وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
[ ص: 283 ] قوله - تعالى - : وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب بيان لحال طائفة أخرى من أهل الكتاب ، والجمهور على أن المراد بهذا الفريق بعض علماء اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وإن كان التشنيع عليهم يتناول كل من كان على شاكلتهم منهم ومن غيرهم . ويروون عن ( رضي الله عنهما ) أن هذا الفريق هم ابن عباس اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف أحد زعمائهم الملحين في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه والإغراء به ، غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته ; يوهمون الناس أنه من التوراة ، وهذا العمل ينبئ بفساد اعتقادهم وعدم استمساكهم بكتابهم . وذلك أنهم جعلوا الدين جنسية وصار الانتصار له عندهم عبارة عن مقاومة من لم يكن من جنسهم وإن كان أقرب منهم إلى ما جاء في كتابهم ، بل إنهم يخرجون عن كتابهم ويحرفونه لمقاومة الغريب ، ويعدون ذلك انتصارا له ، وهكذا يفعل أشباههم من المسلمين اليوم ، فقد يعدون من أنصار الدين والمتعصبين له من لا معرفة له بعقائده وأصوله ولا بفروعه إلا ما هو مشهور عن العامة ، ولا هو يعمل بما يعلم من ذلك - وإنما يعدونه كذلك إذا هو عادى من لا يعدون من المسلمين ولو بسبب سياسي أو دنيوي لا علاقة له بالإسلام ، بل يعدون من أنصار الدين من يطعن في بعض المصلحين من المسلمين لمخالفتهم ما عليه العامة والمقلدون فيما يعدونه من الإسلام لأنهم اعتادوه لا لأن كتاب الله جاء به . وقد يحرفون القرآن بالتأويل لتأييد تقاليدهم وبدعهم أو يعرضون عنه اعتذارا بأنهم غير مطالبين بأخذ دينهم منه بل من كلام العلماء .
أما لي اللسان بالكتاب فهو فتله للكلام وتحريفه له بصرفه عن معناه إلى معنى آخر وقد وصف - تعالى - بهاليهود في سورة النساء بقوله : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم [ 4 : 46 ] فهذا مثال من لي اللسان بالكلام وإن لم يكن من الكتاب ، ذلك أنهم وضعوا كلمة غير مسمع مكان جملة " لا أسمعت مكروها " الدعائية التي تقال عادة عند ذكر السماع . وكلمة راعنا مكان كلمة " انظرنا " التي يقولها الناس لمن يطلبون معونته ومساعدته وإنما قالوا : غير مسمع لأنها تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى " لا سمعت " وقالوا : راعنا لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها - كما قال المفسرون ، وسيأتي تفصيل ذلك في محله - ومثل هذا ما ورد في كتب الحديث والسير من أنهم كانوا إذا سلموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يضغمون كلمة السلام فيخفون اللام قائلين " السام عليكم " غير مفصحين بالكلمة ، والسام : الموت ، فاللي والتحريف قد كان يكون منهم أحيانا بتغيير في اللفظ وأحيانا بصرفه إلى غير [ ص: 284 ] المعنى المراد منه ، ومنه أن يقرأ القارئ شيئا بالكيفية التي يقرأ بها الكتاب من جرس الصوت وطريقة النغم وإظهار الخشوع ليحسبه السامع من الكتاب فيقبله ، ولا أذكر أن أحدا نبه عليه . ولفظ اللي يتناوله وهو مما يتبادر إلى أذهان الموهمين ، وقد رأينا من المتساهلين في المسلمين من يأتيه مازحا بأن يقرأ من كتاب ما جملا بالتجويد الذي يقرأ به القرآن ليوهم الجاهل أو يختبره . ويروى أن أوهم امرأته بمثل ذلك ، وهو مما لا يصدق على صحابي جليل مثله . عبد الله بن رواحة
قال الأستاذ الإمام : هذا اللي هو أن يعطي الناطق للفظ معنى آخر غير المعنى الذي يظهر منه . مثال ذلك الألفاظ التي جاءت على لسان سيدنا عيسى - عليه السلام - ككلمة ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس فقد كان ذلك استعمالا مجازيا ، ولواه بعضهم فنقله إلى الحقيقة بالنسبة إلى المسيح وحده أي فهم يفسرون لفظا بغير معناه المراد في الكتاب يوهمون الناس أن الكتاب جاء بذلك كما قال : لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون إنهم كاذبون .
أكد الخبر بتعمدهم التحريف وسجل الكذب الصريح عليهم ; كأنه يقول إنهم لا يعرضون ولا يورون وإنما يصرحون بالكذب تصريحا لفرط جراءتهم وعدم خوفهم من الله - تعالى - لأن الدين عندهم رسم ظاهر وجنسية هي مصدر الغرور ; إذ يعتقدون أنهم يغفر لهم جميع ما يجترمون لأنهم من أهل هذا الدين ، ومن سلالة أولئك النبيين ، وهكذا حال الذين اتبعوا سننهم من المسلمين ، يقولون إن المسلم من أهل الجنة حتما ، مهما كانت سيرته سيئة وعمله قبيحا .
فإن لم تدركه الشفاعات أدركته المغفرة ، ويعنون بالمسلم من اتخذ الإسلام جنسا له ، وإن لم يصدق عليه ما جاء في الكتاب والأحاديث من صفات المؤمنين الصادقين ، بل صدق عليه ما جاء في وصف الكافرين والمنافقين .