(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=227وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم )
هذه الآيات في أحكام الأيمان ، وهي عامة وخاصة والثاني هو حلف الرجل ألا يقرب امرأته وخص باسم الإيلاء في عرف الشرع كما سيأتي ، فبين الآيات وما قبلها وما بعدها تناسب بهذا الاعتبار .
[ ص: 290 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224nindex.php?page=treesubj&link=28973_33061ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) العرضة - بالضم كالغرفة - لها معان أظهرها هنا اثنان ، أحدهما : أن تكون بمعنى المانع المعترض دون الشيء; أي : لا تجعلوا الله تعالى مانعا بينكم وبين عمل ؛ بأن تحلفوا به على تركه فتتركوه تعظيما لاسمه ، ويؤيد هذا المعنى ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في سبب نزول الآية ، وهو حلف
أبي بكر رضي الله عنه على ترك الإنفاق على (
مسطح ) بعد أن خاض في قصة الإفك ، وفيه نزل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=22ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ) ( 24 : 22 ) الآية ، ويؤيده أيضا أحاديث في الصحيحين وغيرهما منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918774من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) ) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918775والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) ) وفي حديث
عائشة عند
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918776من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه ) ) وفي هذا المعنى أحاديث أخرى ، ذلك أن الإنسان يسرع إلى لسانه الحلف أنه لا يفعل كذا وقد يكون خيرا ، وليفعلن كذا وقد يكون شرا ، والله تعالى لا يرضى بأن يكون اسمه حجابا دون الخير ، أو محضاء للشر ، فنهى عن ذلك ، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بوجوب تحري الخير والأحسن وإن حلف على غيره فليكفر عن يمينه بما هو منصوص في سورة المائدة .
والمعنى الثاني للعرضة ما يعرض للشيء أن ما ينصب ليعرض له الشيء كالهدف للسهام ، يقال : فلان عرضة للناس إذا كانوا يقعون فيه ويعرضون له بالمكروه ، قال الشاعر :
وإن تتركوا رهط الفدوكس عصبة يتامى أيامى عرضة للقبائل
ويقال : جعلته عرضة لكذا; أي : نصبته له فكان معروضا ومعرضا له، يكثر وروده عليه ، وقال الشاعر :
طلقتهن وما الطلاق بسبة إن النساء لعرضة التطليق
والمعنى على هذا الوجه لا تكثروا الحلف بالله تعالى ، فالذي يجعل الله عرضة لأيمانه هو كالحلاف في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=10ولا تطع كل حلاف مهين ) ( 68 : 10 ) فكثير الحلف حليف المهانة وقرينها ، وقد ذكر تعالى في هذه الآيات صفات أخرى ذميمة نهى عن أهلها وبدأها بالخلاف بعدما تقدم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=11هماز مشاء بنميم nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=12مناع للخير معتد أثيم nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=13عتل بعد ذلك زنيم ) ( 68 : 11 - 13 ) فالحلاف يعد في مقدمة هؤلاء الأشرار ، ومن أكثر الحلف قلت مهابته وكثر حنثه واتهم بالكذب ، ولا يكون الحلاف إلا كذابا ، فهو على إهانته لاسم الله تعالى يفوته ما يريد من قبول قوله وتصديقه ، فالآية الكريمة ترشدنا إلى ترك الحلف بالله
[ ص: 291 ] تعالى إلا عند الحاجة إلى ذلك . وهذا الوجه أظهر من الذي سبقه ، والعرضة بهذا المعنى أكثر استعمالا . وكانت العرب تتمدح بقلة الحلف وحفظ الأيمان ، قال الشاعر :
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت
الألايا : جمع ألية وهي اليمين كقضية وقضايا ، وإنك لتجد كثيرا من أهل الدين لا يحفظون من أيمانهم ما كان يحفظ أهل الشرك في الجاهلية ، فأين هم من قول الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا ؟ وقال الأستاذ الإمام : من مذام كثرة الحلف أنه يقلل ثقة الإنسان بنفسه ، وثقة الناس به ، فهو يشعر بأنه لا يصدق فيحلف ، ولهذا وصفه الله تعالى بالمهين ، وكثيرا ما يعرض نفسه للخطأ إذا حلف على المستقبل ، ثم إنه لا يكون إلا قليل الخشية والتعظيم لله تعالى لا يهمه إلا أن يرضى الناس ويكون موثوقا به عندهم ، فتعريض اسم الله تعالى للحلف بدون ضرورة ولا حاجة ينشأ عن فقد هيبة الله وإجلاله من النفس ، فإن الناس يتعلمون كثرة الحلف من أمهاتهم ، ومن الولدان الذين يتربون معهم وهم صغار . فيتعودون عدم احترام اسم الله تعالى .
قال الأستاذ الإمام بعد تقرير هذا المعنى : وقد نجد هذا الحلف فاشيا حتى في المشتغلين بعلم الدين ، ذلك أن علم الدين أصبح صناعة لفظية لا أثر لها في القلوب ولا في الأعمال ، وقد حدثني بعضهم حديثا أربع مرات وفي كل مرة كان يحلف عليه ويكذب فيه بما يزيد فيه وينقص منه .
nindex.php?page=treesubj&link=28973_16479وقوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ) على الوجه الأول بيان للأيمان لأنها بمعنى المحلوف عليه; أي : لا تجعلوه مانعا لما حلفتم على تركه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس ، بل إذا حلف أحدكم على ترك البر أو التقوى أو الإصلاح فليكفر عن يمينه وليفعل البر والتقوى والإصلاح ، فلا عذر لأحد في ترك ذلك ، ولا يرضى الله تعالى أن يكون اسمه مانعا منه ، وأما على الوجه الثاني فهو لتعليل النهي; أي : لا تجعلوه تعالى معرضا لأيمانكم لأجل البر والتقوى والإصلاح ، فإن كثير الحلف لا يكون أهلا لذلك ؛ لما تقدم من كونه يكون مهينا ، غير معظم لله تعالى ، وعرضة للكذب والحنث ، وغير موثوق بقوله ، فأنى يرضاه الناس مصلحا بينهم ؟ والمصلح مرب ومؤدب وحاكم مطاع بالاختيار . ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224والله سميع عليم ) أي : سميع لما تلفظون به من الحلف وغيره ، عليم بما يترتب على كثرة الحلف وبغيره من أعمالكم فعليكم أن تراقبوه وتتذكروا عند داعية كل قول وعمل أنه سميع لأقوالكم عليم بأفعالكم ، لعلكم تقفون عند حدود هدايته لكم فتكونون من المفلحين ، وإلا كنتم من الخاسرين .
هذا الختم للآية يتضمن الوعيد على كثرة الحلف ، فإذا دخل فيه ما يجري في الكلام
[ ص: 292 ] من قصد وروية كقول الإنسان : أي والله ، لا والله : وعد هذا مما يؤاخذ عليه ويجري فيه الحكم السابق كان الحرج عظيما ، وقد رفع الله هذا الحرج بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) فاللغو : أن يقع الكلام حشوا غير مقصود به معناه ، فهو يقول : إن هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد بها عقد اليمين لغو من القول لا تعد أيمانا حقيقية ، فلا يؤاخذكم الله تعالى بها بفرض الكفارة عليها ولا بالعقاب (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) بأن تقصدوا جعل اسمه الكريم عرضة للابتذال ، أو مانعا لصالح الأعمال ، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، فالقول الحشو الذي لا أثر له في القلب ، ولا شأن له في العمل ، مما يعفو عنه ، ولا يعاقب عليه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225والله غفور حليم ) يغفر لعبده ما يلم به مما لا يفسد أخلاقه وأعماله ، ولا يتعجل بالعقوبة على هذا اللمم الذي يضعف العبد عن التوقي منه; ولذلك لم يكلف عباده ما يشق عليهم فيما لم تقصده قلوبهم ولم تتعمده نفوسهم; لأنه مما لا يدخل تحت سلطة الاختيار ، وقد ذكر بعض الفقهاء للغو اليمين غير هذا المعنى المتبادر ووضعوا لذلك أحكاما ذكرها المفسرون ولا حاجة إليها ، وما قلناه هو المتبادر المأثور عن جمهور السلف .
بعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة انتقل إلى حكم اليمين الخاصة فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226nindex.php?page=treesubj&link=28973للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) إلخ ،
nindex.php?page=treesubj&link=11825_11826فالإيلاء من المرأة : أن يحلف الرجل أنه لا يقربها ، وهو مما يكون من الرجال عند المغاضبة والغيظ ، وفيه امتهان للمرأة وهضم لحقها وإظهار لعدم المبالاة بها ، فترك المقاربة الخاصة المعلومة ضرارا معصية ، والحلف عليه حلف على ما لا يرضي الله تعالى به لما فيه من ترك التواد والتراحم بين الزوجين وما يترتب على ذلك من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما وأقاربهما ، والظاهر أن حكم هذا الإيلاء ( ( الحلف ) ) يدخل في معنى الآية السابقة على الوجه الأول من الوجهين اللذين أوردناهما ، وهو أنه يجب على المؤلي أن يحنث ويكفر عن يمينه ، ولكنه إذا لم يفعل هذا الواجب لم يكن آثما في نفسه فقط ، فيقال : حسبه ما يلقى من جزاء إثمه ، بل يكون بإثمه هاضما لحق امرأته ، ولا يبيح له العدل هذا الهضم والظلم ، ولذلك أنزل الله فيه هذا الحكم ، وهو التربص مدة أربعة أشهر ، وقد قيل : إن هذه هي المدة التي لا يشق على المرأة البعد فيها عن الرجل ، وهي كافية لتروي الرجل في أمره ورجوعه إلى رشده (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فإن فاءوا ) أي : رجعوا إلى نسائهم بأن حنثوا في اليمين وقاربوهن في أثناء هذه المدة أو آخرها (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فإن الله غفور رحيم ) يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة ؛ لأن الفيئة توبة في حقهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=227وإن عزموا الطلاق ) أي : صمموا قصده وعزموا على ألا يعودوا إلى ملامسة نسائهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=227فإن الله سميع عليم ) أي : فليراقبوا الله تعالى عالمين أنه سميع لإيلائهم وطلاقهم عليم بنيتهم فيه ، فإن كانوا يريدون به إيذاء
[ ص: 293 ] النساء ومضارتهن فهو يتولى عقابهم ، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربية النساء لأجل إقامة حدود الله ، وعلى الطلاق اليأس من إمكان المعاشرة بالمعروف ، فهو يغفر لهم . والمعنى أن من
nindex.php?page=treesubj&link=11921_11981_11989_11939حلف على ترك غشيان امرأته فلا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر; فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم ، وإن أتمها تعين عليه أحد الأمرين : الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق ، وعليه أن يراقب الله تعالى فيما يختاره منهما ، فإن لم يطلق هو بالقول كان مطلقا بالفعل; أي : أنها تطلق منه بعد انتهاء المدة رغم أنفه منعا للضرار ، وقيل ترفع أمرها إلى الحاكم فيطلق عليه ، والمسألة خلافية في هذا ، ولكن لا خلاف في عدم جواز بقائها على عصمته وعدم إباحة مضارتها ، وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة ، وهدى إلى مراقبته في العزم على الطلاق ، وذكر المؤلي بسمعه تعالى لما يقول وعلمه بما يسره في نفسه ويقصده من عمله .
هذا حكم
nindex.php?page=treesubj&link=11880_11883_11884الإيلاء من المرأة إذا أطلقه الزوج فلم يذكر زمنا ، أو قال : لا أقربك مدة كذا وذكر أكثر من أربعة أشهر ، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر فلا يلزمه شيء إذا أتمها وفي الأربعة خلاف ، وقد عدى الإيلاء هنا بـ ( من ) لما فيه من معنى المفارقة والانفصال ، وهو من البلاغة والإيجاز بمكان ، ويقال في غيره ألى وآلى وائتلى أن يفعل كذا; أي : حلف ، وصار الإيلاء حقيقة شرعية في الحلف المذكور .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=227وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
هَذِهِ الْآيَاتُ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ ، وَهِيَ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ وَالثَّانِي هُوَ حَلِفُ الرَّجُلِ أَلَّا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ وَخُصَّ بِاسْمِ الْإِيلَاءِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَمَا سَيَأْتِي ، فَبَيْنَ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَنَاسُبٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ .
[ ص: 290 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224nindex.php?page=treesubj&link=28973_33061وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ) الْعُرْضَةُ - بِالضَّمِّ كَالْغُرْفَةِ - لَهَا مَعَانٍ أَظْهَرُهَا هُنَا اثْنَانِ ، أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَانِعِ الْمُعْتَرِضِ دُونَ الشَّيْءِ; أَيْ : لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ تَعَالَى مَانِعًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَمَلٍ ؛ بِأَنْ تَحْلِفُوا بِهِ عَلَى تَرْكِهِ فَتَتْرُكُوهُ تَعْظِيمًا لِاسْمِهِ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَهُوَ حَلِفُ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَى (
مِسْطَحٍ ) بَعْدَ أَنْ خَاضَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ ، وَفِيهِ نَزَلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=22وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ) ( 24 : 22 ) الْآيَةَ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918774مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ) ) وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918775وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي ) ) وَفِي حَدِيثِ
عَائِشَةَ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابْنِ مَاجَهْ nindex.php?page=showalam&ids=16935وَابْنِ جَرِيرٍ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918776مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فَبِرُّهُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا وَيَرْجِعَ عَنْ يَمِينِهِ ) ) وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخْرَى ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسْرِعُ إِلَى لِسَانِهِ الْحَلِفُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَقَدْ يَكُونُ خَيْرًا ، وَلَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَقَدْ يَكُونُ شَرًّا ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى بِأَنْ يَكُونَ اسْمُهُ حِجَابًا دُونَ الْخَيْرِ ، أَوْ مِحْضَاءً لِلشَّرِّ ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوُجُوبِ تَحَرِّي الْخَيْرِ وَالْأَحْسَنِ وَإِنْ حَلِفَ عَلَى غَيْرِهِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي لِلْعُرْضَةِ مَا يَعْرِضُ لِلشَّيْءِ أَنَّ مَا يُنْصَبُ لِيَعْرِضَ لَهُ الشَّيْءُ كَالْهَدَفِ لِلسِّهَامِ ، يُقَالُ : فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ إِذَا كَانُوا يَقَعُونَ فِيهِ وَيَعْرِضُونَ لَهُ بِالْمَكْرُوهِ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
وَإِنْ تَتْرُكُوا رَهْطَ الْفَدَوْكَسِ عُصْبَةً يَتَامَى أَيَامَى عُرْضَةً لِلْقَبَائِلِ
وَيُقَالُ : جَعَلْتُهُ عُرْضَةً لِكَذَا; أَيْ : نَصَبْتُهُ لَهُ فَكَانَ مَعْرُوضًا وَمُعَرَّضًا لَهُ، يَكْثُرُ وُرُودُهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الشَّاعِرُ :
طَلَّقْتُهُنَّ وَمَا الطَّلَاقُ بِسُبَّةٍ إِنَّ النِّسَاءَ لَعُرْضَةُ التَّطْلِيقِ
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تُكْثِرُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى ، فَالَّذِي يَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِ هُوَ كَالْحَلَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=10وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ) ( 68 : 10 ) فَكَثِيرُ الْحَلِفِ حَلِيفُ الْمَهَانَةِ وَقَرِينُهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ صِفَاتٍ أُخْرَى ذَمِيمَةً نَهَى عَنْ أَهْلِهَا وَبَدَأَهَا بِالْخِلَافِ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=11هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=12مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=13عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) ( 68 : 11 - 13 ) فَالْحَلَّافُ يُعَدُّ فِي مُقَدِّمَةِ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارِ ، وَمَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ قَلَّتْ مَهَابَتُهُ وَكَثُرَ حِنْثُهُ وَاتُّهِمَ بِالْكَذِبِ ، وَلَا يَكُونُ الْحَلَّافُ إِلَّا كَذَّابًا ، فَهُوَ عَلَى إِهَانَتِهِ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَفُوتُهُ مَا يُرِيدُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ وَتَصْدِيقِهِ ، فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى تَرْكِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ
[ ص: 291 ] تَعَالَى إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ . وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ مِنَ الَّذِي سَبَقَهُ ، وَالْعُرْضَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا . وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَدَّحُ بِقِلَّةِ الْحَلِفِ وَحِفْظِ الْأَيْمَانِ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتِ
الْأَلَايَا : جَمْعُ أَلِيَّةٍ وَهِيَ الْيَمِينُ كَقَضِيَّةِ وَقَضَايَا ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لَا يَحْفَظُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ مَا كَانَ يَحْفَظُ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ : مَا حَلَفْتُ بِاللَّهِ صَادِقًا وَلَا كَاذِبًا ؟ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : مِنْ مَذَامِّ كَثْرَةِ الْحَلِفِ أَنَّهُ يُقَلِّلُ ثِقَةَ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ ، وَثِقَةَ النَّاسِ بِهِ ، فَهُوَ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فَيَحْلِفُ ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَهِينِ ، وَكَثِيرًا مَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْخَطَأِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلَ الْخَشْيَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَهُمُّهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى النَّاسُ وَيَكُونُ مَوْثُوقًا بِهِ عِنْدَهُمْ ، فَتَعْرِيضُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحَلِفِ بِدُونِ ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ يَنْشَأُ عَنْ فَقْدِ هَيْبَةِ اللَّهِ وَإِجْلَالِهِ مِنَ النَّفْسِ ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَعَلَّمُونَ كَثْرَةَ الْحَلِفِ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ ، وَمِنَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ مَعَهُمْ وَهُمْ صِغَارٌ . فَيَتَعَوَّدُونَ عَدَمَ احْتِرَامِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى : وَقَدْ نَجِدُ هَذَا الْحَلِفَ فَاشِيًا حَتَّى فِي الْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِ الدِّينِ ، ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الدِّينِ أَصْبَحَ صَنَاعَةً لَفْظِيَّةً لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْقُلُوبِ وَلَا فِي الْأَعْمَالِ ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُهُمْ حَدِيثًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَكْذِبُ فِيهِ بِمَا يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ مِنْهُ .
nindex.php?page=treesubj&link=28973_16479وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ) عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَيَانٌ لِلْأَيْمَانِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ; أَيْ : لَا تَجْعَلُوهُ مَانِعًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ ، بَلْ إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى تَرْكِ الْبِرِّ أَوِ التَّقْوَى أَوِ الْإِصْلَاحِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ ذَلِكَ ، وَلَا يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ مَانِعًا مِنْهُ ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَهُوَ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ; أَيْ : لَا تَجْعَلُوهُ تَعَالَى مُعَرَّضًا لِأَيْمَانِكُمْ لِأَجْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ ، فَإِنَّ كَثِيرَ الْحَلِفِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِذَلِكَ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ يَكُونُ مَهِينًا ، غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَعُرْضَةً لِلْكَذِبِ وَالْحِنْثِ ، وَغَيْرَ مَوْثُوقٍ بِقَوْلِهِ ، فَأَنَّى يَرْضَاهُ النَّاسُ مُصْلِحًا بَيْنَهُمْ ؟ وَالْمُصْلِحُ مُرَبٍّ وَمُؤَدِّبٌ وَحَاكِمٌ مُطَاعٌ بِالِاخْتِيَارِ . ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=224وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أَيْ : سَمِيعٌ لِمَا تَلْفِظُونَ بِهِ مِنَ الْحَلِفِ وَغَيْرِهِ ، عَلِيمٌ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَثْرَةِ الْحَلِفِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُرَاقِبُوهُ وَتَتَذَكَّرُوا عِنْدَ دَاعِيَةِ كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تَقِفُونَ عِنْدَ حُدُودِ هِدَايَتِهِ لَكُمْ فَتَكُونُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ، وَإِلَّا كُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
هَذَا الْخَتْمُ لِلْآيَةِ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى كَثْرَةِ الْحَلِفِ ، فَإِذَا دَخَلَ فِيهِ مَا يَجْرِي فِي الْكَلَامِ
[ ص: 292 ] مِنْ قَصْدٍ وَرَوِيَّةٍ كَقَوْلِ الْإِنْسَانِ : أَيْ وَاللَّهِ ، لَا وَاللَّهِ : وَعُدَّ هَذَا مِمَّا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ وَيَجْرِي فِيهِ الْحُكْمُ السَّابِقُ كَانَ الْحَرَجُ عَظِيمًا ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ هَذَا الْحَرَجَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) فَاللَّغْوُ : أَنْ يَقَعَ الْكَلَامُ حَشْوًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهِ مَعْنَاهُ ، فَهُوَ يَقُولُ : إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَسْبِقُ إِلَى اللِّسَانِ عَادَةً وَلَا يُقْصَدُ بِهَا عَقْدُ الْيَمِينِ لَغْوٌ مِنَ الْقَوْلِ لَا تُعَدُّ أَيْمَانًا حَقِيقِيَّةً ، فَلَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا بِفَرْضِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا وَلَا بِالْعِقَابِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) بِأَنْ تَقْصِدُوا جَعْلَ اسْمِهِ الْكَرِيمِ عُرْضَةً لِلِابْتِذَالِ ، أَوْ مَانِعًا لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ، فَالْقَوْلُ الْحَشْوُ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْقَلْبِ ، وَلَا شَأْنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ ، مِمَّا يَعْفُو عَنْهُ ، وَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=225وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا يُلِمُّ بِهِ مِمَّا لَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَهُ وَأَعْمَالَهُ ، وَلَا يَتَعَجَّلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى هَذَا اللَّمَمِ الَّذِي يَضْعُفُ الْعَبْدُ عَنِ التَّوَقِّي مِنْهُ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُكَلِّفْ عِبَادَهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِيمَا لَمْ تَقْصِدْهُ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تَتَعَمَّدْهُ نُفُوسُهُمْ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ سُلْطَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلَغْوِ الْيَمِينِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ وَوَضَعُوا لِذَلِكَ أَحْكَامًا ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا ، وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الْمَأْثُورُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ .
بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْأَيْمَانِ الْعَامَّةِ انْتَقَلَ إِلَى حُكْمِ الْيَمِينِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226nindex.php?page=treesubj&link=28973لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) إِلَخْ ،
nindex.php?page=treesubj&link=11825_11826فَالْإِيلَاء مِنَ الْمَرْأَةِ : أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا يَقْرَبَهَا ، وَهُوَ مِمَّا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ عِنْدَ الْمُغَاضَبَةِ وَالْغَيْظِ ، وَفِيهِ امْتِهَانٌ لِلْمَرْأَةِ وَهَضْمٌ لِحَقِّهَا وَإِظْهَارٌ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا ، فَتَرْكُ الْمُقَارَبَةِ الْخَاصَّةِ الْمَعْلُومَةِ ضِرَارًا مَعْصِيَةٌ ، وَالْحَلِفُ عَلَيْهِ حَلِفٌ عَلَى مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّوَادِّ وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَفِي عِيَالِهِمَا وَأَقَارِبِهِمَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْإِيلَاءِ ( ( الْحَلِفِ ) ) يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْرَدْنَاهُمَا ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْلِي أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَكِنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي نَفْسِهِ فَقَطْ ، فَيُقَالُ : حَسْبُهُ مَا يَلْقَى مِنْ جَزَاءِ إِثْمِهِ ، بَلْ يَكُونُ بِإِثْمِهِ هَاضِمًا لِحَقِّ امْرَأَتِهِ ، وَلَا يُبِيحُ لَهُ الْعَدْلُ هَذَا الْهَضْمَ وَالظُّلْمَ ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمَ ، وَهُوَ التَّرَبُّصُ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي لَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْبُعْدُ فِيهَا عَنِ الرَّجُلِ ، وَهِيَ كَافِيَةٌ لِتَرَوِّي الرَّجُلِ فِي أَمْرِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَى رُشْدِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فَإِنْ فَاءُوا ) أَيْ : رَجَعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ بِأَنْ حَنِثُوا فِي الْيَمِينِ وَقَارَبُوهُنَّ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ آخِرِهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ ؛ لِأَنَّ الْفَيْئَةَ تَوْبَةٌ فِي حَقِّهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=227وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ ) أَيْ : صَمَّمُوا قَصْدَهُ وَعَزَمُوا عَلَى أَلَّا يَعُودُوا إِلَى مُلَامَسَةِ نِسَائِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=227فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أَيْ : فَلْيُرَاقِبُوا اللَّهَ تَعَالَى عَالِمَيْنِ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِمْ وَطَلَاقِهِمْ عَلِيمٌ بِنِيَّتِهِمْ فِيهِ ، فَإِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِهِ إِيذَاءَ
[ ص: 293 ] النِّسَاءِ وَمُضَارَّتَهُنَّ فَهُوَ يَتَوَلَّى عِقَابَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ بِأَنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِيلَاءِ تَرْبِيَةَ النِّسَاءِ لِأَجْلِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ ، وَعَلَى الطَّلَاقِ الْيَأْسَ مِنْ إِمْكَانِ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ ، فَهُوَ يَغْفِرُ لَهُمْ . وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=11921_11981_11989_11939حَلَفَ عَلَى تَرْكِ غِشْيَانِ امْرَأَتِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَبَّصَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ; فَإِنْ تَابَ وَعَادَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِثْمٌ ، وَإِنْ أَتَمَّهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : الْفَيْئَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَوِ الطَّلَاقُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى فِيمَا يَخْتَارُهُ مِنْهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ هُوَ بِالْقَوْلِ كَانَ مُطَلِّقًا بِالْفِعْلِ; أَيْ : أَنَّهَا تُطَلَّقُ مِنْهُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ رَغْمَ أَنْفِهِ مَنْعًا لِلضِّرَارِ ، وَقِيلَ تَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ فِي هَذَا ، وَلَكِنْ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَقَائِهَا عَلَى عِصْمَتِهِ وَعَدَمِ إِبَاحَةِ مُضَارَّتِهَا ، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَيْئَةَ عَلَى الطَّلَاقِ إِذْ جَعَلَ جَزَاءَ الْفَيْئَةِ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ ، وَهَدَى إِلَى مُرَاقَبَتِهِ فِي الْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَذَكَرَ الْمُؤْلِيَ بِسَمْعِهِ تَعَالَى لِمَا يَقُولُ وَعِلْمِهِ بِمَا يُسِرُّهُ فِي نَفْسِهِ وَيَقْصِدُهُ مِنْ عَمَلِهِ .
هَذَا حُكْمُ
nindex.php?page=treesubj&link=11880_11883_11884الْإِيلَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ إِذَا أَطْلَقَهُ الزَّوْجُ فَلَمْ يَذْكُرْ زَمَنًا ، أَوْ قَالَ : لَا أَقْرَبُكِ مُدَّةَ كَذَا وَذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا أَتَمَّهَا وَفِي الْأَرْبَعَةِ خِلَافٌ ، وَقَدْ عَدَّى الْإِيلَاءَ هُنَا بِـ ( مِنْ ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُفَارَقَةِ وَالِانْفِصَالِ ، وَهُوَ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ بِمَكَانٍ ، وَيُقَالُ فِي غَيْرِهِ أَلَى وَآلَى وَائْتَلَى أَنْ يَفْعَلَ كَذَا; أَيْ : حَلَفَ ، وَصَارَ الْإِيلَاءُ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي الْحَلِفِ الْمَذْكُورِ .