأَنَّهُ سَهِرَ مَعَ بَعْضِ قَوْمِهِ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى أَفَلَ الْقَمَرُ فِي آخِرِهِ ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ النَّاسُ هَذَا ، وَلَا سِيَّمَا فِي اللَّيَالِي الْبِيضِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَرَضٌ دِينِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ مِنْهُ ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي الْقَلِيلَةِ مِنَ السَّنَةِ كَاللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَتِنَا هَذِهِ ( سَنَةُ 1336 هـ ) فَإِنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِيهَا عَنْ أُفُقِ
مِصْرَ السَّاعَةَ 6 وَالدَّقِيقَةَ 28 وَيَطْلُعُ الْقَمَرُ بَعْدَ غُرُوبِهَا بِعِشْرِينَ دَقِيقَةً ، وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرَى بَعْضَ السَّيَّارَاتِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ النُّجُومِ الْمُشْرِقَةِ الْمُمْتَازَةِ - كَالشِّعْرَى - هَاوِيًا لِلْغُرُوبِ ، وَيَغْرُبُ بَعْدَهَا بِرُبْعِ سَاعَةٍ ، وَيَغْرُبُ الْقَمَرُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ بِدَقِيقَتَيْنِ مِنْ صَبِيحَتِهَا ، وَتُشْرِقُ الشَّمْسُ بَعْدَ غُرُوبِهِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ دَقِيقَةً ، وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ جَنُّ اللَّيْلِ ، وَهُوَ إِظْلَامُهُ . وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ تَصْوِيرُ وُقُوعِ مَا ذُكِرَ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْقَمَرُ بَدْرٌ وَالشَّمْسُ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ بُرْجِ الثَّوْرِ ، إِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَصْفُ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِالْبُزُوغِ إِلَّا فِي أَوَّلِ طُلُوعِهِمَا مِنْ وَرَاءِ أُفُقِ الْقُطْرِ كُلِّهِ ، وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ بِالْوَصْفِ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : رَأَيْتُ الْقَمَرَ بَازِغًا وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِهِ بِسَاعَاتٍ ، كَمَا يُقَالُ : رَأَيْتُ نَابَ الْبَعِيرِ بَازِغًا بَعْدَ طُلُوعِهِ بِأَيَّامٍ . ثُمَّ إِنَّ الْبُزُوغَ وَالْغُرُوبَ مِنْهُمَا مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ عُرْفًا وَمَا هُوَ نِسْبِيٌّ ، فَمَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ مُطَمْئِنٍ أَوْ مُحَاطٍ بِالْبُنْيَانِ وَالشَّجَرِ ، يَبْزُغُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ وَالشَّمْسُ بَعْدَ بُزُوغِهِمَا فِي أُفُقِ قُطْرِهِ ، وَيَغْرُبَانِ عَنْهُ قَبْلَ غُرُوبِهِمَا عَنْ ذَلِكَ الْأُفُقِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَكَانٍ يَحْجُبُ مَشْرِقَهُ مَا ذُكِرَ دُونَ مَغْرِبِهِ وَبِالْعَكْسِ - فَيَخْتَلِفُ الْبُزُوغُ وَالْغُرُوبُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ . وَبِهَذَا يَتَّسِعُ مَجَالُ احْتِمَالِ وُقُوعِ مَا ذُكِرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَبِيحَتِهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ . وَالْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ مُرَتَّبٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْكَوْكَبِ رُؤْيَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِحَالٍ وَلَا وَصْفٍ ، وَعَلَى رُؤْيَةِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَازِغَيْنِ لَا عَلَى بُزُوغِهَا ، فَالْأَوَّلُ يَصْدُقُ بِرُؤْيَتِهِ قُبَيْلَ الْغُرُوبِ فِي أَوَّلِ جُنُونِ اللَّيْلِ ، وَالْآخَرَانِ يُصَدَّقَانِ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَالِ الْبُزُوغِ النِّسْبِيِّ ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي تَعْبِيرِ التَّنْزِيلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ رُؤْيَةَ مَا ذُكِرَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَبِيحَتِهَا ، وَمَنْ فَرَضَ لِذَلِكَ وُجُودَ حَالٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْخَالِي مِنَ الْجِبَالِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=77nindex.php?page=treesubj&link=28977فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) أَيْ : فَلَمَّا أَفَلَ الْقَمَرُ كَالْكَوْكَبِ ،
[ ص: 468 ] وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مَنْظَرًا وَأَبْهَى نُورًا مِنَ الْأَرْضِ ، قَالَ مُسْمِعًا مَنْ حَوْلِهِ مِنْ قَوْمِهِ : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي الَّذِي خَلَقَنِي إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي تُرْضِيهِ بِإِعْلَامٍ خَاصٍّ مِنْ لَدُنْهُ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عَمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ بِهِ ، فَيَتَّبِعُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ أَوِ اجْتِهَادَهُمْ ، فَلَا يَكُونُونَ عَابِدِينَ لَهُ بِمَا يُرْضِيهِ ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ ضَالٍّ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ أَوِ الْكَوَاكِبَ ، بَلْ هَذَا تَعْرِيضٌ آخَرُ بِضَلَالِ قَوْمِهِ يُقْرُبُ مِنَ التَّصْرِيحِ ، وَإِرْشَادٌ إِلَى تَوَقُّفِ هِدَايَةِ الدِّينِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ .
قَالَ
ابْنُ الْمُنِيرِ فِي " الِانْتِصَافِ " : وَالتَّعْرِيضُ بِضَلَالِهِمْ ثَانِيًا أَصْرَحُ وَأَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ : " لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ " وَإِنَّمَا تَرَقَّى فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْخُصُومَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ حُجَّةٌ فَأَنِسُوا بِالْقَدْحِ فِي مُعْتَقَدِهِمْ ، وَلَوْ قِيلَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَنْفِرُونَ وَلَا يَصْغُونَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ، فَمَا عَرَّضَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - بِأَنَّهُمْ فِي ضَلَالَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَثِقَ بِإِصْغَائِهِمْ إِلَى إِتْمَامِ الْمَقْصُودِ وَاسْتِمَاعِهِ إِلَى آخِرِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَرَقَّى النَّوْبَةَ الثَّالِثَةَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ ، وَالتَّقْرِيعِ بِأَنَّهُمْ عَلَى شِرْكٍ بَيِّنٍ ، ثُمَّ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَتَبَلَّجَ الْحَقُّ ، وَبَلَغَ مِنَ الظُّهُورِ غَايَةَ الْمَقْصُودِ . انْتَهَى . وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78nindex.php?page=treesubj&link=28977فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ) أَيْ قَالَ مُشِيرًا إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِيمَا قَبْلَهُ : هَذَا الَّذِي أَرَى الْآنَ أَوِ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ رَبِّي . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : جَعَلَ الْمُبْتَدَأَ مِثْلَ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، كَقَوْلِهِمْ : مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ ، وَمَنْ كَانَتْ أُمُّكَ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=23ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنَّ قَالُوا ) وَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاجِبًا لِصِيَانَةِ الرَّبِّ عَنْ شُبْهَةِ التَّأْنِيثِ ، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا فِي صِفَةِ اللَّهِ : عَلَّامٌ ، وَلَمْ يَقُولُوا عَلَّامَةٌ - وَإِنْ كَانَ الْعَلَّامَةُ أَبْلَغَ - احْتِرَازًا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ . انْتَهَى . وَجَوَّزَ
أَبُو حَيَّانَ أَنْ يَكُونَ تَذْكِيرُ الْإِشَارَةِ إِلَى الشَّمْسِ حِكَايَةً لِمَا قِيلَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ ، وَأَكْثَرُ لُغَاتِهِمْ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي الْإِشَارَةِ وَلَا فِي الضَّمَائِرِ . وَنُوقِشَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْحِكَايَةِ ، وَفِي دَعْوَى كَوْنِ لُغَةِ
إِبْرَاهِيمَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْجَمِيَّةِ ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ مَمْزُوجَةٌ ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَعَاجِمِ يُذَكِّرُونَ الشَّمْسَ وَيُؤَنِّثُونَ الْقَمَرَ . وَسَيَأْتِي فِيمَا نَذْكُرُ مِنْ عَقَائِدِ
قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ لِلشَّمْسِ زَوْجَةً .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78هَذَا أَكْبَرُ ) فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِإِظْهَارِ النَّصَفَةِ لِلْقَوْمِ ، وَمُبَالَغَةٌ فِي تِلْكَ الْمُجَارَاةِ الظَّاهِرَةِ لَهُمْ ، وَتَمْهِيدٌ قَوِيٌّ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ عَلَيْهِمْ ، وَاسْتِدْرَاجٍ لَهُمْ إِلَى التَّمَادِي فِي الِاسْتِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْرِيضِ الَّذِي كَانَ يَخْشَى أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنْهُ . وَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ قَدْرًا ، وَأَعْظَمُ ضِيَاءً وَنُورًا ، فَهُوَ إِذًا أَجْدَرُ مِنْهُمَا بِالرُّبُوبِيَّةِ ، إِنْ كَانَ الْمَدَارُ فِيهَا عَلَى التَّفَاضُلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ .