[ ص: 30 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256nindex.php?page=treesubj&link=28973_32265لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
( المفردات ) الرشد - بالضم والتحريك - إصابة وجه الأمر ومحجة الطريق ، والهدى : إصابة الثاني ، فهو أخص من الرشد ، ومثله الرشاد ، ويستعمل في كل خير ، وضده الغي ،
nindex.php?page=treesubj&link=28667والطاغوت : مصدر الطغيان ومبعثه ، وهو مجاوزة الحد في الشيء وهو صيغة مبالغة كالملكوت من الملك ، أو مصدر . ويصح فيه التذكير والتأنيث والإفراد والجمع بحسب المعنى . والعروة من الدلو والكوز : المقبض ، ومن الثوب : مدخل الزر ، ومن الشجر : الملتف الذي تشتو فيه الإبل فتأكل منه حيث لا كلأ ولا نبات ، أو هو ما لا يسقط ورقه كالأراك والسدر ، أو ما له أصل باق في الأرض . أقوال يدل مجموعها على أن العروة هي ما يمكن الانتفاع به من الشجر في كل فصل لثباته وبقائه . وقالوا : إذا أمحل الناس عصمت العروة الماشية ; يعنون ما له أصل باق كالنصي والعرفج وأجناس الخلة والحمض . والوثقى : مؤنث الأوثق ، وهو الأشد الأحكم ، والموثق من الشجر : ما يعول عليه الناس إذا انقطع الكلأ والشجر . وأرض وثيقة : كثيرة العشب يوثق بها . والانفصام : الانكسار والانقطاع ، مطاوع فصمه ، أي كسره أو قطعه ولم يبنه .
( سبب النزول ) روى
أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003156كانت المرأة تكون مقلاة ( أي لا يعيش لها ولد ) فتجعل على نفسها إن عاش لها أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لا إكراه في الدين في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين [ ص: 31 ] كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلما ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله الآية . وفي بعض التفاسير أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟
nindex.php?page=showalam&ids=16935ولابن جرير عدة روايات في نذر النساء في الجاهلية تهويد أولادهن ليعيشوا ، وأن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين
أهل الكتاب على الإسلام فنزلت الآية فكانت فصل ما بينهم . وفي رواية له عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عندما أنزلت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918814قد خير الله أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فهم منهم .
( التفسير ) أقول : هذا هو حكم الدين الذي يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله في
nindex.php?page=treesubj&link=24925إكراه الناس على الإسلام في
مكة أيام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي مستخفيا ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعا حتى اضطر النبي وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع في
المدينة بعد أن اعتز الإسلام ! ! وهذه الآية قد نزلت في غرة هذا الاعتزاز ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29321غزوة بني النضير كانت في ربيع الأول من السنة الرابعة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : إنها كانت قبل غزوة
أحد التي لا خلاف في أنها كانت في شوال سنة ثلاث ، وكان
كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو
النضير عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكادوا له وهموا باغتياله مرتين وهم بجواره في ضواحي
المدينة فلم يكن له بد من إجلائهم عن
المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع
اليهود . فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذي نزل فيه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لا إكراه في الدين .
