ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=28973_26687_28914_28899ولكم في القصاص حياة ) وهو تعليل لشرعية القصاص وبيان لحكمته ، وقدم عليه تعليل العفو والترغيب فيه والوعيد على الغدر بعده عناية به ، وإيذانا بأن الترغيب في العفو لا يستلزم تصغير شأنه . وبيان الأسباب والحكم لوضع الأحكام العملية ، كإقامة البراهين والدلائل للمطالب العقلية ، بهذه يعرف الحق من الباطل ، وبتلك يعرف العدل وما يتفق مع المصالح ، وبذلك يكون الحكم أوقع في النفس وأبعث على المحافظة عليه ، وأدعى إلى الرغبة في العمل به - وقد بينت هذه الآية
nindex.php?page=treesubj&link=26687حكمة القصاص بأسلوب لا يسامى ، وعبارة لا تحاكى ، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن التي تعجز في التحدي فرسان البيان ، ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمنا لضده وهو الحياة في الإماتة التي هي القصاص ، وعرف القصاص ونكر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره ، ولا يجهل سره .
ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز ، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها ، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها ، وهي قولهم : القتل أنفى للقتل . وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان ، ويفصح به اللسان ; لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع . وقولهم : أكثروا القتل ليقل القتل . . وأجمعوا على أن كلمة ( ( القتل أنفى للقتل ) ) أبلغها ، وأين هي من كلمة الله العليا ، وحكمته المثلى ؟
قال
الإمام الرازي : وبيان التفاوت من وجوه : أحدها أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179ولكم في القصاص حياة ) أخصر من الكل ; لأن قوله : ( ولكم ) لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك ، وإذا تأملت علمت أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179في القصاص حياة ) أشد اختصارا من قولهم : القتل أنفى للقتل ; أي لأن حروفه أقل . ( وثانيها ) أن قولهم : القتل أنفى للقتل ،
[ ص: 106 ] ظاهره يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179في القصاص حياة ) ليس كذلك لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة ، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة . ( وثالثها ) أن قولهم فيه تكرير للفظ القتل وليس في الآية تكرير . ( ورابعها ) أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل ، والآية تفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما ، فهي أجمع للفوائد . ( وخامسها ) أن نفي القتل في قولهم مطلوب تبعا ; من حيث إنه يتضمن حصول الحياة ، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي فكان هذا أولى . ( وسادسها ) أن القتل ظلما قتل مع أنه لا يكون نافيا للقتل ، بل هو سبب لزيادة القتل ، وإنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص ، فظاهر قولهم باطل ، وأما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا ; فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب . انتهى باختصار وتصرف يسيرين .
وذكر
السيد الألوسي هذه الوجوه باختصار أدق وزاد عليها نحوها فقال : ( الأول ) قلة الحروف فإن الملفوظ هنا - أي في الآية - عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة وهناك أربعة عشر حرفا . ( الثاني ) الاطراد ; إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفى للقتل ، فإن القتل ظلما أدعى للقتل . ( الثالث ) ما في تنوين ( حياة ) من النوعية أو التعظيم . ( الرابع ) صنعة الطباق بين القصاص والحياة ، فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها . ( الخامس ) النص على ما هو المطلوب بالذات أعني ( ( الحياة ) ) فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته . ( السادس ) الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده ، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق ، فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات . ( السابع ) الخلو عن التكرار مع التقارب ; فإنه لا يخلو عن استبشاع ولا يعد من رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا . ( الثامن ) عذوبة اللفظ وسلاسته ، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة ; إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد ، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان ، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام ، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام . ( التاسع ) عدم الاحتياج إلى الحيثية - أي التعليل - وقولهم يحتاج إليها . ( العاشر ) تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك ، وقولهم لا يشمله . ( الحادي عشر ) خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا . ( الثاني عشر ) اشتماله على ما يصلح للقتل وهو الحياة بخلاف قولهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وإنه لما يليق بهم . ( الثالث عشر ) خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون
[ ص: 107 ] الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال - إلى غير ذلك ، فسبحان من علت كلمته ، وبهرت آيته . ا هـ .
وأقول : إن الآية على كونها أبلغ ، وكلمتها أوجز ، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها ، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم ، وهو المساواة في العقوبة وبيان أن فيه الحياة الطيبة ، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض . وأما أمرهم بالقتل ليقل القتل أو ينتفي فهو يصدق باعتداء قبيلة على قبيلة ، والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على أخذ الثأر ، فيكون المعنى : إن قتلنا لعدونا إحياء لنا ، وتقليل أو نفي لقتله إيانا ، وأين هذا الظلم من ذلك العدل ؟ فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات ، وأن القصاص وسيلة من وسائلها ; لأن من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه ، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع ، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه ، وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة ، ويوطن النفوس على قبول حكم المساواة إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما ، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم ، هذا وإن دول الإفرنج تجري على سنة عرب الجاهلية في جعل القتل لأعدائها وخصومها أنفى لقتلهم إياها ، وذلك شأنهم مع الضعفاء كالشعوب التي ابتليت باستيلائهم عليها باسم الاستعمار أو غيره من الأسماء ، فأين هي من عدل الإسلام ، ومساواته بين جميع الأنام ؟
قال تعالى بعد هذا البيان المتضمن للحكمة والبرهان : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179يا أولي الألباب ) فخص بالنداء أصحاب العقول الكاملة ، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها ، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها ، وهو مرتبتان : القصاص وهو العدل ، والعفو وهو الفضل ، كأنه يقول : إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة ، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام ، وما فيها من المنفعة للأنام ، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان ، فهو بلا لب ولا جنان . ولا رحمة ولا حنان . وقوله : ( لعلكم تتقون ) جعله (
الجلال ) تعليلا لشرع القصاص وقدر له ( ( شرع ) ) أي : لما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم ، لعلكم تتقون الاعتداء ، وتكفون عن سفك الدماء .
وقال الأستاذ الإمام : إن هذا لا بأس به والشرعية مفهومة من الآية ، وإيجاز القرآن يقتضي عدم التصريح بها لأجل التعليل كما صرح به في الآية التي قبلها (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=178كتب عليكم ) ويمكن أن يستغنى عن تقدير ( ( شرع ) ) ويتعلق الرجاء بالظرف في قوله :
[ ص: 108 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179ولكم في القصاص حياة ) أي : ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء ، وسائر ضروب الاعتداء ، إذ العاقل حريص على الحياة ولوع بالأخذ بوسائلها ، والاحتراس من غوائلها .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=28973_26687_28914_28899وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَبَيَانٌ لِحِكْمَتِهِ ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَعْلِيلَ الْعَفْوِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ وَالْوَعِيدَ عَلَى الْغَدْرِ بَعْدَهُ عِنَايَةً بِهِ ، وَإِيذَانًا بِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصْغِيرَ شَأْنِهِ . وَبَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ لِوَضْعِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ ، كَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ وَالدَّلَائِلِ لِلْمَطَالِبِ الْعَقْلِيَّةِ ، بِهَذِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ ، وَبِتِلْكَ يُعْرَفُ الْعَدْلُ وَمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمَصَالِحِ ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَبْعَثَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ ، وَأَدْعَى إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=26687حِكْمَةَ الْقِصَاصِ بِأُسْلُوبٍ لَا يُسَامَى ، وَعِبَارَةٍ لَا تُحَاكَى ، وَاشْتُهِرَ أَنَّهَا مَنْ أَبْلَغِ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُعْجِزُ فِي التَّحَدِّي فُرْسَانَ الْبَيَانِ ، وَمِنْ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ فِيهَا أَنْ جَعَلَ فِيهَا الضِّدَّ مُتَضَمِّنًا لِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَيَاةُ فِي الْإِمَاتَةِ الَّتِي هِيَ الْقِصَاصُ ، وَعَرَّفَ الْقِصَاصَ وَنَكَّرَ الْحَيَاةَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ نَوْعًا مِنَ الْحَيَاةِ عَظِيمًا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ ، وَلَا يُجْهَلُ سِرُّهُ .
ثُمَّ إِنَّهَا فِي إِيجَازِهَا قَدِ ارْتَقَتْ أَعْلَى سَمَاءٍ لِلْإِعْجَازِ ، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ كَلِمَةً فِي مَعْنَاهَا عَنْ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ يَعْجَبُونَ مِنْ إِيجَازِهَا فِي بَلَاغَتِهَا ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الطَّاقَةَ لَا تَصِلُ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ غَايَتِهَا ، وَهِيَ قَوْلُهُمُ : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ . وَإِنَّمَا فُتِنُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَظَنُّوا أَنَّهَا نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْبَيَانُ ، وَيُفْصِحَ بِهِ اللِّسَانُ ; لِأَنَّهَا قِيلَتْ قَبْلَهَا كَلِمَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا لِبُلَغَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ : قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ . وَقَوْلِهِمْ : أَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ . . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ ( ( الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ) ) أَبْلَغُهَا ، وَأَيْنَ هِيَ مِنْ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا ، وَحِكْمَتِهِ الْمُثْلَى ؟
قَالَ
الْإِمَامُ الرَّازِيُّ : وَبَيَانُ التَّفَاوُتِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) أَخْصَرُ مِنَ الْكُلِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( وَلَكُمْ ) لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) أَشَدُّ اخْتِصَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ; أَيْ لِأَنَّ حُرُوفَهُ أَقَلُّ . ( وَثَانِيهَا ) أَنَّ قَوْلَهُمُ : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ،
[ ص: 106 ] ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ ، ثُمَّ مَا جَعَلَهُ سَبَبًا لِمُطَلَقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَاةَ مُنَكَّرَةً ، بَلْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ . ( وَثَالِثُهَا ) أَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ تَكْرِيرٌ لِلَّفْظِ الْقَتْلِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَكْرِيرٌ . ( وَرَابِعُهَا ) أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ ، وَالْآيَةُ تُفِيدُ الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ وَعَنِ الْجَرْحِ وَغَيْرِهِمَا ، فَهِيَ أَجْمَعُ لِلْفَوَائِدِ . ( وَخَامِسُهَا ) أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ فِي قَوْلِهِمْ مَطْلُوبٌ تَبَعًا ; مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْحَيَاةِ ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْحَيَاةِ وَهُوَ مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى . ( وَسَادِسُهَا ) أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا قَتْلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا النَّافِي لِوُقُوعِ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ الْقِصَاصُ ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ بَاطِلٌ ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَتَقْدِيرًا ; فَظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ كَلَامِ الْعَرَبِ . انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَتَصَرُّفٍ يَسِيرَيْنِ .
وَذَكَرَ
السَّيِّدُ الْأُلُوسِيُّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِاخْتِصَارٍ أَدَقَّ وَزَادَ عَلَيْهَا نَحْوَهَا فَقَالَ : ( الْأَوَّلُ ) قِلَّةُ الْحُرُوفِ فَإِنَّ الْمَلْفُوظَ هُنَا - أَيْ فِي الْآيَةِ - عَشَرَةُ أَحْرُفٍ إِذَا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّنْوِينُ حَرْفًا عَلَى حِدَةٍ وَهُنَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا . ( الثَّانِي ) الِاطِّرَادُ ; إِذْ فِي كُلِّ قِصَاصٍ حَيَاةٌ وَلَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ، فَإِنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا أَدْعَى لِلْقَتْلِ . ( الثَّالِثُ ) مَا فِي تَنْوِينِ ( حَيَاةٌ ) مِنَ النَّوْعِيَّةِ أَوِ التَّعْظِيمِ . ( الرَّابِعُ ) صَنْعَةُ الطِّبَاقِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْحَيَاةِ ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ فَهُوَ مُقَابِلُهَا . ( الْخَامِسُ ) النَّصُّ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالذَّاتِ أَعْنِي ( ( الْحَيَاةَ ) ) فَإِنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ إِنَّمَا يُطْلَبُ لَهَا لَا لِذَاتِهِ . ( السَّادِسُ ) الْغَرَابَةُ مِنْ حَيْثُ جُعِلَ الشَّيْءُ فِيهِ حَاصِلًا فِي ضِدِّهِ ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَظْرُوفَ إِذَا حَوَاهُ الظَّرْفُ صَانَهُ عَنِ التَّفَرُّقِ ، فَكَأَنَّ الْقِصَاصَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَحْمِي الْحَيَاةَ مِنَ الْآفَاتِ . ( السَّابِعُ ) الْخُلُوُّ عَنِ التَّكْرَارِ مَعَ التَّقَارُبِ ; فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ اسْتِبْشَاعٍ وَلَا يُعَدُّ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ حَتَّى يَكُونَ مُحَسِّنًا . ( الثَّامِنُ ) عُذُوبَةُ اللَّفْظِ وَسَلَاسَتُهُ ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ تَوَالِي الْأَسْبَابِ الْخَفِيفَةِ ; إِذْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ حَرْفَانِ مُتَحَرِّكَانِ عَلَى التَّوَالِي إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُنْقِصُ مِنْ سَلَاسَةِ اللَّفْظِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى اللِّسَانِ ، وَأَيْضًا الْخُرُوجُ مِنَ الْفَاءِ إِلَى اللَّامِ أَعْدَلُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ اللَّامِ إِلَى الْهَمْزَةِ لِبُعْدِ الْهَمْزَةِ مِنَ اللَّامِ ، وَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّادِ إِلَى الْحَاءِ أَعْدَلُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَلِفِ إِلَى اللَّامِ . ( التَّاسِعُ ) عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْحَيْثِيَّةِ - أَيِ التَّعْلِيلِ - وَقَوْلُهُمْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا . ( الْعَاشِرُ ) تَعْرِيفُ الْقِصَاصِ بِلَامِ الْجِنْسِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ هَذَا الْحُكْمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الضَّرْبِ وَالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُمْ لَا يَشْمَلُهُ . ( الْحَادِي عَشَرَ ) خُلُوُّهُ مَنْ أَفْعَلَ الْمُوهِمِ أَنَّ فِي التَّرْكِ نَفْيًا لِلْقَتْلِ أَيْضًا . ( الثَّانِي عَشَرَ ) اشْتِمَالُهُ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْقَتْلِ وَهُوَ الْحَيَاةُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى نَفْيٍ اكْتَنَفَهُ قَتْلَانِ وَإِنَّهُ لِمَا يَلِيقُ بِهِمْ . ( الثَّالِثَ عَشَرَ ) خُلُوُّهُ مِمَّا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ مِنْ كَوْنِ
[ ص: 107 ] الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَلَتْ كَلِمَتُهُ ، وَبَهَرَتْ آيَتُهُ . ا هـ .
وَأَقُولُ : إِنَّ الْآيَةَ عَلَى كَوْنِهَا أَبْلَغَ ، وَكَلِمَتِهَا أَوْجَزَ ، قَدْ أَفَادَتْ حُكْمًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ قَبْلَهَا ، وَلَمْ يَطْلُبْهُ أَحَدٌ مِنْ عُقَلَائِهِمْ وَبُلَغَائِهِمْ ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْعُقُوبَةِ وَبَيَانُ أَنَّ فِيهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ ، وَصِيَانَةَ النَّاسِ مِنِ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . وَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِالْقَتْلِ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ أَوْ يَنْتَفِيَ فَهُوَ يَصْدُقُ بِاعْتِدَاءِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ ، وَالْإِسْرَافِ فِي قَتْلِ رِجَالِهَا لِتَضْعُفَ فَلَا تَقْدِرَ عَلَى أَخْذِ الثَّأْرِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى : إِنَّ قَتْلَنَا لِعَدُوِّنَا إِحْيَاءٌ لَنَا ، وَتَقْلِيلٌ أَوْ نَفْيٌ لِقَتْلِهِ إِيَّانَا ، وَأَيْنَ هَذَا الظُّلْمُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ ؟ فَالْآيَةُ الْحَكِيمَةُ قَرَّرَتْ أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ بِالذَّاتِ ، وَأَنَّ الْقِصَاصَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهَا ; لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا يَرْتَدِعُ عَنِ الْقَتْلِ فَيَحْفَظُ الْحَيَاةَ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى نَفْسِهِ ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالدِّيَةِ لَا يَرْدَعُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْ سَفْكِ دَمِ خَصْمِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ الْإِيقَاعِ بِعَدُوِّهِ ، وَفِي الْآيَةِ مِنْ بَرَاعَةِ الْعِبَارَةِ وَبَلَاغَةِ الْقَوْلِ مَا يَذْهَبُ بِاسِتِبْشَاعِ إِزْهَاقِ الرُّوحِ فِي الْعُقُوبَةِ ، وَيُوَطِّنُ النُّفُوسَ عَلَى قَبُولِ حُكْمِ الْمُسَاوَاةِ إِذْ لَمْ يُسَمِّ الْعُقُوبَةَ قَتْلًا أَوْ إِعْدَامًا ، بَلْ سَمَّاهَا مُسَاوَاةً بَيْنَ النَّاسِ تَنْطَوِي عَلَى حَيَاةٍ سَعِيدَةٍ لَهُمْ ، هَذَا وَإِنَّ دُوَلَ الْإِفْرِنْجِ تَجْرِي عَلَى سُنَّةِ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي جَعْلِ الْقَتْلِ لِأَعْدَائِهَا وَخُصُومِهَا أَنْفَى لِقَتْلِهِمْ إِيَّاهَا ، وَذَلِكَ شَأْنُهُمْ مَعَ الضُّعَفَاءِ كَالشُّعُوبِ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهَا بِاسْمِ الِاسْتِعْمَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ ، فَأَيْنَ هِيَ مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ ، وَمُسَاوَاتِهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنَامِ ؟
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْحِكْمَةِ وَالْبُرْهَانِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) فَخَصَّ بِالنِّدَاءِ أَصْحَابَ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ ، مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَا اللُّبِّ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، وَيَعْرِفُ مَا تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ وَمَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهَا ، وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ : الْقِصَاصُ وَهُوَ الْعَدْلُ ، وَالْعَفْوُ وَهُوَ الْفَضْلُ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّ ذَا اللُّبِّ هُوَ الَّذِي يَفْقَهُ سِرَّ هَذَا الْحُكْمِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ، فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَقْلَهُ فِي فَهْمِ دَقَائِقِ الْأَحْكَامِ ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ لِلْأَنَامِ ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ مَنْفَعَةَ الْقِصَاصِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ ، فَهُوَ بِلَا لُبٍّ وَلَا جَنَانٍ . وَلَا رَحْمَةٍ وَلَا حَنَانٍ . وَقَوْلُهُ : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) جَعَلَهُ (
الْجَلَالُ ) تَعْلِيلًا لِشَرْعِ الْقِصَاصِ وَقَدَّرَ لَهُ ( ( شَرَعَ ) ) أَيْ : لَمَّا كَانَ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لَكُمْ كَتَبْنَاهُ عَلَيْكُمْ وَشَرَعْنَاهُ لَكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الِاعْتِدَاءَ ، وَتَكُفُّونَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَالشَّرْعِيَّةُ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْآيَةِ ، وَإِيجَازُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِهَا لِأَجْلِ التَّعْلِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=178كُتِبَ عَلَيْكُمْ ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ ( ( شَرَعَ ) ) وَيَتَعَلَّقُ الرَّجَاءُ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ :
[ ص: 108 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) أَيْ : ثَبَتَتْ لَكُمُ الْحَيَاةُ فِي الْقِصَاصِ لِتَعُدَّكُمْ وَتُهَيِّئَكُمْ لِلتَّقْوَى وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ ، وَسَائِرِ ضُرُوبِ الِاعْتِدَاءِ ، إِذِ الْعَاقِلُ حَرِيصٌ عَلَى الْحَيَاةِ وَلُوعٌ بِالْأَخْذِ بِوَسَائِلِهَا ، وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ غَوَائِلِهَا .