ولو أني حبيت الخلد وحدي لما أحببت بالخلد انفرادا
وأما من قذفه عصيانه لله ولرسوله في النار فإن له من العذاب ما يمنعه عن الأنس بغيره ، فهو وحيد لا يجد لذة في الاجتماع بغيره ولا أنسا ، فلما كان لا يتمتع بمنفعة من منافع الاجتماع كان كأنه وحيد ، والتعبير بلفظ خالدا يشير إلى ذلك ، ويؤيد هذا المعنى الذي اختاره شيخنا قوله - تعالى - : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 43 : 39 ] .
[ ص: 354 ] وظاهر الآية أن العاصي المتعدي للحدود يكون خالدا في النار ، وفي المسألة الخلاف المشهور بين الأشعرية ، وغيرهم من أهل السنة ، وبين المعتزلة ، ومن على رأيهم ، فهؤلاء يقولون : إن ، وأولئك يقولون : إنه لا يخلد في النار إلا من مات كافرا ، وأما من مات عاصيا فأمره إلى الله ، وهو بين أمرين ، إما أن يعفو الله عنه ويغفر له ، وإما أن يعذبه على قدر ذنبه ، ثم يدخله الجنة لقوله - تعالى - : مرتكب المعصية القطعية الكبيرة يخلد في النار إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 : 116 ] وستأتي الآية في تفسير هذه السورة . وكل فريق من المختلفين يجعل الآية التي تدل على مذهبه أصلا يرجع إليه سائر الآيات ولو بإخراجها عن ظاهرها الذي يعبرون عنه بالتأويل .
قال الأستاذ الإمام : ذهب بعض المختلفين إلى أن تعدي حدود الله - تعالى - هنا يراد به جميع الحدود لا جنسها ، ومن تعدى حدود الله كلها ولم يقف عند شيء منها فهو كافر خالد في النار . وقال بعضهم : إن التعدي يصدق بالبعض وهو يكون من الكفر وجحود الحكم بعدم الإذعان له ، والجحود : إما صريح ، وإما غير صريح ، ولكنه حقيقي ، وإن لم يصرح به صاحبه ، فإن أخذ شيء من حق إنسان ، وإعطاءه لآخر لا يكون إلا من إنكار حكم الله في تحريم ذلك ، أو الشك فيه ، وإن الحاكم إذا ثبتت عنده السرقة فحبس السارق ولم يقطع يده كان منكرا للحد الذي أوجب الله معاقبة السارق به ، أو مستقبحا له ، وكلاهما من الكفر ، وإن لم يصرح به صاحبه .
ثم قال ما مثاله : وإذا تأملتم في هذا الخلاف بين أهل السنة ، والمعتزلة تجدونه لفظيا ، فإن الكلام في مع العلم بأنه ذنب ; لأنه - تعالى - قال في الناجين المسارعين إلى الجنة : المصر على الذنب ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [ 3 : 135 ] - [ راجع ص112 وما بعدها ج 4 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب من التفسير ] - فإن من يعمل الذنب ، ولا يخطر في باله عند ارتكابه أنه منهي عنه لا يعد مصرا عالما ، وقد بينا من قبل أن للمذنب حالتين ، وإننا نعيد ذلك ولا نزال نلح في تقريره إلى أن نموت .
الحالة الأولى : غلبة الباعث النفسي من الشهوة ، أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهي فيقع في الذنب ، وقلبه غائب عن الوعيد غير متذكر للنهي ، وإذا تذكره يكون ضعيفا كنور ضئيل يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب ، ثم لا يلبث أن يزول أو يختفي ، فإذا سكنت شهوته أو سكت عنه غضبه وتذكر النهي والوعيد ندم وتاب ، ووقع من نفسه في أشد اللوم والعتاب ، وذلك ضرب من ضروب العقاب ، وصاحبه جدير بالنجاة في يوم المآب .
الحالة الثانية : أن يقدم المرء على الذنب جريئا عليه متعمدا ارتكابه عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة بتركه لا يصرفه عنه تذكر النهي والوعيد عليه ، فهذا هو الذي قد أحاطت [ ص: 355 ] به خطيئته حتى آثر طاعة شهوته على طاعة الله ورسوله ، فصدق عليه قوله - تعالى - : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 : 81 ] فراجع تفسير هذه الآية في الجزء الأول من التفسير .
ربما يقول قائل : إننا نرى كثيرا من أفراد هذا الصنف مع تلبسهم بهذه الحالة يطمعون في عفو الله ومغفرته ، وذلك دليل الإيمان المنجي . والجواب عن هذا : أن من يصر على معصيته - تعالى - عامدا عالما بنهيه ، ووعيده لا يكون مؤمنا بصدق خبره ، ولا مذعنا لشرعه الذي تنال رحمته ورضاه بالتزامه ، وعذابه وبأسه باعتداء حدوده ، فيكون إذا مستهزئا به ، مع عدم استشعار الخوف ، والندم لا يجتمع مع الإيمان الصحيح بعظمة الله وصدقه في وعده ووعيده . وبهذا الذي قررته يكون الخلاف لفظيا لا حقيقيا . فالإصرار على العصيان
أقول : هذا بسط ما قرره في تفسير هذه الآية على الطريقة المشهورة ، وإذا تذكر القارئ طريقتنا في مثل هذه المسألة التي أجازها الأستاذ الإمام - إذ بسطناها في التفسير وفي باب الفتاوى من المنار - فإنه يزداد علما وبينة في هذا المقام . وأعني بهذه الطريقة تأثير الذنوب والخطايا في النفس إلى ألا يبقى للإيمان سلطان عليها ، وسنعيد القول فيه قريبا في تفسير : إنما التوبة على الله إلخ .
وله عذاب مهين قال الأستاذ الإمام : أراد الله - تعالى - بالعذاب المهين عذاب الروح بالإهانة ، يعني رحمه الله أن بدن هذا العاصي يعذب في النار من حيث هو حيوان يتألم ، وروحه تتألم بالإهانة من حيث هو إنسان يشعر بمعنى الكرامة والشرف ، فنسأل الله - تعالى - النجاة من العذاب المهين ، والفوز بالنعيم المقيم .