(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45nindex.php?page=treesubj&link=28982ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين )
هذه الآيات الثلاث في مسألة فرعية من قصة
نوح لا من صلب القصة وأصول وقائعها ولكنها تدخل في العقائد وأصول الدين من بابين اثنين لا من باب واحد ، أحدهما : باب الإلهيات بما فيها من
nindex.php?page=treesubj&link=30364حكم الله وعدله وسنته في خلقه بلا محاباة لولي ولا نبي ، وثانيهما :
nindex.php?page=treesubj&link=22291_22271اجتهاد الأنبياء وجواز الخطأ فيه وعده ذنبا عليهم بالإضافة إلى مقامهم ومعرفتهم بربهم ، - وهي ما عرض له - عليه السلام - من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلف عن السفينة وكان من المغرقين كما مر في الآية ( 43 ) وكان ظاهر الترتيب أن تجعل بعدها فتكون ( 44 ) ووجه هذا التقديم والتأخير بينهما الذي اقتضته البلاغة العليا ، والحكمة البالغة المثلى ، هو أن قدمت الآية المتممة لأصل القصة المبينة لوجه العبرة فيها بأروع التعبير ، الذي يقرع أبواب القلوب
[ ص: 70 ] بأبلغ قوارع التأثير ، فكان اتصالها بها كاتصال الموجب بالسالب من الكهربائية الذي يتولد ، به البرق الذي يخطف الأبصار ، والصاعقة التي تمحق ما تصيبه من الأشياء والأشخاص ، فالآية الثالثة والأربعون تصور لقارئها وسامعها نكبة الطوفان بأعظم الصور هولا ورعبا ودهشا تطيش لها الألباب ، وتحار في تصور كشفها وما يئول إليه أمرها الأخيلة والأفكار ، فتتلوها الآية الرابعة والأربعون فتكون الفاصلة بكشف ذلك الكرب العظيم بكلمتين وجيزتين من كلمات التكوين الإلهي ، قضي بهما الأمر بنجاة المؤمنين الصالحين ، وهلاك المشركين الظالمين ، ولو فصل بينهما بهذه الآيات الثلاث ( 45 - 47 ) اللواتي وضعن بعدهما ، لضاع تسعة أعشار بلاغتهما وتأثيرهما في العبرة والموعظة المقصودة عن القصة كلها ، التي كانت كاشتعال الكهرباء مظهرا لسرعة مشيئته - تعالى - في كشف الكرب ، فكان منها نور ظهرت به رحمته في إنجاء السفينة وأهلها المؤمنين ، وصاعقة محقت جميع الظالمين .
nindex.php?page=treesubj&link=31832_31836_28982 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45ونادى نوح ربه ) في إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45فقال رب إن ابني من أهلي ) هذا تفسير لـ ( ( نادى ) ) أي فكان نداؤه أن قال : يا رب إن ابني هذا من أهلي الذين وعدتني بنجاتهم إذ أمرتني بحملهم في السفينة (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45وإن وعدك الحق ) الذي لا خلف فيه ، وهذا منه (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45وأنت أحكم الحاكمين ) أي : أحق من كل من يتصور منهم الحكم ، وأحسنهم وخيرهم حكما كما قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=50ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) ( 5 : 50 ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=109وهو خير الحاكمين ) وذلك أن حكمه - تعالى - لا يكون إلا بالحق والعدل ، لأنه يصدر عن كمال العلم والعدل والحكمة ، فلا يعرض له الخطأ ولا المحاباة ، ولا الحيف والظلم ، وحكمه - تعالى - يطلق على ما يشرعه من الأحكام ، وعلى ما ينفذه في عباده من جزاء على الأعمال ، ومراد
نوح بهذا أن ينجي ابنه الذي تخلف عن السفينة بعد أن دعاه إليها فامتنع ، معللا نفسه بأن يأوي إلى جبل يعتصم به من الغرق ، ولم يقتنع بقوله له :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=43لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم : 43 فالمعقول أن الدعاء وقع بعد هذه المحاورة مع ابنه وقبل أن يحول بينهما الموج .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46قال يانوح إنه ليس من أهلك ) الذين أمرتك أن تسلكهم في السفينة لإنجائهم ، وفسر هذا النفي وعلله أو وجهه بقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46إنه عمل غير صالح ) قرأ الجمهور ( ( عمل ) ) برفع اللام والتنوين على المبالغة في التشبيه كرجل عدل ، كأنه لفساده واجتنابه للصلاح والتزامه العمل غير الصالح نفس العمل ، كما قالت
الخنساء في وصف الناقة :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ويعقوب بصيغة الفعل الماضي بتقدير : عمل عملا غير صالح ، والأول
[ ص: 71 ] أبلغ ، والمراد أنه كان كافرا يعمل عمل الكافرين ، والكفر يقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من الأقربين ، ويوجب براءة بعضهم من بعض ، كما قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=4قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ) ( 60 : 4 ) الآية ، كما أن الإيمان يوجب الولاية بين المؤمنين الأبعدين - بله الأقربين - كما قال عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=71والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ( 9 : 71 ) . وقيل إن معنى الجملة : إن سؤالك إياي يا
نوح عنه وطلبك لنجاته عمل غير صالح لا أرضاه لك . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وما أراه يصح عنه ، وقيل : إنه كان ولد زنا ، أو كان ولد غيره من امرأته ، وهو ظاهر البطلان ; لأن الله - تعالى - سماه ابنه .
فإن قيل : كيف وقع هذا من
نوح - عليه السلام - وقد استثنى الله - تعالى - من أهله الذين وعده بنجاتهم فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=27وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم 23 : 27 ولا يعزب عن علمه أن الذين سبق عليهم القول هم الكافرون الذين قضى الله بهلاكهم بعد دعائه عليهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ( 71 : 26 ) وكانت امرأته وابنه هذا منهم ، ولا يعقل أن يخفى عليه أمرهما ؟ ولكن امرأته لم تذكر في قصته ، وإنما ذكرت في سورة التحريم مع
امرأة لوط في خيانة زوجيهما ودخولهما النار ، واستثنيت
امرأة لوط من النجاة مع المؤمنين في قصته ؟
( قلنا ) يحتمل أن يكون حين رأى ابنه بمعزل عن الكفار ، ظن أنه قد بدا له كفره فكرهه وجنح للإيمان ، ويحتمل أن يكون قد فهم أنه غير داخل في عموم قوله - تعالى - له :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=36أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن 11 : 36 ; لأنه - تعالى - جعل الناجين قسمين : أهله إلا من استثنى ، ومن آمن من قومه ، فجاز في فهمه أن يؤمن من أهله من كان كافرا لأنهم قسيم لقومه منهم ، ووافق هذا الفهم وقواه رحمة الأبوة فسأل الله - تعالى - أن يحققه ، ولما كان هذا اجتهادا ظنيا لا يليق بنبي رسول من أولي العزم أن يخاطب به ربه عاتبه - تعالى - وأدبه عليه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46فلا تسألني ما ليس لك به علم ) أي : فلا تسألني في شيء ما من الأشياء ليس لك به علم صحيح أنه حق وصواب ، وسمى دعاءه سؤالا ; لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله وما رتبه عليه من طلب نجاة ولده ، وقرأ
ابن كثير ( ( تسألن ) ) بفتح اللام وتشديد النون المفتوحة ،
وابن عامر بتشديدها مكسورة وكذا
نافع مع إثبات الياء .
وهذا النهي يدل على أنه
nindex.php?page=treesubj&link=29496_19746يشترط في الدعاء أن يكون بما هو جائز في شرع الله وسننه في خلقه ، فلا يجوز سؤال ما هو محرم وما هو مخالف لسنن الله القطعية بما يقتضي تبديلها ، ولا تحويلها وقلب نظام الكون لأجل الداعي ، ولكن يجوز الدعاء بتسخير الأسباب ، وتوفيق الأقدار للأقدار ،
[ ص: 72 ] والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام ، مع ما يؤدي إلى ذلك من الأعمال - كما فصلناه من قبل .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) أي أنهاك أن تكون من زمرة الجاهلين ، الذين يسألون أن يبطل - تعالى - تشريعه أو حكمته وتقديره في خلقه إجابة لشهواتهم وأهوائهم في أنفسهم أو أهليهم ومحبيهم ، وأجهل منهم وأضل سبيلا من يسألون بعض الصالحين عندهم ما نهى الله عنه نبيا من أولي العزم من رسله أن يسأله إياه ، كأن هؤلاء الصالحين يعطونهم أو يتوسلون إلى الله أن يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله ، بل ما عد طلبه منه ذنبا من ذنوبهم أمرهم بالتوبة منه وعدم العودة إلى مثله ، كما يدل عليه الوعظ هنا بمعونة قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=17يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ) ( 24 : 17 ) وتقدم معنى الوعظ في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) ( 10 : 57 ) ( ص 328 ج 11 ط الهيئة ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) أي : إني أعتصم وأحتمي بك من أن أسألك بعد الآن ما ليس لي علم صحيح بأنه جائز لائق (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47وإلا تغفر لي ) أي : وإن لم تغفر لي ذنب هذا السؤال الذي سولته لي رحمتي الأبوية ، وطمعي برحمتك الربانية (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47وترحمني ) بقبول توبتي الصادقة ورحمتك التي وسعت كل شيء (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47أكن من الخاسرين ) فيما حاولته من الربح بنجاة أولادي كلهم وسعادتهم بطاعتك وأنت أعلم بهم مني ، والعبرة في هذه المسألة من وجوه : ( أولها ) أن سؤال
نوح - عليه السلام - ما سأله لابنه لم يكن معصية لله - تعالى - خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما كانت خطأ في اجتهاد رأي بنية صالحة ، وإنما عدها الله - تعالى - ذنبا له لأنها كانت دون مقام العلم الصحيح بمنزلته من ربه ، هبطت بضعفه البشري وما غرس في الفطرة من الرأفة والرحمة بالأولاد إلى اتباع الظن ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء فيقعون فيه أحيانا ، ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن ، بما يصعدون به في معارج العرفان .
( ثانيها ) أن
nindex.php?page=treesubj&link=30483الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة والأنساب ، وقد يختلف باختلاف استعداد الأفراد ، وما يحيط بهم من الأسباب ، وما يكونون عليه من الآراء والأعمال ، ولو كان بالوراثة لكان جميع ولد آدم كأبيهم ، غاية ما يقع منهم معصية تقع عن النسيان وضعف العزم ، وتتبعها التوبة واجتباء الرب ، ثم لكان سلائل أبناء
نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين صالحين ، والمشهور أن نسل البشر انحصر فيهم ، وقد دلت
[ ص: 73 ] الآية الآتية على أن فيهم الصالحين والطالحين وأيد ذلك الواقع ، بل لما كان أحدهم المذكور هنا كافرا هالكا .
( ثالثها ) أن
nindex.php?page=treesubj&link=30483_29468_30364الله - تعالى - يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم ، ولا يحابي أحدا منهم لأجل آبائه وأجداده الصالحين وإن كانوا من الأنبياء المرسلين ، وأن من سأله من هؤلاء الآباء ما يخالف سننه في شرعه وحكمته في نظام خلقه ، كان مذنبا يستحق التأديب ، حتى يتوب وينيب .
( رابعها ) أن هؤلاء المغرورين بأنسابهم من الشرفاء الجاهلين بكتاب ربهم وما يليق بعظمة الربوبية ، وعلو الألوهية ، الجاهلين بسنة نبيهم ، الذين يزعمون أنهم أفضل من العلماء العاملين ، والصالحين المصلحين ، والأغنياء الشاكرين ، والفقراء الصابرين ، وإن كانوا عراة مما كسا الله هؤلاء الأصناف من لباس التقوى والدين ، وأنهم يستحقون سعادة الدنيا والآخرة بنسبهم ، ويستحقها من عظمهم وأفاض عليهم من ماله بمحاباة الله له لأجلهم ، أولئك هم الجاهلون الذين يشهد عليهم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهديه في إنذار عشيرته وأهل بيته ، كقوله لبنته سيدة نساء العالمين : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918633يا nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئا ) ) رواه الشيخان من حديث طويل .
هؤلاء الجاهلون المساكين يعدون أعدى أعدائهم من يدعوهم أو يدعو الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله وخاتم النبيين ، ويعدون أصدق أصدقائهم المبتدعين الخرافيين المشعوذين .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45nindex.php?page=treesubj&link=28982وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ مِنْ قِصَّةِ
نُوحٍ لَا مِنْ صُلْبِ الْقِصَّةِ وَأُصُولِ وَقَائِعِهَا وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ بَابَيْنِ اثْنَيْنِ لَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، أَحَدُهُمَا : بَابُ الْإِلَهِيَّاتِ بِمَا فِيهَا مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30364حُكْمِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ بِلَا مُحَابَاةٍ لِوَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ ، وَثَانِيهِمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=22291_22271اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازُ الْخَطَأِ فِيهِ وَعَدُّهُ ذَنْبًا عَلَيْهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَقَامِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ ، - وَهِيَ مَا عَرَضَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ ابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ كَمَا مَرَّ فِي الْآيَةِ ( 43 ) وَكَانَ ظَاهِرُ التَّرْتِيبِ أَنْ تُجْعَلَ بَعْدَهَا فَتَكُونَ ( 44 ) وَوَجْهُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَهُمَا الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ الْعُلْيَا ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْمُثْلَى ، هُوَ أَنْ قُدِّمَتِ الْآيَةُ الْمُتَمِّمَةُ لِأَصْلِ الْقِصَّةِ الْمُبَيِّنَةُ لِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهَا بِأَرْوَعِ التَّعْبِيرِ ، الَّذِي يَقْرَعُ أَبْوَابَ الْقُلُوبِ
[ ص: 70 ] بِأَبْلَغِ قَوَارِعِ التَّأْثِيرِ ، فَكَانَ اتِّصَالُهَا بِهَا كَاتِّصَالِ الْمُوجَبِ بِالسَّالِبِ مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ ، بِهِ الْبَرْقُ الَّذِي يَخْطِفُ الْأَبْصَارَ ، وَالصَّاعِقَةُ الَّتِي تَمْحَقُ مَا تُصِيبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَشْخَاصِ ، فَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ تُصَوِّرُ لِقَارِئِهَا وَسَامِعِهَا نَكْبَةَ الطُّوفَانِ بِأَعْظَمِ الصُّوَرِ هَوْلًا وَرُعْبًا وَدَهْشًا تَطِيشُ لَهَا الْأَلْبَابُ ، وَتَحَارُ فِي تَصَوُّرِ كَشْفِهَا وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهَا الْأَخْيِلَةُ وَالْأَفْكَارُ ، فَتَتْلُوهَا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فَتَكُونُ الْفَاصِلَةَ بِكَشْفِ ذَلِكَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ بِكَلِمَتَيْنِ وَجِيزَتَيْنِ مِنْ كَلِمَاتِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ ، قُضِيَ بِهِمَا الْأَمْرُ بِنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ ، وَهَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ ، وَلَوْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ ( 45 - 47 ) اللَّوَاتِي وُضِعْنَ بَعْدَهُمَا ، لَضَاعَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ بَلَاغَتِهِمَا وَتَأْثِيرِهِمَا فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمَقْصُودَةِ عَنِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا ، الَّتِي كَانَتْ كَاشْتِعَالِ الْكَهْرَبَاءِ مُظْهِرًا لِسُرْعَةِ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِي كَشْفِ الْكَرْبِ ، فَكَانَ مِنْهَا نُورٌ ظَهَرَتْ بِهِ رَحْمَتُهُ فِي إِنْجَاءِ السَّفِينَةِ وَأَهْلِهَا الْمُؤْمِنِينَ ، وَصَاعِقَةٌ مَحَقَتْ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ .
nindex.php?page=treesubj&link=31832_31836_28982 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ ) فِي إِثْرِ نِدَائِهِ لِابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَدَعَاهُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَسْتَجِبْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) هَذَا تَفْسِيرٌ لِـ ( ( نَادَى ) ) أَيْ فَكَانَ نِدَاؤُهُ أَنْ قَالَ : يَا رَبِّ إِنَّ ابْنِي هَذَا مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدَتْنِي بِنَجَاتِهِمْ إِذْ أَمَرْتَنِي بِحَمْلِهِمْ فِي السَّفِينَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) الَّذِي لَا خُلْفَ فِيهِ ، وَهَذَا مِنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=45وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) أَيْ : أَحَقُّ مِنْ كُلِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْحُكْمُ ، وَأَحْسَنُهُمْ وَخَيْرُهُمْ حُكْمًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=50وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ( 5 : 50 ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=109وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ ، لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ الْخَطَأُ وَلَا الْمُحَابَاةُ ، وَلَا الْحَيْفُ وَالظُّلْمُ ، وَحُكْمُهُ - تَعَالَى - يُطْلَقُ عَلَى مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَعَلَى مَا يُنَفِّذُهُ فِي عِبَادِهِ مِنْ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ ، وَمُرَادُ
نُوحٍ بِهَذَا أَنْ يُنْجِيَ ابْنَهُ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُ إِلَيْهَا فَامْتَنَعَ ، مُعَلِّلًا نَفْسَهُ بِأَنْ يَأْوِيَ إِلَى جَبَلٍ يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ ، وَلَمْ يَقْتَنِعْ بِقَوْلِهِ لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=43لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ : 43 فَالْمَعْقُولُ أَنَّ الدُّعَاءَ وَقَعَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ ابْنِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَسْلُكَهُمْ فِي السَّفِينَةِ لِإِنْجَائِهِمْ ، وَفَسَّرَ هَذَا النَّفْيَ وَعَلَّلَهُ أَوْ وَجَّهَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ( ( عَمَلٌ ) ) بِرَفْعِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ ، كَأَنَّهُ لِفَسَادِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِلصَّلَاحِ وَالْتِزَامِهِ الْعَمَلَ غَيْرَ الصَّالِحِ نَفْسُ الْعَمَلِ ، كَمَا قَالَتِ
الْخَنْسَاءُ فِي وَصْفِ النَّاقَةِ :
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِتَقْدِيرِ : عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ ، وَالْأَوَّلُ
[ ص: 71 ] أَبْلَغُ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا يَعْمَلُ عَمَلَ الْكَافِرِينَ ، وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ ، وَيُوجِبُ بَرَاءَةَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=4قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ ) ( 60 : 4 ) الْآيَةَ ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْعَدِينَ - بَلْهَ الْأَقْرَبِينَ - كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=71وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ( 9 : 71 ) . وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ : إِنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ يَا
نُوحُ عَنْهُ وَطَلَبَكَ لِنَجَاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ لَا أَرْضَاهُ لَكَ . رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ وَلَدَ زِنًا ، أَوْ كَانَ وَلَدَ غَيْرِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ ابْنَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْ
نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدِ اسْتَثْنَى اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=27وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ 23 : 27 وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ قَضَى اللَّهُ بِهَلَاكِهِمْ بَعْدَ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( 71 : 26 ) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ هَذَا مِنْهُمْ ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمَا ؟ وَلَكِنَّ امْرَأَتَهُ لَمْ تُذْكَرْ فِي قِصَّتِهِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ مَعَ
امْرَأَةِ لُوطٍ فِي خِيَانَةِ زَوْجَيْهِمَا وَدُخُولِهِمَا النَّارَ ، وَاسْتُثْنِيَتِ
امْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ النَّجَاةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّتِهِ ؟
( قُلْنَا ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِينَ رَأَى ابْنَهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْكُفَّارِ ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ كُفْرُهُ فَكَرِهَهُ وَجَنَحَ لِلْإِيمَانِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَهِمَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=36أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ 11 : 36 ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ النَّاجِينَ قِسْمَيْنِ : أَهْلَهُ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى ، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ ، فَجَازَ فِي فَهْمِهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُمْ قَسِيمٌ لِقَوْمِهِ مِنْهُمْ ، وَوَافَقَ هَذَا الْفَهْمَ وَقَوَّاهُ رَحْمَةُ الْأُبُوَّةِ فَسَأَلَ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُحَقِّقَهُ ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا ظَنِّيًّا لَا يَلِيقُ بِنَبِيٍّ رَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ رَبَّهُ عَاتَبَهُ - تَعَالَى - وَأَدَّبَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أَيْ : فَلَا تَسْأَلْنِي فِي شَيْءٍ مَا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ ، وَسَمَّى دُعَاءَهُ سُؤَالًا ; لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ ذِكْرَ الْوَعْدِ بِنَجَاةِ أَهْلِهِ وَمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ نَجَاةِ وَلَدِهِ ، وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ ( ( تَسْأَلَنَّ ) ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ ،
وَابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَكْسُورَةً وَكَذَا
نَافِعٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْيَاءِ .
وَهَذَا النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29496_19746يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ جَائِزٌ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ ، فَلَا يَجُوزُ سُؤَالُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللَّهِ الْقَطْعِيَّةِ بِمَا يَقْتَضِي تَبْدِيلَهَا ، وَلَا تَحْوِيلَهَا وَقَلْبَ نِظَامِ الْكَوْنِ لِأَجْلِ الدَّاعِي ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ ، وَتَوْفِيقِ الْأَقْدَارِ لِلْأَقْدَارِ ،
[ ص: 72 ] وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَجْهُولِ مِنَ السُّنَنِ وَالنِّظَامِ ، مَعَ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) أَيْ أَنْهَاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ الْجَاهِلِينَ ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَ أَنْ يُبْطِلَ - تَعَالَى - تَشْرِيعَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ فِي خَلْقِهِ إِجَابَةً لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَهْلِيهِمْ وَمُحِبِّيهِمْ ، وَأَجْهَلُ مِنْهُمْ وَأَضَلُّ سَبِيلًا مَنْ يَسْأَلُونَ بَعْضَ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُمْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيًّا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ رُسُلِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهُ ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ يُعْطُونَهُمْ أَوْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا لَمْ يُعْطِ مِثْلَهُ لِرُسُلِهِ ، بَلْ مَا عُدَّ طَلَبُهُ مِنْهُ ذَنْبًا مِنْ ذُنُوبِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَعْظُ هُنَا بِمَعُونَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=17يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( 24 : 17 ) وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَعْظِ فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( 10 : 57 ) ( ص 328 ج 11 ط الْهَيْئَةِ ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) أَيْ : إِنِّي أَعْتَصِمُ وَأَحْتَمِي بِكَ مِنْ أَنْ أَسْأَلَكَ بَعْدَ الْآنِ مَا لَيْسَ لِي عِلْمٌ صَحِيحٌ بِأَنَّهُ جَائِزٌ لَائِقٌ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ) أَيْ : وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لِي ذَنْبَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي سَوَّلَتْهُ لِي رَحْمَتِي الْأَبَوِيَّةُ ، وَطَمَعِي بِرَحْمَتِكَ الرَّبَّانِيَّةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47وَتَرْحَمْنِي ) بِقَبُولِ تَوْبَتِي الصَّادِقَةِ وَرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=47أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فِيمَا حَاوَلْتُهُ مِنَ الرِّبْحِ بِنَجَاةِ أَوْلَادِي كُلِّهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ بِطَاعَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنِّي ، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَوَّلُهَا ) أَنَّ سُؤَالَ
نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا سَأَلَهُ لِابْنِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالَفَ فِيهَا أَمْرَهُ أَوْ نَهْيَهُ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَطَأً فِي اجْتِهَادِ رَأْيٍ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ ، وَإِنَّمَا عَدَّهَا اللَّهُ - تَعَالَى - ذَنْبًا لَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ دُونَ مَقَامِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَنْزِلَتِهِ مِنْ رَبِّهِ ، هَبَطَتْ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَمَا غُرِسَ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ إِلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ ، وَمِثْلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَيَقَعُونَ فِيهِ أَحْيَانًا ، لِيَشْعُرُوا بِحَاجَتِهِمْ إِلَى تَأْدِيبِ رَبِّهِمْ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ ، بِمَا يَصْعَدُونَ بِهِ فِي مَعَارِجِ الْعِرْفَانِ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30483الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْوِرَاثَةِ وَالْأَنْسَابِ ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ ، وَمَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَعْمَالِ ، وَلَوْ كَانَ بِالْوِرَاثَةِ لَكَانَ جَمِيعُ وَلَدِ آدَمَ كَأَبِيهِمْ ، غَايَةُ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ تَقَعُ عَنِ النِّسْيَانِ وَضَعْفِ الْعَزْمِ ، وَتَتْبَعُهَا التَّوْبَةُ وَاجْتِبَاءُ الرَّبِّ ، ثُمَّ لَكَانَ سَلَائِلُ أَبْنَاءِ
نُوحٍ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ نَسْلَ الْبَشَرِ انْحَصَرَ فِيهِمْ ، وَقَدْ دَلَّتِ
[ ص: 73 ] الْآيَةُ الْآتِيَةُ عَلَى أَنَّ فِيهِمُ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ وَأَيَّدَ ذَلِكَ الْوَاقِعُ ، بَلْ لَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ الْمَذْكُورُ هُنَا كَافِرًا هَالِكًا .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30483_29468_30364اللَّهَ - تَعَالَى - يَجْزِي النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَنْسَابِهِمْ ، وَلَا يُحَابِي أَحَدًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ الصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ ، وَأَنَّ مَنْ سَأَلَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآبَاءِ مَا يُخَالِفُ سُنَنَهُ فِي شَرْعِهِ وَحِكْمَتَهُ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ ، كَانَ مُذْنِبًا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ ، حَتَّى يَتُوبَ وَيُنِيبَ .
( رَابِعُهَا ) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الشُّرَفَاءِ الْجَاهِلِينَ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَعُلُوِّ الْأُلُوهِيَّةِ ، الْجَاهِلِينَ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمُ ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ ، وَالصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ ، وَالْأَغْنِيَاءِ الشَّاكِرِينَ ، وَالْفُقَرَاءِ الصَّابِرِينَ ، وَإِنْ كَانُوا عُرَاةً مِمَّا كَسَا اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَالدِّينِ ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَسَبِهِمْ ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَظَّمَهُمْ وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ بِمُحَابَاةِ اللَّهِ لَهُ لِأَجْلِهِمْ ، أُولَئِكَ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَدْيُهُ فِي إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، كَقَوْلِهِ لِبِنْتِهِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918633يَا nindex.php?page=showalam&ids=129فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ .
هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمَسَاكِينُ يَعُدُّونَ أَعْدَى أَعْدَائِهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ أَوْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ ، وَيَعُدُّونَ أَصْدَقَ أَصْدِقَائِهِمُ الْمُبْتَدِعِينَ الْخُرَافِيِّينَ الْمُشَعْوِذِينَ .