فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون
[ ص: 163 ] الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بمعاملتهم يقول لنبيه : فبما رحمة من الله لنت لهم قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة وإيضاح : الفاء للتعقيب لأن الكلام في وقعة خالف النبي فيها بعض أصحابه ، فكان لذلك من الفشل وظهور المشركين ما كان حتى أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع من أصيب ، فكان من لينه في معاملتهم ومخاطبتهم ومن رحمته بهم أن صبر وتجلد فلم يتشدد في عتب ولا توبيخ اهتداء بكتاب الله - تعالى - ، فقد أنزل الله عليه آيات كثيرة في الوقعة بين فيها ما كان من ضعف في المسلمين وعصيان وتقصير حتى ما كان متعلقا بالظنون الفكرية والهموم النفسية ، ولكن مع العتب اللطيف المقرون بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة وفوائد المصائب ، كما ورد في الصحيح من حديث وقد كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن عائشة - رضي الله عنها - .
أقول : كأنه يقول : إنه كان من أصحابك يا محمد ما كان ، كما دلت عليه الآيات وهو مما يؤاخذون عليه فلنت لهم وعاملتهم بالحسنى ، وإنما لنت لهم بسبب رحمة عظيمة أنزلها الله على قلبك وخصك بها فعمت الناس فوائدها ، وجعل القرآن ممدا لها بما هداك إليه من الآداب العالية والحكم السامية التي هونت عليك المصائب وعلمتك منافعها وحكمها وحسن عواقبها للمعتبر بها ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك لأن الفظاظة هي الشراسة والخشونة في المعاشرة ، وهي القسوة والغلظة ، وهما من الأخلاق المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبهما وإن كثرت فضائله ، ورجيت فواضله ، بل يتفرقون ويذهبون من حوله ويتركونه وشأنه لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه ، والتحلق حواليه ، وإذا لفاتهم هدايتك ، ولم يبلغ قلوبهم دعوتك فاعف عنهم واستغفر لهم فلا تؤاخذهم على ما فرطوا واسأل الله - تعالى - أن يغفر لهم ولا يؤاخذهم أيضا ، فبذلك تكون محافظا على تلك الرحمة التي خصك الله بها ، ومداوما لتلك السيرة الحسنة ، التي هداك الله إليها وشاورهم في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية ، أي دم على المشاورة وواظب عليها ، كما فعلت قبل الحرب في هذه الوقعة ( غزوة أحد ) وإن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على العمل بالمشاورة دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا ، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم ( المشاورة ) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر ، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر .
قال الأستاذ الإمام : ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير ، وإذا كان المستشارون كثارا كثر النزاع وتشعب الرأي ، ولهذه الصعوبة والوعورة أمر الله - تعالى - نبيه أن يقرر [ ص: 164 ] سنة بالعمل ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يستشير أصحابه بغاية اللطف ويصغي إلى كل قول ويرجع عن رأيه إلى رأيهم ، وليس عندي عن الأستاذ في هذه المسألة غير هذا . المشاورة في هذه الأمة
وأقول : الأمر المعرف هنا هو أمر المسلمين المضاف إليهم في القاعدة الأولى التي وضعت للحكومة الإسلامية في سورة الشورى المكية ، وهي قوله - تعالى - في بيان ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدين وأمرهم شورى بينهم [ 42 : 38 ] فالمراد بالأمر أمر الأمة الدنيوي الذي يقوم به الحكام عادة ; لا أمر الدين المحض الذي مداره على الوحي دون الرأي ، إذ لو كانت المسائل الدينية كالعقائد والعبادات والحلال والحرام مما يقرر بالمشاورة لكان الدين من وضع البشر ، وإنما هو وضع إلهي ليس لأحد فيه رأي لا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعده . وقد روي أن الصحابة - عليهم الرضوان - كانوا لا يعرضون رأيهم مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسائل الدنيا إلا بعد العلم بأنه قاله عن رأي لا عن وحي كما فعلوا يوم بدر ، بدر فنزل عنده فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : " يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال : يا رسول الله ليس هذا بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه " إلخ . ما قال . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد أشرت بالرأي وعمل برأيه . إذ جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أدنى ماء من
أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الركن ( الشورى ) في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة ، فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين يكونون معه ، ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضر إفشاؤها ، فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب ، فلم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون ثم الأنصار بالموافقة .
واستشارهم جميعا يوم أحد أيضا كما تقدم . وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر من أمور الأمة إلا ما ينزل عليه الوحي ببيانه فينفذه حتما ، ولما كثر المسلمون وامتد حكم الإسلام بعد الفتح إلى الأماكن البعيدة عن المدينة . وكان في كل قبيلة أو قرية من أولئك المسلمين رجال من أهل المكانة والرأي يمكن أن يقال : إنه قد احتيج إلى وضع قاعدة أو نظام للشورى يبين فيه طرق اشتراك أولئك البعداء عن مكان السلطة العليا فيها ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضع هذه القاعدة أو النظام لحكم وأسباب :
منها : أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان ، [ ص: 165 ] وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجا . وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد وأن الله سيفتح لأمته الممالك ، ويخضع لها الأمم وقد بشرها بذلك . فكل هذا كان مانعا من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعده من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي العصر الذي يتلو عصره إذ تفتح الممالك الواسعة وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية في الإسلام أو في سلطان الإسلام ، إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم ، فكان الأحكم أن يترك - صلى الله عليه وسلم - وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بها بالشورى .
ومنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان ، وما هي من أمر الدين ، ولذلك قال الصحابة في اختيار أبي بكر حاكما : رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ؟ فإن قيل : كان يمكن أن يذكر فيها أنه يجوز للأمة أن تتصرف فيها عند الحاجة بالنسخ والتغيير والتبديل نقول : إن الناس قد اتخذوا كلامه - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أمور الدنيا دينا مع قوله : " " رواه أنتم أعلم بأمر دنياكم مسلم . وقوله : " " رواه ما كان من أمر دينكم فإلي ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به أحمد . وإذا تأمل المنصف المسألة حق التأمل ، وكان ممن يعرف حقيقة شعور طبقات المؤمنين من العامة والخاصة في مثل ذلك يتجلى له أنه يصعب على أكثر الناس أن يرضوا بتغيير شيء وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة وإن أجاز لها تغييره ، بل يقولون : إنه أجاز ذلك تواضعا منه وتهذيبا لنا حتى لا يصعب علينا الرجوع عن آرائنا ، ورأيه هو الرأي الأعلى في كل حال .
وقريب مما نحن فيه تقديم - رحمه الله تعالى - العمل بالحديث الضعيف والمرسل على القياس وتعليله بما علله به . الإمام أحمد
ومنها : أنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه - صلى الله عليه وسلم - لكان غير عامل بالشورى ، وذلك محال في حقه لأنه معصوم من مخالفة أمر الله ، ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم كما فعل في الخروج إلى أحد ، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفا لرأيه - صلى الله عليه وسلم - ، فهل يرضى - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم أمثال أولئك القوم ومن دونهم - كأكثر من دخل في الإسلام بعد الفتح - في أصول الحكومة الإسلامية وقواعدها ؟ أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم ؟
[ ص: 166 ] بلى ، وقد تبين كنه ذلك الاستعداد بعد ذلك وأنه كان غير كاف لوضع قانون كافل لقيام المصلحة ، ولذلك بادر عمر إلى مبايعة أبي بكر ( رضي الله عنهما ) خوف الخلاف المهلك للأمة ; وصرح بعد ذلك بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها لا يجوز العود إلى مثلها ، وكذلك استشار أبو بكر كبراء الصحابة في العهد إلى عمر ، فلما علم رضاهم عهد إليه حتى لا يكون للتفرق والخلاف مجال كما يأتي قريبا . ولو كان - رضي الله عنه - يعتقد أن الأمة مستعدة لإقامة الشورى على وجهها مع الأمن من التفرق والخلاف ، لترك لها الأمر ، ولم يحاول جمع كلمة أولي الأمر منها في حياته على من يراه هو الأصلح حتى يموت آمنا عليها من تفرق الكلمة . الصديق
يقول قوم : إن بيعة عمر كانت بالعهد لا بالشورى التي هي الأساس للحكومة الإسلامية بنص الكتاب العزيز ، وهذا العهد رأي صحابي لا يصح أن يكون ناسخا للقرآن ولا مخصصا ولا مقيدا له ، فكيف عمل به جمهور الصحابة واتخذه الفقهاء قاعدة شرعية ؟ إذا أورد هذا السؤال شيعي أو غير شيعي من الباحثين المستقلين على أحد المشتغلين بالفقه يجيبه بناء على قواعده : إنه رأي قبله الصحابة وأجمعوا عليه ، والإجماع حجة مستقلة يجب العمل بها ، ونحن نعلم أن الشيعة والمستقلين بالعلم من غيرهم لا يقنعهم هذا الجواب ، فهم ينازعون في حصول هذا الإجماع وفي جواز مثله مع النص وكونه في مسألة قطعية لا تقوم المصلحة بدونها ، ويقولون على فرض التسليم : كيف أقدم أبو بكر على هذا الأمر المخالف للنص ولم يكن مجمعا عليه حينئذ لأنكم تدعون أنه إنما أجمع عليه بعد ذلك ؟
والصواب أن كانت بالشورى ، ولكن هذه الشورى حصلت في عهد بيعة عمر أبي بكر وهو الذي تولاها بنفسه كما قلنا آنفا ، وإنما تعجل ذلك لخوفه على الأمة فتنة التفرق والخلاف من بعده ، فشاور أهل الرأي والمكانة من الصحابة فيمن يلي الأمر بعده ; فرأى الأكثرين منهم يوافقونه على أن أمثلهم عمر ، ورأى بعضهم يخاف من شدته ، فكان يجتهد في إزالة ذلك من قلوبهم بمثل قوله : " إنه يراني كثير اللين فيشتد " أي لأجل أن يكون من مجموع سيرتهما الاعتدال أو ما هذا مغزاه ، حتى إنه تكلف صعود المنبر قبل وفاته وتكلم في المسألة بما أقنع القوم ، فعهد إليه في الأمر في حياته ، فكان ذلك كتوكيل له في مرضه وترشيح له من بعده ، وإنما العمدة في جعله أميرا على مبايعة الأمة ، والمبايعة لا تتوقف صحتها على الشورى ، ولكن قد يحتاج فيها إلى الشورى لأجل جمع الكلمة على واحد ترضاه الأمة ، فإذا أمكن ذلك بغير تشاور بين أهل الحل والعقد كأن جعلوا ذلك بالانتخاب المعروف الآن في الحكومة الجمهورية وما هو في معناها حصل المقصود ، وما سبق لأبي بكر من المشاورة والإقناع في تولية عمر أغنى عن المشاورة بعد وفاته ، فاتفق الجميع على مبايعته وصدق عليه أنه اتفاق بعد شورى أو بسبب الشورى .
[ ص: 167 ] وأما جعل عمر الشورى في نفر معينين فهو اجتهاد منه في إقامة هذا الركن مع اتقاء فتنة الخلاف التي تخشى من تكثير عدد المتشاورين ، فأولئك النفر الذين جعلها فيهم هم أهل الرأي والمكانة في الأمة الذين تخضع لرأيهم إذا اتفقوا وتتعصب لهم إذا اختلفوا ; لأن لكل واحد منهم عصبة يرونه أهلا للإمارة على المسلمين . وكان هؤلاء الذين اختارهم عمر ( رضي الله عنه ) هم أولي الأمر أو خواص أولي الأمر وزعماءهم ، وهم الأحق بالشورى كما يؤخذ من الأمر في الكتاب العزيز بطاعة أولي الأمر مع قوله - عز وجل - : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ 4 : 83 ] ومن المشهور أن للمفسرين في أولي الأمر قولين : أحدهما أنهم الأمراء الحاكمون ، وثانيهما : أنهم العلماء ، ومن الناس من يعبر بكلمة " الفقهاء " ومن المعلوم أنه لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراء حاكمون ولا صنف يسمى الفقهاء ، وإنما المراد بـ أولي الأمر الذين ترد إليهم مسائل الأمن والخوف وما في معناها من الأمور العامة : أهل الرأي والمكانة في الأمة وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها والمقبولة آراؤهم عند عامتها ، فما فعله أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - هو منتهى ما يمكن أن يعمل في إقامة الشورى بحسب حال الأمة واستعدادها في زمنهما . ثم إن المسلمين بادروا بعد قتل عثمان إلى مبايعة علي من غير اهتمام بالتشاور ; لأن الكفاءة التي يرونها فيها لم تكن تقبل شركة تدعو إلى إجالة الرأي ، ، وكانوا يستشيرون أهل العلم والرأي في كل شيء إلا أن فمبايعة الخلفاء الراشدين كانت من الأمة برضاها بني أمية قد أحاطوا بعثمان وغلبوا الأمة على رأيها عنده ، فكان من عاقبة ذلك ما كان من الفتن حتى استقر الأمر فيهم بقوة العصبية والدهاء ، لا باستشارة الدهماء ; فهم الذين هدموا قاعدة الحكم بالشورى في الإسلام بدلا من إقامته ووضع القوانين التي تحفظها ، وتجعل استفادة الأمة منها تابعة لتقدم العلوم والمعارف وأعمال العمران فيها ، ولولا هذا لكان ذلك الملك الذي وسعوا دائرته بالفتوحات أثبت في نفسه ولهم ، ولكان شأن الإسلام أعظم ، وانتشاره أكثر وأعم ، على أن هذا الاستبداد منهم قد كان معظمه مصروفا إلى المحافظة على سلطتهم وبقاء الملك في أسرتهم ، قلما يتسرب منه شيء إلى الإدارة والقضاء . وكانت حرية انتقاد الحكام والإنكار عليهم على كمالها حتى تبرم منها فقال على المنبر : من قال لي اتق الله ضربت عنقه - كما روي عن بعض المؤرخين - ولكنهم كانوا يتصرفون في بيت المال بأهوائهم في الغالب ، ولما أفضى الأمر إلى وارث الخلفاء الراشدين عبد الملك بن مروان - رحمه الله تعالى - أراد أن يخرجه من قومه ، فلم يتيسر له ذلك . عمر بن عبد العزيز
ثم رسخت السلطة الشخصية في زمن العباسيين لما كان للأعاجم من السلطان في [ ص: 168 ] ملكهم وجرى سائر ملوك المسلمين على ذلك وجاراهم عليه علماء الدين بعد ما كان لعلماء السلف الصالح من الإنكار الشديد على الملوك والأمراء في زمن بني أمية وأوائل زمن العباسيين ، فظن البعيد عن المسلمين وكذا القريب منهم أن السلطة في الإسلام استبدادية شخصية ، وأن الشورى محمدة اختيارية ، فيالله العجب : أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى فيجعل ذلك أمرا ثابتا مقررا ، ويأمر نبيه - المعصوم من اتباع الهوى في سياسته وحكمه - بأن يستشير حتى بعد أن كان ما كان من خطأ من غلب رأيهم في الشورى يوم أحد ، ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة كما تقدم بيانه مرارا كثيرة ؟ هذا ، وقد بلغ ملكوهم من الظلم والاستبداد مبلغا صاروا فيه عارا على الإسلام بل على البشر كله ، إلا من يتبرأ منهم ، ويبذل جهده في راحة العالم من شرهم . وسنعود إلى موضوع الحكومة الإسلامية عند الكلام على أولي الأمر في سورة النساء إن شاء الله - تعالى - .
قال - تعالى - بعد أمر نبيه بالمشاورة : فإذا عزمت فتوكل على الله أي فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على إمضاء ما ترجحه الشورى وأعددت له عدته فتوكل على الله في إمضائه ، وكن واثقا بمعونته وتأييده لك فيه ، ولا تتكل على حولك وقوتك ، بل اعلم أن وراء ما أتيته وما أوتيته قوة أعلى وأكمل يجب أن تكون بها الثقة وعليها المعول ، وإليها اللجأ إذا تقطعت الأسباب وأغلقت الأبواب . وقال الأستاذ الإمام ما معناه : إن العزم على الفعل وإن كان يكون بعد الفكر وإحكام الرأي والمشاورة وأخذ الأهبة ، فذلك كله لا يكفي للنجاح إلا بمعونة الله وتوفيقه ; لأن الموانع الخارجية له والعوائق دونه لا يحيط بها إلا الله - تعالى - ، فلا بد للمؤمن من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته .
إن الله يحب المتوكلين على حوله وقوته مع العمل في الأسباب بسنته ، أقول: ومن أحبه الله عصمه من الغرور باستعداده ، والركون إلى عدته وعتاده ، والبطر الذي يصرفه عن النظر فيما يعرض له بعد ذلك حتى لا يقدره قدره ولا يحكم فيه أمره ، فبدلا من أن يكون نظره في الأمور بعين العجب والغرور واستماعه لأنبائها بأذن الغفلة والازدراء ومباشرته لها بيد التهاون يلقي السمع وهو شهيد ، وينظر بعين العبرة فبصره حينئذ حديد ، ويبطش بيد الحزم فبطشه قوي شديد ; ذلك بأنه يسمع ويبصر ويعمل للحق لا للباطل الذي يزينه الهوى ويدلي به الغرور ، فيكون مصداقا للحديث القدسي : " " . فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها
الآية صريحة في وجوب إمضاء العزيمة المستكملة لشروطها - وأهمها في الأمور العامة حربية كانت أو سياسية أو إدارية المشاورة - وذلك أن نقض العزيمة ضعف في النفس [ ص: 169 ] وزلزال في الأخلاق لا يوثق بمن اعتاده في قول ولا عمل ، فإذا كان ناقض العزيمة رئيس حكومة أو قائد جيش كان ظهور نقض العزيمة منه ناقضا للثقة بحكومته وبجيشه ، ولا سيما إذا كان بعد الشروع في العمل ; ولذلك لم يصغ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قول الذين أشاروا عليه بالخروج إلى أحد حين أرادوا الرجوع عن رأيهم خشية أن يكونوا قد استكرهوه على الخروج - وكان قد لبس لأمته وخرج - وذلك شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها - كما تقدم تفصيله - فعلمهم بذلك أن لكل عمل وقتا وأن وقت المشاورة متى انتهى جاء دور العمل ، وأن ، وإن كان يرى أن أهل الشورى أخطئوا الرأي - كما كان يرى - صلى الله عليه وسلم - في مسألة الخروج إلى الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز له أن ينقض عزيمته ويبطل عمله أحد كما تقدم - ويمكن إرجاع ذلك إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين ، وأي ضرر أشد من فسخ العزيمة وما فيه من الضعف والفشل وإبطال الثقة ؟
وإننا نرى أهل السياسة والحرب يجرون على هذه القاعدة في هذا العصر ، ومن الوقائع التي توجب العبرة في ذلك أن الأستاذ الإمام لما كان في لندرة عاصمة انكلترا سنة 1301هـ .
ذاكره وزراء الإنكليز في أمور مصر والسودان التماس خدمته لبلاده وقد سأله يومئذ رئيس الوزراء أو غيره منهم ( الشك مني ) عن رأيه في حملة هكس باشا التي أرسلوها لمحاربة مهدي السودان الذي ظهر في ذلك الوقت فبين له بعد مراجعة طويلة أن هذه الحملة لا تنجح بل يقضي عليها السودانيون . ثم عاد الأستاذ من أوربا إلى بيروت ، وبعد عودته جاءت الأخبار بقتل هكس باشا وتنكيل السودانيين بحملته ، فبعث الأستاذ الإمام برسالة " برقية " إلى الوزير الإنكليزي يذكره فيها برأيه وكيف صدق . فجاءه الجواب في ذلك اليوم من الوزير ومعناه : قد علمنا أن ما قلته لنا معقول وجيه ولكن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ .