ثم قال في ( المسألة الثانية ) من مسائل الدليل الثاني ( السنة ) ما نصه ، وفيه بيان ما وعد به :
"
nindex.php?page=treesubj&link=27862رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار ، والدليل على ذلك أمور ( أحدها ) : أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة ، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل ، بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدم على المظنون ; فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة .
( والثاني ) : أن السنة إما بيان للكتاب ، أو زيادة على ذلك ، فإن كان بيانا كان ثانيا على المبين في الاعتبار ، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين ، وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم ، وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد ألا يوجد في الكتاب ، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب .
( والثالث ) : ما دل على ذلك من الأخبار والآثار ; كحديث
معاذ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919292بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي " الحديث ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ، أنه كتب إلى
شريح : إذا أتاك أمر فاقض
[ ص: 133 ] بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ . وفي رواية : إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض فيه ، ولا تلتفت إلى غيره . بين معنى هذا في رواية أخرى ، أنه قال له : انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومثل هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - الحديث .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أنه كان إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله ، وكان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال به . وهو كثير في كلام السلف والعلماء ، وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة ، فإن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة ، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة " والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار " .
فإن قيل : هذا مخالف لما عليه المحققون ، أما أولا : فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة ; لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر ، فتأتي السنة بتعيين أحدهما ، فيرجع إلى السنة ، ويترك مقتضى الكتاب ، وأيضا فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا ، فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره ، وهذا دليل على تقديم السنة ، وحسبك أنها تقيد مطلقه ، وتخص عمومه ، وتحمله على غير ظاهره ، حسبما هو مذكور في الأصول ; فالقرآن آت بقطع يد كل سارق فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز ، وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرا ; فخصته السنة بأموال مخصوصة ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وأحل لكم ما وراء ذلكم ( 4 : 24 ) فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها . فكل هذا ترك لظواهر الكتاب ، وتقديم للسنة عليه ، ومثل ذلك لا يحصى كثرة .
ثُمَّ قَالَ فِي ( الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ) مِنْ مَسَائِلِ الدَّلِيلِ الثَّانِي ( السُّنَّةُ ) مَا نَصُّهُ ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا وَعَدَ بِهِ :
"
nindex.php?page=treesubj&link=27862رُتْبَةُ السُّنَّةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الْكِتَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالسُّنَّةَ مَظْنُونَةٌ ، وَالْقَطْعُ فِيهَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَظْنُونِ ; فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ السُّنَّةَ إِمَّا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ ، أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ بَيَانًا كَانَ ثَانِيًا عَلَى الْمُبِينِ فِي الِاعْتِبَارِ ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمُبِينِ سُقُوطُ الْبَيَانِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْبَيَانِ سُقُوطُ الْمُبِينِ ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا فَهُوَ أَوْلَى فِي التَّقَدُّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بَعْدَ أَلَّا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ .
( وَالثَّالِثُ ) : مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ ; كَحَدِيثِ
مُعَاذٍ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919292بِمَ تَحْكُمُ ؟ " قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي " الْحَدِيثَ ، وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى
شُرَيْحٍ : إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ فَاقْضِ
[ ص: 133 ] بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَخْ . وَفِي رِوَايَةٍ : إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ فِيهِ ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ . بَيَّنَ مَعْنَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ : انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا ، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلُ هَذَا عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ : مَنْ عُرِضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بِهِ . وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ ، وَمَا فَرَّقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ رَاجِعٌ إِلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ عَلَى اعْتِبَارِ السُّنَّةِ ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِ السُّنَّةِ ، وَقَدْ لَا يُخَالِفُ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ " وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ كَالْكِتَابِ فِي مَرَاتِبِ الِاعْتِبَارِ " .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ ، أَمَّا أَوَّلًا : فَإِنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ ، فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا ، فَيُرْجَعُ إِلَى السُّنَّةِ ، وَيُتْرَكُ مُقْتَضَى الْكِتَابِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَمْرًا ، فَتَأْتِي السُّنَّةُ فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السُّنَّةِ ، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ ، وَتَخُصُّ عُمُومَهُ ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ ; فَالْقُرْآنُ آتٍ بِقَطْعِ يَدِ كُلِّ سَارِقٍ فَخَصَّتِ السُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَارِقَ النِّصَابِ الْمُحَرَّزِ ، وَأَتَى بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ظَاهِرًا ; فَخَصَّتْهُ السُّنَّةُ بِأَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ( 4 : 24 ) فَأَخْرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا . فَكُلُّ هَذَا تَرْكٌ لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ ، وَتَقْدِيمٌ لِلسُّنَّةِ عَلَيْهِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً .