وقد استدل بعضهم بقوله تعالى : إذا آتيتموهن أجورهن على أن المراد بالمحصنات الحرائر ; لأن معناه إذا أعطيتموهن مهورهن ، والأمة لا تأخذ مهرها ، وإنما يأخذه المالك ، ويرده قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله : وآتوهن أجورهن ( 4 : 25 ) فهو عين ما هنا ، وقد رجحنا في تفسير تلك الآية القول بأن ، لا لمولاها ، وهو مذهب مهر الأمة حق لها على الزوج مالك ، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول : إن الإماء لا يعطين مهورهن ، والله - عز وجل - يقول إذا آتيتموهن أجورهن ولا خلاف في أن الأجور هي المهور ؟ غاية ما يقوله الذين يقولون إن الأمة لا تملك شيئا ، ولا يستثنون المهر من قاعدتهم بدليل الآية : أن للسيد أن يبقي لها المهر الذي تأخذه من زوجها ، وأن يأخذه بحق الملك .
ولك أن تقول : إن دلالة قوله تعالى : محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان على ترجيح كون المراد بالمحصنات العفائف أقوى مما ذكر ; إذ يكون الشرط في الرجال عين [ ص: 152 ] الشرط في النساء ، وقوله : محصنين هنا حال ، وهي قيد في عاملها فتفيد الشرطية ; أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا أو فرضا حال كونكم محصنين إلخ . والمراد بالمحصنين هنا الأعفاء عن الزنا فعلا أو قصدا دون الأحرار ; لأنهم الأصل في الخطاب ، ولا نعلم في هذا خلافا ، ويطلق " المحصن " بكسر الصاد بمعنى اسم الفاعل وبمعنى اسم المفعول ، فالزواج يقصد به أن يكون الرجل محصنا ، والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر ، ويجعله في حصن يمنعه من الفاحشة جهرا أو على الشيوع ، وهو المراد بالمسافحة ، أو سرا ، أو اختصاصا باتخاذ خدن من الأخدان وهو يطلق على الصاحب والصاحبة بألا يكون للمرأة صاحب أو خليل يزني بها سرا ، ولا يكون للرجل امرأة كذلك ، وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة النساء .
روى عن ابن جرير قتادة أنه قال : " ذكر لنا أن أناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم - يعني نساء أهل الكتاب - وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عز ذكره : وهو في الآخرة من الخاسرين ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله فأحل الله تزويجهن على علم . اهـ . والذي أراه أن هذه الجملة نزلت مع الآية لا متأخرة عنها ، وأن ما قاله قتادة عن الصحابة رضي الله عنهم معناه أنه لما استغرب بعضهم نكاح نساء أهل الكتاب واستنكروه ، وكأنهم كانوا قريبي عهد بالإسلام ، أنكر عليهم ذلك أهل العلم ووعظوهم بهذه الجملة التي ختمت بها الآية ، ومعناها أن الإيمان لا يكون إلا بالإذعان لما أحله الله وحرمه ، ومن لم يذعن كان كافرا ، ومن كفر بما يجب عليه الإيمان به من كتاب الله حبط عمله أي بطل ثوابه ، وخسر في الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح ، وهو إيمان الإذعان والعمل .
روى عن ابن جرير مجاهد وعطاء تفسير ( يكفر بالإيمان ) بالكفر بالله عز وجل ، وعن أنه قال في الآية : " أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى ، وأنه لا يقبل عملا إلا به ، ولا يحرم الجنة إلا على من تركه " ووجه ابن عباس قول ابن جرير مجاهد ، بأنه تفسير بالمراد لا بظاهر اللفظ ، وذلك أن الإيمان هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه ، والكفر جحود ذلك ، وفسرها هو على الوجه الذي يعطيه ظاهر اللفظ بقوله : ومن يأب الإيمان بالله ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه - فقد حبط عمله ، وذلك الكفر هو الجحود في كلام العرب ، والإيمان التصديق والإقرار ، ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به فهو من الكافرين . اهـ . ووجه الرازي قول مجاهد وعزاه إلى أيضا بأنه مجاز حسنه أن الله - تعالى - رب الإيمان ورب كل شيء ، وجعل الإيمان بمعنى القرآن في قول ابن عباس قتادة أنها نزلت في من استنكروا ، أي من حيث اشتماله على ما ذكر [ ص: 153 ] من الأحكام ، وفسره نكاح الكتابيات بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم ، أي كما ذكر في الآية ، وتبعه على ذلك الزمخشري البيضاوي وغيره .
ومجمل معنى الآية : اليوم أحل لكم الطيبات من الطعام ، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم بمقتضى الأصل لم يحرمه الله عليكم قط ، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا ، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها ، أو صادوها كيفما كانت تذكيته وصيده عندهم ، وأن تطعموهم مما تذكون وتصطادون ، ويدخل في ذلك لحم الأضحية خلافا لمن منعه ، ولا يخرج منه إلا ما كان خاصا بقوم لا يشملهم وصفهم ; كالمنذور على أناس معينين بالذوات أو بالوصف . والمحصنات من المؤمنات ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، حل لكم كذلك بمقتضى الأصل ، وما قرره في آية النساء وأحل لكم ما وراء ذلكم ( 4 : 24 ) لم يحرمهن الله عليكم إذا أعطيتموهن مهورهن التي تفرضونها لهن عند العقد ، وإلا وجب لهن مهر المثل ، بشرط أن تكونوا قاصدين بالزواج إحصان أنفسكم وأنفسهن ، لا الفجور المراد به سفح الماء جهرا ولا سرا ، وسيأتي بيان ما هو الاحتياط وبحث اختلاف الزمان في المسألة . والتعبير بقوله اليوم أحل لكم الطيبات إنشاء لحلها العام الدائم كما تقدم ، ولكنه لم يقل مثل ذلك فيما بعده بل قال : حل لكم وهو خبر مقرر للأصل في المسألتين : مسألة مؤاكلة أهل الكتاب ، ومسألة نكاح نسائهم ، فلم يكن شيء منهما محرما من قبل وأحل في ذلك اليوم ، لا بتحريم من الله ولا بتحريم الناس على أنفسهم ; كما حرموا بعض الطيبات . فهذا ما ظهر لنا من نكتة اختلاف التعبير ، وسكت عنه الباحثون في نكت البلاغة الذين اطلعنا على كلامهم ، وحكمة النص على هذا الحل قطع الطريق على الغلاة أن يحرموه باجتهادهم وأهوائهم ، على أن منهم من حرمه مع النص الصريح ، ونص على أن طعامنا حل لهم دون نسائنا ، فليس لنا أن نزوجهم منا ; لأن كمال الإسلام وسماحته لا يظهران من المرأة ؛ لسلطان الرجل عليها ، هذا هو المتبادر لمن يفهم العبارة مجردا من تقاليد المذاهب ، فمن فهم مثل فهمنا ، ففهمه حاكم عليه ، ولا نجيز لأحد أن يقلدنا فيه تقليدا .