قال ( الرازي ) في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها : اعلم أن الله - تعالى - ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب ، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب ، جامعا بين الزجر والترغيب ، والوعد والوعيد ، فلما وصف من آمن من الكافرين بما تقدم [ ص: 62 ] من الصفة الحسنة أتبعه - تعالى - بوعيد الكفار فقال : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأقول : قد اختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا ، فقيل : هم بنو قريظة والنضير من اليهود ، وروي هذا القول عن ( رضي الله عنهما ) وهو الملائم للسياق من حيث كانت الآيات قبله في مؤمني ابن عباس أهل الكتاب ، ومن حيث حرص اليهود على المال والحياة وأعزها وآثرها حياة الأولاد ، وقيل : هم مشركو قريش عامة ، وقيل : بل هم أبو سفيان ورهطه خاصة ، ووجهوه بما نقل من إنفاقه المال الكثير على المشركين يوم بدر ويوم أحد ، وقيل : إن الكلام في الكفار عامة لعموم اللفظ فهو على إطلاقه ويدخل فيه اليهود الذين كانوا مجاورين للمسلمين يومئذ وكذا مشركو مكة دخولا أوليا ، قالوا : إنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ويعيرون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بالفقر ويقولون : لو كان محمد على الحق ما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ، وقيل : هم المنافقون إذ كان أكثرهم من الأغنياء ، ومن كان كثير الأموال والأولاد قلما يشعر بحاجته إلى ما عند غيره من هداية أو علم أو أدب إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 : 6 ، 7 ] وقد سبق لنا بيان ذلك في تفسير قوله - تعالى - من هذه السورة : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا [ 3 : 10 ] الآية .
وقد فسر ( الجلال ) كغيره ( تغني ) بتدفع ، أي لا تدفع شيئا من العذاب عنهم ، وإنما هو من الغناء بمعنى الكفاية ، ولذلك رد هذا القول الأستاذ الإمام واختار أن ( شيئا ) هو مفعول مطلق قال : أي لا تغني عنهم نوعا من أنواع الغناء ، أو لا تغني غناء ما ، قال : وذكر الأموال والأولاد لأن المغرور إنما يصده عن اتباع الحق أو النظر في دليله الاستغناء بما هو فيه من النعم وأعظمها الأموال والأولاد ، فالذي يرى نفسه مستغنيا بمثل ذلك قلما يوجه نظره إلى طلب الحق أو يصغي إلى الداعي إليه : أي ومن لم يوجه نظره إلى الحق لا يبصره ، ومن لم يبصره تخبط في دياجير الضلال عمره حتى يتردى فيهلك الهلاك الأبدي ، ولا ينفعه في الآخرة ماله فيفتدي به أو ينتفع بما كان أنفقه منه ولذلك قال : وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لأن طبيعة أرواحهم اقتضت أن يكونوا في تلك الهاوية المظلمة المستعرة ، ثم مثل حالهم في إنفاق أموالهم التي فتنتهم فشغلتهم عن الحق أو أغرتهم بمقاومته فقال : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته قال ( الراغب ) : مثل الشيء - بالتحريك : مثله وشبهه ، ويطلق على صفة الشيء ، والمثل في الكلام : عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ليبين أحدهما الآخر ويصوره : أي ولو من بعض الوجوه ; لأن بيان الحقائق يكون على حسب [ ص: 63 ] المقاصد . والصر - بالكسر - والصرة : شدة البرد ، وقيل : هو البرد عامة - حكيت الأخيرة عن ثعلب - وقال ( الليث ) : الصر البرد الذي يضرب النبات ويحسه اهـ . من لسان العرب ، وفي الكشاف الصر : الريح الباردة نحو الصرصر قال :
لا تعدلن أتاويين تضربهم نكباء صر بأصحاب المحلات
كما قالت ليلى الأخيلية :
ولم تغلب الخصم الألد وتملأ الـ جفان سديفا يوم نكباء صرصر
ثم قال : فإن قلت : فما معنى قوله : الزمخشري كمثل ريح فيها صر قلت : فيه أوجه . ( أحدها ) : أن الصر في صفة الريح بمعنى الباردة فوصف بها القرة بمعنى " فيها قرة صر " كما تقول " برد بارد " على المبالغة . ( والثاني ) : أن يكون الصر مصدرا في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله ( والثالث ) : أن يكون من قوله - تعالى - : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 : 21 ] ومن قولك : إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل . قال : وفي الرحمن للضعفاء كافي اهـ . ونقل اللسان عن الآية في ثلاثة أقوال أحدها ابن الأنباري فيها صر أي برد ، والثاني فيها تصويت وحركة . ونقل عن قول آخر : ابن عباس فيها صر قال : فيها نار اهـ . يعني حرا شديدا ، وهو أحد قولين عنه . ومن هنا أخذ الجلال قوله في تفسير الصر : حر وبرد ، وأنكر عليه الأستاذ الإمام كلمة الحر ، وقال : إنه لا يهلك الحرث بمجرد إصابته وإنما يهلكه البرد فهو المراد حتما . أقول : وقد اختلف في معنى أصل مادة الصر هل هو الصوت أو الشدة ؟ والصواب أنه الشدة تكون في الصوت ومنه فأقبلت امرأته في صرة [ 51 : 29 ] كما تكون في البرد ، فالصر هنا هو البرد الشديد حتما ، وهو قول الذي رواه عنه وعن غيره ابن عباس ، ولعلهم أخذوا قولهم فيها نار من إحراق الزرع . ابن جرير
أما المعنى فقد قال الأستاذ الإمام : إن الريح المهلكة مثال للمال الذي ينفقونه في لذاتهم وجاههم ونشر سمعتهم وتأييد كلمتهم فيصدهم عن سبيل الله ، وإن العقول والأخلاق الحسنة التي هي أصل جميع المنافع هي مثال الحرث ، أي إن المال الذي ينفقونه فيما ذكر هو الذي أفسد أخلاقهم وأهلك عقولهم بما صرفها عن النظر الصحيح ولفتها عن التفكر في عواقب الأمور ، ثم أشار إلى ما قالوه في جعل التشبيه في المثل مركبا وهو أن حالهم فيما ينفقونه وإن كان في الخير كحال الريح ذات الصر المهلكة للزرع ، فهم لا يستفيدون من نفقتهم شيئا . ومن المفسرين من جعل هذا فيما ينفقونه في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقاومة دعوته سواء كان المنفقون هم اليهود أو أهل مكة ، ومنهم من جعل ذلك فيما ينفق [ ص: 64 ] المنافقون رياء أو تقية ، وقد خاب الفريقان وخسروا بنصر الله نبيه والمؤمنين ، وبفضيحة المنافقين في سورة ( براءة ) . وبعض المفسرين يخص هذا الإنفاق بما يفعله الكافر على سبيل البر وهو لا يفيده في الآخرة شيئا ، إذ الإيمان شرط لقبول الأعمال ونفعها في تلك الدار .
أما وصف القوم الذين أهلكت الريح حرثهم بكونهم ظلموا أنفسهم فقد قال في الكشاف مبينا نكتته ما نصه : " فأهلك عقوبة لهم لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ " وفي هامشه كتب بإملائه في ذلك : أن النكتة في ذلك هي إفادة أن أولئك المنفقين لا يستفيدون شيئا منه ; لأن حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب على الكلية إذ لا منفعة لهم فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب على الكلية لأنه وإن كان يذهب صورة إلا أنه لا يذهب معنى لما فيه من حصول أغراض لهم في الآخرة والثواب بالصبر على الذهاب " اهـ . الزمخشري
وأقول : إن الوصف يشعر بأن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة على ذنوب اقترفوها ولكنه ليس نصا في ذلك لما علمت من تعليل الكشاف آنفا ، ولا يعارض ذلك ما ثبت من الأسباب الطبيعية لها لأنه لا يستنكر على البارئ الحكيم الذي وضع سنن ارتباط الأسباب بالمسببات في عالم الحس أن يوفق بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط في البشر لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي يستفيدونها من النظر والتجربة ، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهي ، ويسمى ما ترتب عليه حدوث الشيء سببا له وما قارن المسبب من نفع العباد وضر بعضهم به حكمة له ، وكل من سبب الشيء وحكمته أو حكمه مقصود للخالق الحكيم .
رأينا في مذهب ( دارون ) العالم الطبيعي الشهير أن الحكمة في ألوان الثمار كالمشمش والخوخ والبرقوق هي إغراء أكلتها من الطير والناس بها لتأكلها فيسقط عجمها على الأرض لينبت فيها بسهولة فيحفظ نوعه بتجدد النسل أو ما هذا حاصله . ومن المعلوم بالضرورة أن لتلك الألوان أسبابا طبيعية تتعلق باستعداد نباتها وتأثير النور فيه . فهلا تستنكر على حكمة من وفق بين أسباب تلك الألوان ذات البهجة في الثمار وبين مصلحة الطير بهدايته إليها وحفظ النظام العام ببقاء أنواعها أن يوفق بين أسباب إرسال العواصف والأعاصير وبين عقوبة الظالمين من البشر ليكون لهم زاجران عن الذنوب ، أحدهما : حذر آثارها الطبيعية الضارة بهم فإن لكل ذنب ضررا لأجله كان محرما ، إذ لا يحرم الله على عباده [ ص: 65 ] شيئا لإعانتهم . وثانيهما : ما يتخوف المؤمن من إصابة العقوبات الآفاقية إياه بذهاب الجوائح بماله إذا هو بغى وظلم ؟ .
ومن هذا القبيل : ما سألني عنه غير واحد من أهل العلم والبحث ، وهو ما معنى جعل الشهب رجوما للشياطين ومنعها إياهم من استراق السمع لمعرفة الوحي من الملائكة مع العلم بأن للشهب أسبابا طبيعية ؟ وجوابه : أن الحكيم الخبير - الذي يوفق أقدارا لأقدار فيجمع بين السبب ومسببه وبين أمور أخرى تسوقها أسباب خاصة بها لحكمة وراء تلك الأسباب - هو الذي جعل لهذه الظاهرة الطبيعية تلك الحكمة الغيبية التي بينها الوحي ونطق بها الذكر ، ومثلها في عالم الطبيعة كثير ، ولعل لبعض الماديات تأثيرا في الأرواح الغيبية كتأثيرها في أرواحنا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ 17 : 85 ] أكتفي هنا بهذا التنبيه إلى هذه المسألة التي لم أر في كتاب ولم أسمع من لسان أحد قولا فيها وإن لها لمواضع أخرى من التفسير كقوله - تعالى - : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 : 30 ] وسنعقد لها فصلا في المقدمة ، وهنالك نجيب عما يرد عليها من الشبهات .
قال - تعالى - : وما ظلمهم الله يعني أولئك الذين أهلكت الريح ذات الصر حرثهم وذلك أنهم هم الذين كانوا ظلموا أنفسهم كما تقدم ، فكان هلاك زرعهم عقوبة لهم لا إيذاء آنفا ، وعلى هذا يكون قوله : ولكن أنفسهم يظلمون تأكيدا ذاهبا بكل شبهة . والظاهر المختار أن الضمير في قوله : وما ظلمهم الله للمنفقين الذين ضرب المثل لبيان حالهم ، فهم المقصودون بالذات . والمعنى ما ظلمهم الله بأن لم ينفعهم بنفقاتهم بل هم هم الذين ظلموا أنفسهم وحدها دون غيرها بإنفاق تلك الأموال في الطرق التي تؤدي إلى الخيبة والخسران بحسب سنة الله في أعمال الإنسان .
أما كونهم يظلمون أنفسهم دون غيرها أو دون أن يظلمهم أحد - كما تقدم أخذا من تقديم أنفسهم على عامله - فهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة كلهم أو بعضهم أو اليهود في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقاومته ، إذ كانوا هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم ولم يضروه - صلى الله عليه وسلم - ومن معه به ، بل كانوا سبب سيادته عليهم وتمكنه منهم ، وظاهر أيضا على القول بأن المراد بتلك النفقات ما كان يضعه المنافقون في بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقية ، من حيث إنها لا ينتفع بها في الآخرة ، ويقولون مثل هذا في الكافر الذي ينفق في طرق البر حبا في البر ورغبة في الخير ، فإنه - وإن كان أحسن حالا من المرائي - لا تفيده نفقته في الآخرة لأن شرطها الإيمان ، وقد ظلم نفسه بترك النظر في الآيات والبينات عليه بعدما ظهرت له ، أو بالجحود بعد النظر ونهوض الحجة ، وإنما يعنون بقولهم : إن نفقته لا تفيده في الآخرة أنها لا تجعله من أهل الجنة . ولا يوجد [ ص: 66 ] عاقل قط يقول : إن الكافرين في الآخرة كلهم سواء لا فرق بين المحسن عملا والمسيء ، وبين فاعل الخير ومقترف الإثم . وسنعود إلى هذا البحث في مواضع أخرى .