ثم بين تعالى حكمهم بقوله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=57فإما تثقفنهم في الحرب [ ص: 44 ] قال
الراغب : الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ، ومنه استعير المثاقفة ورمح مثقف وما يثقف به الثقاف . . . ( قال ) : ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك ، وإن لم تكن معه ثقافة ، واستشهد بهذه الآية وغيرها ، وقال غيره : هو يدل على إدراكهم مع التمكن منهم ، والظهور عليهم . وفيه إيذان بأنهم سيحاربونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=8211نقض العهد يكون بالحرب ، أو بما يقتضيها ويستلزمها ، وذلك من أنباء الغيب ، إذ كان قبل وقوعه عقب غزوة بدر والمعنى : فإن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم ، وتصادفهم في الحرب ظاهرا عليهم
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=57فشرد بهم من خلفهم أي : فنكل بهم تنكيلا يكونون به سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم كالإبل الشاردة النادة اعتبارا بحالهم . والمراد بمن خلف يهود
المدينة : كفار
مكة وأعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم ، فإنهم هم الذين تواطئوا مع
اليهود الناكثين لعهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قتاله ، وإنما أمر الله تعالى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإثخان في هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم ، وتجديده لعهدهم بعد نقضه ، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم ، وعدة الحرب ضرورة اجتماعية تترك إذا زالت الضرورة الدافعة إليها على القاعدة العامة التي ستأتي في آية :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=61وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( 61 ) وهؤلاء
اليهود أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون في السلم معتذرين عن نقضهم للعهد ، وكانوا في ذلك مخادعين . والدليل على أن هذا الأمر بالغلظة عليهم ، والإثخان فيهم لتربيتهم ، واعتبار أمثالهم بحالهم دون حب الحرب أو الطمع في غنائمها ، قوله عز وجل :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=57لعلهم يذكرون أي : لعل من خلفهم من الأعداء يتعظون ويعتبرون ، فلا يقدمون على القتال ، ولا يعود المعاهد منهم لنقض العهد ونكث الأيمان . وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب الناس في بعض أيامه التي لقي فيها العدو فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920170يا أيها الناس nindex.php?page=treesubj&link=25875لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن nindex.php?page=treesubj&link=7862الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال : اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم " وهذا يؤيد ما دلت عليه الآية من أن الحرب ليست محبوبة عند الله ، ولا عند رسوله لذاتها ، ولا لما فيها من مجد الدنيا ، وإنما هي ضرورة اجتماعية يقصد بها منع البغي والعدوان ، وإعلاء كلمة الحق والإيمان ، ودحض الباطل ، واكتفاء شر عمله ، بناء على سنة
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( 13 : 17 ) وتسمى في عرف عصرنا سنة الانتخاب الطبيعي .
وهذا الإرشاد الحربي في استعمال القسوة مع البادئين بالحرب ، والناقضين فيها لعهود السلم ، والتنكيل بالبادئين بالشر ، لتشريد من وراءهم ، متفق عليه بين قواد الحرب في هذا العصر ، ولكنهم يقصدون مع ذلك الانتقام ، وشفاء ما في الصدور من الأحقاد ، والسعي لإذلال العباد ، والتمتع بالغنائم من مال وعقار ، دون الموعظة والتربية بالاعتبار .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=57فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [ ص: 44 ] قَالَ
الرَّاغِبُ : الثَّقْفُ الْحِذْقُ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَفِعْلِهِ ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ الْمُثَاقَفَةُ وَرُمْحٌ مُثَقَّفٌ وَمَا يُثَقَّفُ بِهِ الثَّقَّافُ . . . ( قَالَ ) : ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْإِدْرَاكِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ ثَقَافَةٌ ، وَاسْتَشْهَدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا ، وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكِهِمْ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ ، وَالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ . وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ سَيُحَارِبُونَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=8211نَقْضَ الْعَهْدِ يَكُونُ بِالْحَرْبِ ، أَوْ بِمَا يَقْتَضِيهَا وَيَسْتَلْزِمُهَا ، وَذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ، إِذْ كَانَ قَبْلَ وُقُوعِهِ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَالْمَعْنَى : فَإِنْ تُدْرِكْ هَؤُلَاءِ النَّاقِضِينَ لِعَهْدِهِمْ ، وَتُصَادِفْهُمْ فِي الْحَرْبِ ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=57فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أَيْ : فَنَكِّلْ بِهِمْ تَنْكِيلًا يَكُونُونَ بِهِ سَبَبًا لِشُرُودِ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَتَفَرُّقِهِمْ كَالْإِبِلِ الشَّارِدَةِ النَّادَّةِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِمْ . وَالْمُرَادُ بِمَنْ خَلْفَ يَهُودِ
الْمَدِينَةِ : كُفَّارُ
مَكَّةَ وَأَعْوَانُهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْقَبَائِلِ الْمُوَالِيَةِ لَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَوَاطَئُوا مَعَ
الْيَهُودِ النَّاكِثِينَ لِعَهْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى قِتَالِهِ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْإِثْخَانِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ تَكَرَّرَتْ مُسَالَمَتُهُ لَهُمْ ، وَتَجْدِيدُهُ لِعَهْدِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِ ، لِئَلَّا يَنْخَدِعَ مَرَّةً أُخْرَى بِكَذِبِهِمْ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَحُبِّ السَّلْمِ ، وَعُدَّةُ الْحَرْبِ ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تُتْرَكُ إِذَا زَالَتِ الضَّرُورَةُ الدَّافِعَةُ إِلَيْهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي سَتَأْتِي فِي آيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=61وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( 61 ) وَهَؤُلَاءِ
الْيَهُودُ أَوْهَمُوهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ فِي السَّلْمِ مُعْتَذِرِينَ عَنْ نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُخَادِعِينَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ ، وَالْإِثْخَانِ فِيهِمْ لِتَرْبِيَتِهِمْ ، وَاعْتِبَارِ أَمْثَالِهِمْ بِحَالِهِمْ دُونَ حُبِّ الْحَرْبِ أَوِ الطَّمَعِ فِي غَنَائِمِهَا ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=57لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أَيْ : لَعَلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ ، فَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ ، وَلَا يَعُودُ الْمُعَاهِدُ مِنْهُمْ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَنَكْثِ الْأَيْمَانَ . وَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920170يَا أَيُّهَا النَّاسُ nindex.php?page=treesubj&link=25875لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=7862الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ ، وَمُجْرِي السَّحَابِ ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ " وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ لِذَاتِهَا ، وَلَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَجْدِ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا هِيَ ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ يُقْصَدُ بِهَا مَنْعُ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ ، وَدَحْضُ الْبَاطِلِ ، وَاكْتِفَاءُ شَرِّ عَمَلِهِ ، بِنَاءً عَلَى سُنَّةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ( 13 : 17 ) وَتُسَمَّى فِي عُرْفِ عَصْرِنَا سُنَّةَ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ .
وَهَذَا الْإِرْشَادُ الْحَرْبِيُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَسْوَةِ مَعَ الْبَادِئِينَ بِالْحَرْبِ ، وَالنَّاقِضِينَ فِيهَا لِعُهُودِ السَّلْمِ ، وَالتَّنْكِيلِ بِالْبَادِئِينَ بِالشَّرِّ ، لِتَشْرِيدِ مَنْ وَرَاءَهُمْ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ قُوَّادِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ مَعَ ذَلِكَ الِانْتِقَامَ ، وَشِفَاءَ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأَحْقَادِ ، وَالسَّعْيَ لِإِذْلَالِ الْعِبَادِ ، وَالتَّمَتُّعَ بِالْغَنَائِمِ مِنْ مَالٍ وَعَقَارٍ ، دُونَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْبِيَةِ بِالِاعْتِبَارِ .