قال في كتاب ( شرح منازل السائرين ) ونقله السفاريني في شرح عقيدته ما نصه : [ ص: 225 ] " إن الشر كله يرجع إلى العدم ، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه ، وهو من هذه الجهة شر ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه ، مثاله أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة ، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها ، فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن ، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت بطبعها إلى خلافه ، وحركتها من حيث هي حركة خير ، وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي حركة ، والشر كله ظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا . فعلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية ، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له ، فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها ، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه ; فإنه - سبحانه - لا يخلق شرا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإن حكمته تأبى ذلك . بل قد يكون ذلك المخلوق شرا ومفسدة ببعض الاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده ، بل الواقع منحصر في ذلك ، فلا يمكن في جناب الحق - جل جلاله - أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه وبكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما . هذا من أبين المحال ، فإنه - سبحانه - بيده الخير والشر ليس إليه ، بل كل ما إليه فخير ، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله . فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا .
" فإن قلت : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة ؟ قلت : هو من الجهة ليس بشر ، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه ، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير ، فإن أردت مزيد إيضاح في ذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والإمداد ، فهذه هي الخيرات وأسبابها ، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى الله ، وإعداده خير وهو إليه أيضا . فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل ، وإنما إليه ضده فإن قلت : فهلا أمده إذا وجده ؟ قلت : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه - سبحانه - يوجده ويمده ، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته ، فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده .
" فإن قلت : فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فالجواب : هذا سؤال فاسد يظن مورده أن تساوي الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل ، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها ، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت ، فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت ، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق [ ص: 226 ] من تفاوت ( قال - رحمه الله تعالى - ) : فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل :
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع