أقول : وقد جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان محفوفا بالمكاره والمخاوف ، وكم قتل في سبيل ذلك منهم من نبي وصديق فكانوا أفضل الشهداء . وفي حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله - تعالى - فقتله على ذلك حمزة بن عبد المطلب رواه سيد الشهداء الحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وتعقبه الذهبي بأن في سنده حفيد العطار لا يدرى من هو ، ورواه الديلمي . وروى والضياء المقدسي نحوه عن الطبراني بسند ضعيف ، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - : ابن عباس كلمة حق عند سلطان جائر أفضل الجهاد رواه من حديث ابن ماجه ، أبي سعيد الخدري وأحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة ، وأحمد والنسائي والبيهقي في الشعب أيضا عن . ذكر ذلك في الجامع الصغير ، ووضع بجانبه علامة الصحيح . طارق بن شهاب
أقول : ورواه أبو داود في سننه عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ وقد ورد من تصدي علماء السلف لنصيحة الملوك والأمراء الظالمين وإيذاء هؤلاء لهم وسفكهم دماء بعضهم ما يرد شرط أولئك المشترطين للأمن عليهم ويضرب به وجوههم ، ولا ينافي هذا كون التوقي من الهلكة واجبا لذاته في هذه الحالة ، كما يجب في حال الجهاد بالسيف ، فلا نترك الدعوة إلى الخير ولا الجهاد دونه خوفا على أنفسنا وحرصا على الحياة الدنيا ، ولا نفرط بأنفسنا في أثناء دعوتنا وجهادنا فيما لا تتوقف الدعوة ولا حمايتها عليه . وقد يكون أكثر ما يصيب الداعي إلى الخير من الأذى ناشئا عن طريقة الدعوة وكيفية سوقها إلى المدعو ولا سيما إذا كان مسلما وكانت الدعوة مؤيدة بالكتاب والسنة أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 : 125 ] .
قال الأستاذ الإمام : إن الله - تعالى - ، وأمرهم أن يعدوا لذلك عدته ويعرفوا سبله وهي مبسوطة في السنة ، كقصة ذلك الرجل الذي كان ينادي في الطريق : أريد أن أزني ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وضرب على [ ص: 28 ] كتفه وقال : أتفعل هذا بأمك ؟ قال : لا . قال : أتفعله بأختك ؟ قال : لا ، وخجل الرجل وانصرف . وكقصة الأعرابي الذي عاهد الرسول على ترك الكذب . فهذه هي الحكمة وبها تجب القدوة أمر الناس بالتواصي بالحق والدعوة إلى الخير قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ 3 : 31 ] وإنا لن نكون متبعين له حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر على سنته وطريقته ، أي في اللطف وتحري الإقناع .
أقول : أما قصة الرجل الذي يريد الزنا فهي كما روى من حديث ابن جرير أبي أمامة " كذا في كنز العمال ، وذكره أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا ، فهم من كان قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتناولوه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعوه ، ثم قال له : أتحب أن تفعل هذا بأختك ؟ قال : لا ، قال : فبابنتك ؟ قال : لا ، فلم يزل يقول فبكذا فبكذا كل ذلك يقول : لا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فاكره ما كره الله وأحب لأخيك ما تحب لنفسك في باب آداب المحتسب من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحياء ، قال : وقد روى الغزالي أبو أمامة " ابن عوف أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد : لا ، جعلني الله فداءك " وقالا جميعا في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر : فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره وقال : اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه - يعني من الزنا - قال الشارح : قال أن غلاما شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله أتأذن لي في الزنا ؟ فصاح الناس به ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قربوه ، أدن . فدنا حتى جلس بين يديه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتحبه لأمك ؟ قال : لا ، جعلني الله فداءك . قال : كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم ، أتحبه لأختك ؟ وزاد العراقي : رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح . أقول : أما سياق الأستاذ الإمام فلا أذكر أني رأيته فارجع إليه ، وهو قد قصد المعنى دون نص الحديث . وكذلك حديث الأعرابي الذي عاهد على ترك الكذب لا أتذكر مخرجه ، وإنما أتذكر أنه أسلم على شرط أن يدع له النبي واحدة من ثلاث اعتادها : الكذب ، والخمر ، والزنا - فعاهده على ترك الكذب فكان وسيلة إلى ترك الخمر والزنا .
وفي هذا المقام - مقام أمن المتصدي للدعوة والأمر والنهي على نفسه وماله كما قيل - يأتي بحث ، وهو مرتبة غير مرتبة التناصح لا بد فيها من قدرة خاصة . تغيير المنكر بالفعل
ولذلك قالوا : إنها من خصائص الحكام ، فيشترط فيها إذنهم ، وفي قول آخر : لا يشترط .
والأصل في ذلك حديث رواه من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن [ ص: 29 ] لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث ، وأنت ترى أن الخطاب فيه للأمة ، وقد يقال : إنه إذن منه - صلى الله عليه وسلم - وهو حاكم المسلمين في زمنه فهو تشريع وتنفيذ . وقال الأستاذ الإمام في الدرس : هنا يخلطون بين النهي عن المنكر وتغيير المنكر الذي جاء في حديث أبي سعيد الخدري وهذا شيء آخر غير النهي ألبتة ، فإن النهي عن الشيء إنما يكون قبل فعله وإلا كان رفعا للواقع أو تحصيلا للحاصل ، فإذا رأيت شخصا يغش السمن - مثلا - وجب عليك تغيير ذلك ومنعه منه بالفعل إن استطعت ، فالقدرة والاستطاعة هنا مشروطة بالنص ، فإن لم تقدر على ذلك وجب عليك التغيير باللسان وهو غير خاص بنهي الغاش ووعظه بل يدخل فيه رفع أمره إلى الحاكم الذي يمنعه بقدرة فوق قدرتك . أما من رأى منكم منكرا فليغيره فهو عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضى بفعله ، وللنهي طرق كثيرة وأساليب متعددة ولكل مقام مقال . التغيير بالقلب
قال : نعم إن دعوة الأمة غيرها من الأمم إلى الخير الذي هي عليه لا يطالب بها كل فرد بالفعل إذ لا يستطيع كل فرد ذلك ، وإنما يجب على كل فرد أن يجعل ذلك نصب عينيه حتى إذا عن له بأن لقي أحدا من أفراد تلك الأمم دعاه ، لا أنه ينقطع لذلك ويسافر لأجله ، وإنما يقوم بهذا طائفة يعدون له عدته ، وسائر الأفراد يقومون به عند الاستطاعة ، فهو يشبه فريضة الحج ، هي فرض عين ولكن على المستطيع ، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد من فريضة الحج ، ولم يشترط فيها الاستطاعة لأنها مستطاعة دائما . عند هذا قال قائل : إن من الناس من لا يستطيع ذلك قطعا ، فرد عليه قوله وضرب له مثلا طائفة الشيعة فإنهم لما كانت الدعوة ملتزمة عندهم صاروا كلهم دعاة عندما يعن لهم من يدعونه ، وذكر أنه لما كان في بيروت احتاج إلى ظئر لإرضاع بنت له فجيء بظئر شيعية من المتأولة فكانت في الدار تدعو النساء إلى مذهبها . وقال : إن رعاة الإبل من الصحابة والتابعين كانوا يدعون كل أحد إلى الإسلام حتى الملوك والأمراء ، فهذا يدل على أن الأمة إذا أرادت الدعوة لا يقف في سبيلها شيء ، وقد تقدم قوله : إن الجهل ليس بعذر للمسلم لأنه يجب أن يكون عالما .
ثم قال ما حاصله : جملة القول أن فرض حتم على كل مسلم كما تدل عليه الآية في ظاهرها المتبادر ، وغيرها من الآيات كقوله - تعالى - : الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه [ 5 : 79 ] وكذلك عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - . وكون هذا حفاظا للأمة وحرزا ظاهر ; فإن الناس إذا تركوا دعوة الخير وسكت بعضهم لبعض على ارتكاب المنكرات خرجوا عن معنى الأمة وكانوا أفذاذا متفرقين لا جامعة لهم ; ولهذا ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمداهن مثل راكب [ ص: 30 ] في سفينة يطوف على جماعة معه بماء وكل ينفر مما معه فقال لهم : إني في حاجة إليه وذهب ينقر في السفينة فإن أخذوا على يده نجوا ونجا معهم وإلا هلك وهلكوا جميعا . ففشو المنكرات مهلكة للأمة واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 : 25 ] فلا بد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما أمهات المنكرات المفسدة للاجتماع كالكذب والخيانة والحسد والغش ، فهذا ليس من فروض الكفاية التي يتواكل فيها الناس كصلاة الجنازة إذ لا يجب على كل من علم أن هنا ميتا أن ينتظر غسله ليصلي عليه بل يكفي أن يعلم أنه يوجد من يصلي عليه ، ولكنه إذا رأى منكرا وجب عليه أن ينهى عنه ولا ينتظر غيره لأنه تغيير على رأيه .
أقول : ويظهر تذييل الآية بقوله - تعالى - : وأولئك هم المفلحون على هذا الوجه ما لا يظهر على الوجه الآتي فهو يقول : إن القائمين بما ذكر هم الفائزون بما أعده الله من السعادة لأهل الحق دون سواهم ، ولا يصح أن يكون خاصا بالقائمين بفرض الكفاية ، وفسره الأستاذ الإمام بالفلاح في الدنيا ، فالأمة التي تترك ذلك تكون من الخاسرين لا المفلحين .