قال الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - : كان معهودا عند بعض الملل - لا سيما
النصارى - حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه . وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين ; لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ; ولذلك قال - تعالى - بعد نفي الإكراه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256قد تبين الرشد من الغي أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير في الجادة على نور ، وأن ما خالفه من الملل والنحل على غي وضلال .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256فمن يكفر بالطاغوت وهو كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يعبد ، ورئيس يقلد ، وهوى يتبع ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256ويؤمن بالله فلا يعبد إلا إياه ، ولا يرجو غيره ولا يخشى
[ ص: 32 ] سواه ، يرجوه ويخشاه لذاته ، وبمناسبة من الأسباب والسنن في عباده
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أقول : أي فقد طلب أو تحرى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكا بأوثق عرى النجاة ، وأثبت أسباب الحياة ، أو فقد اعتصم بأوثق العرى ، وبالغ في التمسك بها ، وقال الأستاذ الإمام : الاستمساك بالعروة الوثقى هو الاستقامة على طريق الحق القويم الذي لا يضل سالكه ، كما أن المتعلق بعروة هي أوثق العرى وأحكمها فمثلا لا يقع ولا يتفلت ، وقد حذف لفظ التي وذلك معروف عن العرب في مثل هذا الكلام ، وأقول : أفاد كلامه أن العروة في الآية مستعارة من عروة الثوب ويناسبه الانفصام ، ولعل الأقرب أن يراد بها عروة الشجر والنبات فهي التي لا ينقطع مددها بالقحط والجدب ، كأنه يقول : إن المبالغ بالتمسك بهذا الحق والرشد كمن يأوي بنعمه إلى ذلك الشجر والنبات الذي لا ينقطع مدده ، ولا يفنى علفه ، فإذا نزل الجدب والقحط بمن يعتمدون على الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، كان هو معتصما بالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، أي إن صاحب هذه العروة يجد فيها السعادة الدائمة دون غيره . ومما خطر لي عند الكتابة الآن : أن عروة الإيمان إذا كانت لا تنقطع بالمستمسك بها فهو لا يخشى عليه الهلكة إلا إذا كان هو الذي تركها ، فإذا كان الإيمان بالله وما يتبعه من الآثار في صفات صاحبه وأعماله من أسباب الثبات والاستقرار في الوجود - لأنه هو الحق والخير الموافق لمصالح العالم - فلا شك أن شدة التمسك به هي العصمة من الهلاك والسبب الأقوى للثبات والاستقرار في الملك والسيادة والسعة في هذه الحياة الدنيا ، وللبقاء الأبدي في الحياة الأخرى . والتعبير بالاستمساك يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28667من لم يكفر بجميع مناشئ الطغيان ، ويعتصم بالحق اليقين من أصول الإيمان ، فهو لا يعد مستمسكا بالعروة الوثقى وإن انتمى في الظاهر إلى أهلها ، أو إلى ما بها إلمام الممسك بها ، فالعبرة بالاعتصام والاستمساك الحقيقي ، لا بمجرد الأخذ الضعيف الصوري ، والانتماء القولي والتقليدي ، والله سميع لأقوال مدعي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله بألسنتهم عليم بما تكنه قلوبهم مما يصدق ذلك أو يكذبه ، فهو يجزيهم وصفهم . فمن شهد بقوة إيمانه جميع الأسباب والسنن الكونية مسخرة بحكمة الله - تعالى - مسيرة بقدرته ، وأنه لا تأثير لسواها إلا لواضعها والفاعل بها - فهو المؤمن حقا ، وله جزاء المستمسك بالعروة الوثقى ، ومن كان منطويا على شيء من نزغات الوثنية ، ناحلا ما جهل سره من عجائب الخلق قوة غير طبيعية ، يتقرب إليها أو يتقرب بها إلى الله زلفى ، فهو غير معتصم بالعروة الوثقى ، وله جزاء الكافرين الذين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين .
[ ص: 33 ] وقال الأستاذ الإمام : إن هذه الجملة والله سميع عليم تذكر للترغيب والتهديد ، أي فهي تفسر بحسب المقام كما قلنا . فهي جامعة هنا بين الأمرين .
ورد بمعنى هذه الآية قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=99ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 :99 ] ويؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن
nindex.php?page=treesubj&link=30178_28749_32026الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين ، ولكن يرد علينا أننا قد أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك أن الآية التي نفسرها نزلت في غزوة
بني النضير إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع
بني النضير في جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع وأن العمدة في دعوة الدين بيانه حتى يتبين الرشد من الغي ، وأن الناس مخيرون بعد ذلك في قبوله وتركه .
nindex.php?page=treesubj&link=7921شرع القتال لتأمين الدعوة ولكف شر الكافرين عن المؤمنين ، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه ، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه كما كانوا يفعلون في
مكة جهرا ولذلك قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=193وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ 2 :193 ] أي حتى يكون الإيمان في قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه فيكون دينه خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب ، فالدين لا يكون خالصا لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوي سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد ( قال الأستاذ الإمام ) : وإنما تكف الفتن بأحد أمرين :
( الأول ) إظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان ; لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا ولا يبارزنا بالعداء ، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هي العليا ، ويكون الدين لله ولا يفتن صاحبه فيه ، ولا يمنع من الدعوة إليه .
