فما قضى أحد منها لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
فلا جرم أن الإنسان لا يستكثر المال مهما كثر ، بل إن كثرته هي التي تزيد فيه نهمته ، حتى إنه لينسى أنه وسيلة إلى غيره فيجعل جمعه مقصدا يتفنن في طرقه كلما سلك طريقا عن له من السلوك فيه طرق أخرى . قال - صلى الله عليه وسلم - : رواه الشيخان من حديث لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب رضي الله عنهما . ابن عباس
والتعبير بالقناطير المقنطرة يشعر بأن الكثرة هي التي تكون مظنة الافتتان لأنها تشغل بالتمتع بها القلب ، وتستغرق في تدبيرها الوقت ، حتى لا يكاد يبقى في قلب صاحبها منفذ للشعور بالحاجة إلى غيرها من طلب الحق ونصرته في الدنيا ، والاستعداد لما أعده الله للمتقين في الأخرى ، وما بعث الله رسولا في أمة ولا مصلحا في قوم إلا وكان الأغنياء أول من كفر وعاند وأبى واستكبر ، وإن مؤمني الأغنياء أقلهم عملا وأكثرهم زللا . قال - تعالى - : سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا [ 48 :11 ] . وقال : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم [ 8 :28 ] . فقدم الفتنة بالأموال على الفتنة بالأهلين ، وكأنه إنما أخر ذكر الأموال هنا عن ذكر النساء والبنين ; لأن الكلام في طبيعة الحب لا في الاشتغال والفتنة به خاص ، وحب النساء والبنين مقصد ، وحب المال وسيلة لا يجعله مقصدا إلا من أعمته الفتنة عن الحقيقة . ولو أردنا أن نخوض في شرح وكيف تشغلهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن وحقوق من يعاملهم ، بل وعن حقوق بيوتهم وعيالهم ، بل وعن حقوق أنفسهم على أنفسهم بما يثلمون شرفهم أو يقصرون في النفقة التي تليق بهم لأطلنا وخرجنا عن حد الوقوف عند بيان كون المال من متاع الحياة الدنيا بمقدار ما نفهم العبرة من الآي ، ونكون قد جعلنا الكلام في المال مقصدا كما جعله الأشحة من الأغنياء مقصدا ، أما لفظ " القنطار " فمعناه العقدة المحكمة من المال ، وهو ما يعبر عنه التجار الآن بالصر أو الصرة . هذا هو الأصل فيه عندي وسائر الأقوال في معناه ترجع إليه ، فمنها أنه المال الكثير بعضه على بعض ، ومنها أنه وزن اثنتي عشرة ألف أوقية . وروي مرفوعا [ ص: 201 ] عند فتنة الناس بالمال أو ألف ومائتا أوقية . وروي عن ابن جرير معاذ أو ألف دينار ومائتا دينار ، وروي عن أبي مرفوعا . وقال ثمانون ألف درهم كذا في المخصص ، وروي عنه غير ذلك . وقال ابن عباس مائة رطل من ذهب أو فضة ، وعن السدي قتادة أنه مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق . وكأن كل هذا مما يطلق عليه لفظ القنطار باختلاف العرف . ويشهد له ما قاله في المخصص في بعض الأقوال فيه إذ عزا القول بأنه ألف مثقال من ذهب أو فضة إلى البربر ، قال : وهو بالسريانية ملء مسك ثور ( أي جلده ) ذهبا أو فضة . ولكنه ذكر أن ابن سيده أبا عبيد لم يقيده بالسريانية . ونقل عن : القنطار عربي وهو رباعي ، وقنطار مقنطر مكمل على المبالغة . اهـ . وقيل : المقنطرة المحكمة العقد ، وقيل : المضروبة من دنانير أو دراهم ، وقيل : المنضدة في وضعها ، وقيل : المكنوزة ، ولا يزال الناس يختلفون في القنطار فهو في سيبويه الشام مائة رطل برطلهم ، ورطلهم ثمانمائة درهم في أكثر البلاد ، وفي مصر مائة رطل برطلهم ورطلهم 144 درهما .