ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ; أي بسبب ميثاقهم ; ليأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ، ويعملوا به مخلصين ، وقد تقدم هذا أيضا في الجزء الأول في تفسير قوله تعالى : [ ص: 13 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ( 2 : 63 ) ومنه أن الظاهر أن هذا كان آية ، من الآيات الكونية ، ولكنه ليس نصا قاطعا فيه ; بدليل آية الأعراف ، فراجعه .
وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ; أي ادخلوا باب القرية أي : المدينة خاضعين لله ، أو مطامني الرءوس ، مائلي الأعناق ; ذلة وانكسارا لعظمة الله ، كما يقال سجد البعير : إذا طامن رأسه لراكبه ، وتقول العرب : شجرة ساجدة للرياح : إذا كانت مائلة ، والسفينة تسجد للرياح ; أي تطيعها ، ذكر ذلك كله في الأساس . قيل : تلك القرية بيت المقدس ، وقيل : أريحا ، وقيل غير ذلك ، وتقدم في الجزء الأول : أن المختار السكوت عن تعيينها ، كما سكت الكتاب العزيز .
وقلنا لهم لا تعدوا في السبت أي : لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي ، وقد بين لنا - تعالى - في سورة البقرة : أن بعضهم اعتدى في السبت ، وجاء في سورة الأعراف بيان اعتدائهم في السبت بصيد السمك ، وأن بعضهم أنكروا على المعتدين ، وبعضهم سكتوا ، فهم قد خالفوا في السبت ، وخالفوا في دخول الباب سجدا فلا تستغرب بعد هذا مشاغبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاندتهم له .
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ; أي عهدا مؤكدا ; ليأخذن التوراة بقوة وجد ، وليعملن بها ، وليقيمن حدود الله فيها ، ولا يعتدونها ، وقد أخذ الله على بني إسرائيل عدة مواثيق ، والظاهر أن المراد بهذا الميثاق الغليظ ما ذكرناه من العمل بالتوراة كلها بقوة واجتهاد ، وما يتبع ذلك ; من البشارة بعيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام ، وهو ما تراه ، أو نرى بقاياه إلى الآن ، في الفصل التاسع والعشرين إلى الفصل الثالث والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ، وهو آخر التوراة التي بأيديهم ، وأما الفصل الأخير ، وهو الرابع والثلاثون ، فهو في ذكر موت موسى ، صلى الله عليه وسلم .
افتتح الفصل التاسع والعشرين بهذه الجملة : " 1 - هذا كلام العهد الذي أمر الرب موسى بأن يقطعه مع بني إسرائيل ، في أرض موآب ، سوى العهد الذي قطعه معهم في حوريب ، وسماه فيه عهدا وقسما ، وتوعد على نقضه فيه بأشد الوعيد والغضب ، وجميع اللعنات والعقوبات ; ومنها الاستئصال من أرضهم ، كما وعد على حفظه بأعظم البركات والخيرات .
وكذلك عظم أمره في الفصل الثلاثين ، والحادي والثلاثين ، ومما جاء في آخره ، ونعتمد بنصه ترجمة اليسوعيين - لأنها أفصح - قوله :
" 24 ولما فرغ موسى من رقم كلام هذه التوراة في سفر بتمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب ، وقال لهم : 26 خذوا سفر هذه التوراة ، واجعلوها إلى جانب تابوت عهد الرب إلهكم فيكون ثم عليكم شاهدا 27 لأني أعلم تمردكم ، وقساوة رقابكم ; فإنكم وأنا في [ ص: 14 ] الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الرب فكيف بعد موتي 28 اجمعوا إلي شيوخ أسباطكم وعرفاءكم حتى أتلو على مسامعكم هذا الكلام وأشهد عليهم السماء والأرض 29 فإني أعلم أنكم بعد موتي ستفسدون وتعدلون عن الطريق التي سننتها لكم فيصيبكم الشر في آخر الأيام إذا صنعتم الشر في عيني الرب حيث تسخطونه بأعمال أيديكم 30 وتلا موسى على مسامع كل جماعة إسرائيل كلام هذا النشيد إلى آخره .
أما النشيد الذي وثق به العهد عليهم فهو من أول الفصل الثلاثين إلى الجملة ( 43 ) منه وأوله : " أنصتي أيتها السماوات فأتكلم وتستمع الأرض لأقوال في " وبعدها أمره الله بأن يموت وباركه قبل موته بهذه الكلمة وهي آخر وحيه إليه فقال : " 33 :2 أقبل الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتجلى من جبل فاران ( وترجمة البرونستان ، وتلألأ من جبل فاران ) وأتى من ربوات القدس وعن يمينه قبس نار شريعة لهم ، وفاران هي مكة كما ذكر في معجم البلدان ، وفي الفصل ( 21 ) من سفر التكوين أن الله أوحى إلى هاجر بأنه سيجعل ولدها إسماعيل ( أمة عظيمة ) وأنه " 21 سكن في برية فاران " ومن المعلوم بالتواتر أنه سكن في البرية التي بنى بها هو ووالده إبراهيم الخليل - عليهما الصلاة والسلام - بيت الله الحرام ، وبه تكونت مكة ، وجبل فاران هو أبو قبيس الذي نزل فيه الوحي على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو في غار حراء . فإذا كان اليهود قد نقضوا عهد الله وميثاقه الغليظ عليهم بحفظ التوراة كما تنبأ عنهم نبيهم عند أخذ الميثاق عليهم فهل يستغرب منهم تحريف بشارته هؤلاء بعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ومشاقتهما ؟ قال ، تعالى :