( والثاني ) - وهو أدل على عدم الإكراه -
nindex.php?page=treesubj&link=8763_8757قبول الجزية ، وهي شيء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا ، بهذا الخضوع نكتفي شرهم وتكون كلمة الله هي العليا ، فقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لا إكراه في الدين قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام وركن عظيم من أركان سياسته فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه ، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه ، وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن معتمدين على تبين الرشد من الغي بالبرهان : هو الصراط المستقيم إلى الإيمان ، مع حرية الدعوة ، وأمن الفتنة ، فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار ; أي أنه ليس من جوهره ومقاصده ، وإنما هو سياج له وجنة ، فهو أمر سياسي
[ ص: 34 ] لازم له للضرورة ، ولا التفات لما يهذي به العوام ، ومعلموهم الطغام ، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف وأن الجهاد مطلوب لذاته ، فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم .
[ ص: 30 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256nindex.php?page=treesubj&link=28973_32265لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
( الْمُفْرَدَاتُ ) الرُّشْدُ - بِالضَّمِّ وَالتَّحْرِيكِ - إِصَابَةُ وَجْهِ الْأَمْرِ وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ ، وَالْهُدَى : إِصَابَةُ الثَّانِي ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الرُّشْدِ ، وِمِثْلُهُ الرَّشَادُ ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ خَيْرٍ ، وَضِدُّهُ الْغَيُّ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28667وَالطَّاغُوتُ : مَصْدَرُ الطُّغْيَانِ وَمَبْعَثُهُ ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ كَالْمَلَكُوتِ مِنَ الْمُلْكِ ، أَوْ مَصْدَرٌ . وَيَصِحُّ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى . وَالْعُرْوَةُ مِنَ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ : الْمَقْبَضُ ، وَمِنَ الثَّوْبِ : مَدْخَلُ الزِّرِّ ، وَمِنَ الشَّجَرِ : الْمُلْتَفُّ الَّذِي تَشْتُو فِيهِ الْإِبِلُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ حَيْثُ لَا كَلَأَ وَلَا نَبَاتَ ، أَوْ هُوَ مَا لَا يَسْقُطُ وَرَقُهُ كَالْأَرَاكِ وَالسِّدْرِ ، أَوْ مَا لَهُ أَصْلٌ بَاقٍ فِي الْأَرْضِ . أَقْوَالٌ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ الْعُرْوَةَ هِيَ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الشَّجَرِ فِي كُلِّ فَصْلٍ لِثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ . وَقَالُوا : إِذَا أَمْحَلَ النَّاسُ عَصَمَتِ الْعُرْوَةُ الْمَاشِيَةَ ; يَعْنُونَ مَا لَهُ أَصْلٌ بَاقٍ كَالنَّصِيِّ وَالْعَرْفَجِ وَأَجْنَاسِ الْخَلَّةِ وَالْحَمْضِ . وَالْوُثْقَى : مُؤَنَّثُ الْأَوْثَقِ ، وَهُوَ الْأَشَدُّ الْأَحْكَمُ ، وَالْمُوَثَّقُ مِنَ الشَّجَرِ : مَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ النَّاسُ إِذَا انْقَطَعَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ . وَأَرْضٌ وَثِيقَةٌ : كَثِيرَةُ الْعُشْبِ يُوثَقُ بِهَا . وَالِانْفِصَامُ : الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ ، مُطَاوِعُ فَصَمَهُ ، أَيْ كَسَرَهُ أَوْ قَطَعَهُ وَلَمْ يَبْنِهِ .
( سَبَبُ النُّزُولِ ) رَوَى
أَبُو دَاوُدَ nindex.php?page=showalam&ids=15397وَالنَّسَائِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=13053وَابْنُ حِبَّانَ nindex.php?page=showalam&ids=16935وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003156كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاةً ( أَيْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ) فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا أَنْ تُهَوِّدَهُ ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ، فَقَالُوا : لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ [ ص: 31 ] كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ ، وَكَانَ هُوَ مُسْلِمًا ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَا أَسْتَكْرِهُهُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ . وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ حَاوَلَ إِكْرَاهَهُمَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَدْخُلُ بَعْضِي النَّارَ وَأَنَا أَنْظُرُ ؟
nindex.php?page=showalam&ids=16935وَلِابْنِ جَرِيرٍ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ فِي نَذْرِ النِّسَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَهْوِيدَ أَوْلَادِهِنَّ لِيَعِيشُوا ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَرَادُوا إِكْرَاهَ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ عَلَى دِينِ
أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَكَانَتْ فَصْلَ مَا بَيْنَهُمْ . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عِنْدَمَا أُنْزِلَتْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918814قَدْ خَيَّرَ اللَّهُ أَصْحَابَكُمْ فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ .
( التَّفْسِيرُ ) أَقُولُ : هَذَا هُوَ حُكْمُ الدِّينِ الَّذِي يَزْعُمُ الْكَثِيرُونَ مِنْ أَعْدَائِهِ - وَفِيهِمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ - أَنَّهُ قَامَ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ فَكَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّاسِ وَالْقُوَّةُ عَنْ يَمِينِهِ فَمَنْ قَبِلَهُ نَجَا ، وَمَنْ رَفَضَهُ حَكَمَ السَّيْفُ فِيهِ حُكْمَهُ ، فَهَلْ كَانَ السَّيْفُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=24925إِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي
مَكَّةَ أَيَّامَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مُسْتَخْفِيًا ، وَأَيَّامَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّعْذِيبِ وَلَا يَجِدُونَ رَادِعًا حَتَّى اضْطُرَّ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْهِجْرَةِ ؟ أَمْ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ فِي
الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنِ اعْتَزَّ الْإِسْلَامُ ! ! وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي غِرَّةٍ هَذَا الِاعْتِزَازِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29321غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ : إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ
أُحُدٍ الَّتِي لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ ، وَكَانَ
كُفَّارُ مَكَّةَ لَا يَزَالُونَ يَقْصِدُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ . نَقَضَ بَنُو
النَّضِيرِ عَهْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَادُوا لَهُ وَهَمُّوا بِاغْتِيَالِهِ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ بِجِوَارِهِ فِي ضَوَاحِي
الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ إِجْلَائِهِمْ عَنِ
الْمَدِينَةِ ، فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ ، فَخَرَجُوا مَغْلُوبِينَ عَلَى أَمْرِهِمْ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِإِكْرَاهِ أَوْلَادِهِمُ الْمُتَهَوِّدِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ
الْيَهُودِ . فَذَلِكَ أَوَّلُ يَوْمٍ خَطَرَ فِيهِ عَلَى بَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَلَلِ - لَا سِيَّمَا
النَّصَارَى - حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَلْصَقُ بِالسِّيَاسَةِ مِنْهَا بِالدِّينِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ - وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ - عِبَارَةٌ عَنْ إِذْعَانِ النَّفْسِ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِذْعَانُ بِالْإِلْزَامِ وَالْإِكْرَاهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ نَفْيِ الْإِكْرَاهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ فِي هَذَا الدِّينِ الرُّشْدَ وَالْهُدَى وَالْفَلَاحَ وَالسَّيْرَ فِي الْجَادَّةِ عَلَى نُورٍ ، وَأَنَّ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ عَلَى غَيٍّ وَضَلَالٍ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256فَمَنْ يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ ، وَرَئِيسٍ يُقَلَّدُ ، وَهَوًى يُتَّبَعُ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَلَا يَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ ، وَلَا يَرْجُو غَيْرَهُ وَلَا يَخْشَى
[ ص: 32 ] سِوَاهُ ، يَرْجُوهُ وَيَخْشَاهُ لِذَاتِهِ ، وَبِمُنَاسَبَةٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ فِي عِبَادِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا أَقُولُ : أَيْ فَقَدْ طَلَبَ أَوْ تَحَرَّى بِاعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكًا بِأَوْثَقِ عُرَى النَّجَاةِ ، وَأَثْبَتِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ ، أَوْ فَقَدِ اعْتَصَمَ بِأَوْثَقِ الْعُرَى ، وَبَالَغَ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : الِاسْتِمْسَاكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ الْقَوِيمِ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ ، كَمَا أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِعُرْوَةٍ هِيَ أَوْثَقُ الْعُرَى وَأَحْكَمُهَا فَمَثَلًا لَا يَقَعُ وَلَا يَتَفَلَّتُ ، وَقَدْ حُذِفَ لَفْظُ الَّتِي وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ ، وَأَقُولُ : أَفَادَ كَلَامُهُ أَنَّ الْعُرْوَةَ فِي الْآيَةِ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ عُرْوَةِ الثَّوْبِ وَيُنَاسِبُهُ الِانْفِصَامُ ، وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُرَادَ بِهَا عُرْوَةُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَهِيَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ مَدَدُهَا بِالْقَحْطِ وَالْجَدَبِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّ الْمُبَالِغَ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الْحَقِّ وَالرُّشْدِ كَمَنْ يَأْوِي بِنِعَمِهِ إِلَى ذَلِكَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ مَدَدُهُ ، وَلَا يَفْنَى عَلَفُهُ ، فَإِذَا نَزَلَ الْجَدَبُ وَالْقَحْطُ بِمَنْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ، كَانَ هُوَ مُعْتَصِمًا بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ، أَيْ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْعُرْوَةِ يَجِدُ فِيهَا السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ دُونَ غَيْرِهِ . وَمِمَّا خَطَرَ لِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ : أَنَّ عُرْوَةَ الْإِيمَانِ إِذَا كَانَتْ لَا تَنْقَطِعُ بِالْمُسْتَمْسِكِ بِهَا فَهُوَ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَكَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهَا ، فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْآثَارِ فِي صِفَاتِ صَاحِبِهِ وَأَعْمَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْوُجُودِ - لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالْخَيْرُ الْمُوَافِقُ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ شِدَّةَ التَّمَسُّكِ بِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالسَّبَبُ الْأَقْوَى لِلثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَالسَّعَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَلِلْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى . وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِمْسَاكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28667مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِجَمِيعِ مَنَاشِئِ الطُّغْيَانِ ، وَيَعْتَصِمْ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ مِنْ أَصُولِ الْإِيمَانِ ، فَهُوَ لَا يُعَدُّ مُسْتَمْسِكًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِنِ انْتَمَى فِي الظَّاهِرِ إِلَى أَهْلِهَا ، أَوْ إِلَى مَا بِهَا إِلْمَامُ الْمُمْسِكِ بِهَا ، فَالْعِبْرَةُ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاسْتِمْسَاكِ الْحَقِيقِيِّ ، لَا بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ الضَّعِيفِ الصُّورِيِّ ، وَالِانْتِمَاءِ الْقَوْلِيِّ وَالتَّقْلِيدِيِّ ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ مُدَّعِي الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلِيمٌ بِمَا تُكِنُّهُ قُلُوبُهُمْ مِمَّا يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ ، فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ . فَمَنْ شَهِدَ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنَ الْكَوْنِيَّةَ مُسَخَّرَةً بِحِكْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - مُسَيَّرَةً بِقُدْرَتِهِ ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِسِوَاهَا إِلَّا لِوَاضِعِهَا وَالْفَاعِلِ بِهَا - فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا ، وَلَهُ جَزَاءُ الْمُسْتَمْسِكِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ، وَمَنْ كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ ، نَاحِلًا مَا جَهِلَ سِرَّهُ مِنْ عَجَائِبِ الْخَلْقِ قُوَّةً غَيْرَ طَبِيعِيَّةٍ ، يَتَقَرَّبُ إِلَيْهَا أَوْ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ، فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَصِمٍ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ، وَلَهُ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ .
[ ص: 33 ] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تُذْكَرُ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّهْدِيدِ ، أَيْ فَهِيَ تُفَسَّرُ بِحَسَبِ الْمَقَامِ كَمَا قُلْنَا . فَهِيَ جَامِعَةٌ هُنَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ .
وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=99وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ 10 :99 ] وَيُؤَيِّدُهُمَا الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الدِّينَ هِدَايَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ لِلنَّاسِ تَعْرِضُ عَلَيْهِمْ مُؤَيِّدَةً بِالْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30178_28749_32026الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا جَبَّارِينَ وَلَا مُسَيْطِرِينَ ، وَإِنَّمَا بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَيْنَا أَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ
بُنِيَ النَّضِيرِ إِذْ أَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِجْبَارَ أَوْلَادَهُمِ الْمُتَهَوِّدِينَ أَنْ يُسْلِمُوا وَلَا يَكُونُوا مَعَ
بَنِي النَّضِيرِ فِي جَلَّائِهِمْ كَمَا مَرَّ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي دَعْوَةِ الدِّينِ بَيَانُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ، وَأَنَّ النَّاسَ مُخَيَّرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ وَتَرْكِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=7921شُرِعَ الْقِتَالُ لِتَأْمِينِ الدَّعْوَةِ وَلِكَفِّ شَرِّ الْكَافِرِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ، لِكَيْلَا يُزَعْزِعُوا ضَعِيفَهُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَمَكَّنَ الْهِدَايَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، وَيَقْهَرُوا قَوِيَّهُمْ بِفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي
مَكَّةَ جَهْرًا وَلِذَلِكَ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=193وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [ 2 :193 ] أَيْ حَتَّى يَكُونَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ آمِنًا مِنْ زَلْزَلَةِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ بِإِيذَاءِ صَاحِبِهِ فَيَكُونَ دِينُهُ خَالِصًا لِلَّهِ غَيْرَ مُزَعْزَعٍ وَلَا مُضْطَرِبٍ ، فَالدِّينُ لَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ إِلَّا إِذَا كُفَّتِ الْفِتَنُ عَنْهُ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ حَتَّى لَا يَجْرُؤَ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ ( قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) : وَإِنَّمَا تُكَفُّ الْفِتَنُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ :
( الْأَوَّلُ ) إِظْهَارُ الْمُعَانِدِينَ الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِاللِّسَانِ ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ خُصُومِنَا وَلَا يُبَارِزُنَا بِالْعَدَاءِ ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ كَلِمَتُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَكُونُ الدِّينُ لِلَّهِ وَلَا يُفْتَنُ صَاحِبُهُ فِيهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ .
( وَالثَّانِي ) - وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِكْرَاهِ -
nindex.php?page=treesubj&link=8763_8757قَبُولُ الْجِزْيَةِ ، وَهِيَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُعْطُونَنَا إِيَّاهُ جَزَاءَ حِمَايَتِنَا لَهُمْ بَعْدَ خُضُوعِهِمْ لَنَا ، بِهَذَا الْخُضُوعِ نَكْتَفِي شَرَّهُمْ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَاعِدَةٌ كُبْرَى مِنْ قَوَاعِدِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَرَكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ سِيَاسَتِهِ فَهُوَ لَا يُجِيزُ إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ ، وَلَا يَسْمَحُ لِأَحَدٍ أَنَّ يُكْرِهَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا نَكُونُ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ إِقَامَةِ هَذَا الرُّكْنِ وَحِفْظِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِذَا كُنَّا أَصْحَابَ قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ نَحْمِي بِهَا دِينَنَا وَأَنْفُسَنَا مِمَّنْ يُحَاوِلُ فِتْنَتَنَا فِي دِينِنَا اعْتِدَاءً عَلَيْنَا بِمَا هُوَ آمِنٌ أَنْ نَعْتَدِيَ بِمِثْلِهِ عَلَيْهِ إِذْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَى سَبِيلِ رَبِّنَا بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَأَنْ نُجَادِلَ الْمُخَالِفِينَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُعْتَمِدِينَ عَلَى تَبَيُّنِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ بِالْبُرْهَانِ : هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِلَى الْإِيمَانِ ، مَعَ حُرِّيَّةِ الدَّعْوَةِ ، وَأَمْنِ الْفِتْنَةِ ، فَالْجِهَادُ مِنَ الدِّينِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جَوْهَرِهِ وَمَقَاصِدِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ سِيَاجٌ لَهُ وَجُنَّةٌ ، فَهُوَ أَمْرٌ سِيَاسِيٌّ
[ ص: 34 ] لَازِمٌ لَهُ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا يَهْذِي بِهِ الْعَوَامُّ ، وَمُعَلِّمُوهُمُ الطُّغَامُ ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الدِّينَ قَامَ بِالسَّيْفِ وَأَنَّ الْجِهَادَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ ، فَالْقُرْآنُ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ .