إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا أي إن الذين تولوا وفروا من أماكنهم يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد لم يكن ذلك التولي منهم إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل ، أي زلوا وانحرفوا عما يجب أن يكونوا ثابتين عليه باستجرار الشيطان بالوسوسة . قال الراغب : استجرهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه اهـ . ولعله يشير بذلك أن المراد بالذين تولوا الرماة الذين أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين ، فإنهم ما زلوا وانحرفوا عن مكانهم إلا مترخصين في ذلك ، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم ، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنيمة ضرر ، فكان هذا الترخص والتأويل للنهي الصريح عن التحول وترك المكان سببا لكل ما جرى من المصائب ، وأعظمها ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وهناك وجه آخر وهو أن الذين تولوا هم جميع الذين تخلوا عن القتال من الرماة وغيرهم ، كالذين انهزموا عندما جاءهم العدو من خلفهم واستدل القائلون بهذا الوجه بما روي من أن عوتب في هزيمته يوم عثمان بن عفان أحد فقال : إن ذلك خطأ عفا الله عنه .
أما كون الاستزلال قد كان ببعض ما كسبوا فقد قيل : إن الباء في قوله : ( ببعض ) على أصلها وأن الزلل الذي وقع هو عين ما كسبوا من التولي عن القتال ، وقيل : إنها للسببية أي إن بعض ما كسبوا قد كان سببا لزلتهم ، ولما كان السبب متقدما دائما على المسبب وجب أن يكون ذلك البعض من كسبهم متقدما على زللهم هذا ومفضيا إليه . فإن كان المراد بالذين تولوا الرماة جاز أن يكون المراد بالزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة ، ويكون هذا التولي هو المراد ببعض ما كسبوا ، ولا يصح هذا التأويل على الوجه الآخر القائل بأن الذين تولوا هم جميع الذين أدبروا عن القتال إلا إذا أريد ببعض ما كسبوا : ما كسب الرماة منهم وهم بعضهم ، فيكون المعنى : إن الذين تولوا منكم مدبرين عن القتال إنما استزلهم الشيطان بسبب بعض ما كسبت طائفة منهم وهم بعض الرماة ، فإنه لولا ذلك لما كر المشركون بعد هزيمتهم وجاءوا المؤمنين من ورائهم حتى أدهشوهم وهزموهم .
وللسببية وجه آخر ينطبق على كل من القولين في الذين تولوا ، وهو أن توليهم عن القتال لم يكن إلا ناشئا عن بعض ما كسبوا من السيئات من قبل ، فإنها هي التي أحدثت الضعف في نفوسهم حتى أعدتها إلى ما وقع منها ، ويؤيد هذا الوجه قوله - تعالى - : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 : 30 ] فهو بمعنى ما هنا إلا أنه هنالك عام وهنا خاص [ ص: 158 ] بالذين تولوا يوم أحد ، فالآيتان واردتان في بيان سنة من سنن الله - تعالى - في أخلاق البشر وأعمالهم ، وهي أن المصائب التي تعرض لهم في أبدانهم وشئونهم الاجتماعية إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم ، وأن من أعمالهم ما لا يترتب عليه عقوبة تعد مصيبة وهو المعفو عنه ، أي الذي مضت سنة الله - تعالى - بأن يعفى ويمحى أثره من النفس ، فلا يترتب عليه الأعمال وهو بعض اللمم والهفو الذي لا يتكرر ولا يصير ملكة وعادة . وقد عبر عنه في الآية التي هي الأصل والقاعدة في بيان هذه السنة بقوله : ويعفو عن كثير ويؤيد ذلك قوله - تعالى - : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 : 45 ] أي بجميع ما كسبوا ، فإن " ما " من الكلمات التي تفيد العموم . وقد بينا هذه السنة الإلهية في مواضع كثيرة من التفسير ، وجرينا على أنها عامة في عقوبات الدنيا والآخرة فجميعها آثار طبيعية للأعمال السيئة ، وقد اهتدى إلى هذه السنة بعض حكماء الغرب في هذا العصر .
أما قوله - تعالى - : ولقد عفا الله عنهم فالعفو فيه غير العفو في آية الشورى ، ذلك عفو عام وهذا عفو خاص ، ذلك عفو يراد به أن من سنة الله في فطرة البشر أن تكون بعض هفواتهم وذنوبهم غير مفضية إلى العقوبة بالمصائب في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وهذا العفو خاص بالمؤمنين يراد به أن ذنبهم يوم أحد الذي كان من شأنه أن يعاقب عليه في الدنيا والآخرة قد كانت عقوبته الدنيوية تربية وتمحيصا وعفا الله عن العقوبة عليه في الآخرة ، ولذلك قال : إن الله غفور حليم لا يعجل بتحتيم العقاب . ومن آيات مغفرته لهم وحلمه بهم توفيقهم للاستفادة مما وقع منهم وإثابتهم الغم الذي دفعهم إلى التوبة حتى تمحص ما في قلوبهم واستحقوا العفو عن ذنوبهم .