[ ص: 307 ] ( فصل في
nindex.php?page=treesubj&link=28700التوسل والوسيلة عند عامة المتأخرين ) بينا معنى الوسيلة في الآية ، وما قاله رواة التفسير المأثور عن السلف فيها ، ولم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أو عامتهم أن الوسيلة إلى الله تعالى تبتغى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل ، ومنه الدعاء ، إلا كلمة رويت عن الإمام
مالك ، لم تصح عنه ، بل صح عنه ما ينافيها ، وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين المتقين ; أي تسميتهم وسائل إلى الله تعالى ، والإقسام على الله بهم ، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو في حال البعد عنها ، وشاع هذا وكثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم إلى الله تعالى أو يدعونهم من دون الله تعالى ، و "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918692الدعاء هو العبادة " - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - رواه
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن
nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير ، والله تعالى يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=18فلا تدعوا مع الله أحدا ) ( 72 : 18 ) ويقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=194إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) ( 7 : 194 ) ويقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=13والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=14إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) ( 35 : 13 ، 14 ) لكن بعض المصنفين زعم أنهم يسمعون ويستجيبون للداعي ، والعوام يأخذون بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى ؛ لعموم الجهل . ومن المشتغلين بالعلم من يتأول لهم بأن هذا من التوسل بهم ، وقد حقق شيخ الإسلام
أحمد بن تيمية الموضوع بجميع فروعه ، فكان ما كتبه في ذلك مصنفا حافلا أطلق عليه اسم ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) وقد طبعناه مرتين ، ومما جاء فيه قوله بعد بيان معنى الوسيلة في القرآن والحديث بنحو ما تقدم :
" وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28703التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة ، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته ، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين ، يراد به الإقسام به والسؤال به ، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح .
" وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة ، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته ، والثاني دعاؤه وشفاعته ، كما تقدم ، فهذان جائزان بإجماع المسلمين ، ومن هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " ؛ أي بدعائه وشفاعته ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=35وابتغوا إليه الوسيلة ) أي القربة إليه بطاعته ، وطاعة رسوله طاعته ، قال تعالى :
[ ص: 308 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=80من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ( 4 : 80 ) . فهذا التوسل الأول هو أصل الدين ، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين ، وأما التوسل بدعائه وشفاعته ، كما قال
عمر ، فإنه توسل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه
العباس ، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل
بالعباس ، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل
بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته ، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له ; فإنه مشروع دائما .
" فلفظ
nindex.php?page=treesubj&link=28701التوسل يراد به ثلاثة معان ( أحدها ) : التوسل بطاعته ، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به ( والثاني ) : التوسل بدعائه وشفاعته ، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة ، يتوسلون بشفاعته ( والثالث ) : التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته . فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ، ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة ; مرفوعة وموقوفة ، أو عمن ليس قوله حجة ، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى .
" وهذا هو الذي قال
أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز ، ونهوا عنه ; حيث قالوا : لا يسأل بمخلوق ، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14972أبو الحسن القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح
الكرخي في باب الكراهة : وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب
أبي حنيفة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15536بشر بن الوليد : حدثنا
أبو يوسف قال : قال
أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك . وهو قول
أبي يوسف ، قال
أبو يوسف : بمعقد العز من عرشه ، هو الله ، فلا أكره هذا ، وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، قال
القدوري : المسألة بحقه لا تجوز ; لأنه لا حق للخلق على الخالق ; فلا تجوز وفاقا .
" وهذا الذي قاله
أبو حنيفة وأصحابه من أن
nindex.php?page=treesubj&link=28705الله لا يسأل بمخلوق ، له معنيان ( أحدهما ) : هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق ، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق ، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى ، وهذا بخلاف إقسامه ، سبحانه ، بمخلوقاته ; كالليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والشمس وضحاها ، والنازعات غرقا ، والصافات صفا ، فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه ، بخلاف المخلوق فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها ، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919418من حلف بغير الله فقد أشرك " . وقد
[ ص: 309 ] صححه
الترمذي وغيره ، وفي لفظ " فقد كفر " ، وقد صححه
الحاكم ، وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919419من كان حالفا فليحلف بالله " ، وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919420لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " ، وفي الصحيحين عنه أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919421من حلف باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله " . وقد اتفق المسلمون على أنه
nindex.php?page=treesubj&link=16379_16378من حلف بالمخلوقات المحترمة ، أو بما يعتقد هو حرمته ; كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، والملائكة والصالحين ، والملوك وسيوف المجاهدين ، وقرب الأنبياء والصالحين ، وإيمان السدق وسراويل الفتوة ، وغير ذلك - لا ينعقد يمينه ، ولا كفارة في الحلف بذلك .
" والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور ، وهو مذهب
أبي حنيفة ، وأحد القولين في مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد ، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك ، وقيل : هي مكروهة كراهة تنزيه ، والأول أصح ، حتى قال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وعبد الله بن عباس ،
وعبد الله بن عمرو : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا ، وذلك لأن الحلف بغير الله شرك ، والشرك أعظم من الكذب ، وإنما نعرف النزاع في الحلف بالأنبياء ، فعن
أحمد في
nindex.php?page=treesubj&link=16378الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان : ( إحداهما ) لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور :
مالك وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي .
( والثانية ) ينعقد اليمين به ، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه ،
وابن المنذر وافق هؤلاء ، وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ،
وعدى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء . وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيا قول ضعيف في الغاية ، مخالف للأصول والنصوص ، فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام ، هو من هذا الجنس .
" والذي قاله
أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق ، لا بحق الأنبياء ، ولا غير ذلك ، يتضمن شيئين كما تقدم .
( أحدهما ) : الإقسام على الله سبحانه وتعالى به ، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما تقدم ، كما ينهى أن يقسم على الله
بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء .
( والثاني ) السؤال به ، فهذا يجوزه طائفة من الناس ، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف ، وهو موجود في دعاء كثير من الناس ، لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، كله ضعيف ، بل موضوع ، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول : " أسألك وأتوجه إليك بنبيك
محمد نبي الرحمة " .
" وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه ; فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 310 ] وشفاعته ، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919422اللهم شفعه في " ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم . ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم يكن حالهم كحاله .
" ودعاء أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب في الاستسقاء ، المشهور بين
المهاجرين والأنصار ، وقوله : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28702_28703التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته ، لا السؤال بذاته ; إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل
عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال
بالعباس ، وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم ; لأن بين السؤال والإقسام فرقا ; فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة ، والمقسم أعلى من هذا ، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم ، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه ، فإبرار القسم خاص ببعض العباد ، وأما إجابة السائلين فعام ، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم ، وإن كان كافرا ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919423ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث ; إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له من الخير مثلها ، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها ، قالوا : يا رسول الله ، إذن نكثر ، قال : الله أكثر " ( ثم قال في موضع آخر ) .
" وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم ، وهو الذي قال
أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز . ليس في المعروف من مذهب
مالك ما يناقض ذلك ، فضلا عن أن يجعل هذا من مسائل السب ، فمن نقل عن مذهب
مالك أنه جوز التوسل به ، بمعنى الإقسام به أو السؤال به ، فليس معه في ذلك نقل عن
مالك وأصحابه ، فضلا عن أن يقول
مالك إن هذا سب للرسول أو تنقص به ، بل المعروف عن
مالك أنه كره للداعي أن يقول : يا سيدي سيدي ! وقال : قل كما قالت الأنبياء : " يا رب ، يا رب ، يا كريم " ، وكره أيضا أن يقول : يا حنان ، يا منان ! فإنه ليس بمأثور عنه . فإذا كان
مالك يكره مثل هذا الدعاء ; إذ لم يكن مشروعا عنده أن يسأل الله بمخلوق ، نبيا كان أو غيره ، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق ، لا نبي ولا غيره ، بل قال
عمر : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " ، وكذلك ثبت في الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
وأنس وغيرهما أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستسقائه ،
[ ص: 311 ] لم ينقل عن أحد منهم أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى بمخلوق ، لا به ولا بغيره ، لا في الاستسقاء ، ولا غيره . وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى ، فلو كان السؤال به معروفا عند الصحابة لقالوا
لعمر : إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل
بالعباس ، فلم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته ، وهو التوسل بأفضل الخلق ، إلى أن نتوسل ببعض أقاربه ؟ وفي ذلك ترك السنة المشروعة ، وعدول عن الأفضل ، وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما ، ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يضرب به المثل في الجدب ، والذي فعله
عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين ، فتوسلوا
nindex.php?page=showalam&ids=13994بيزيد بن الأسود الجرشي ، كما توسل
عمر بالعباس .
" وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد ، وغيرهم أنه يتوسل في
nindex.php?page=treesubj&link=28700_32853الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح ، قالوا : وإن كان من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل ، اقتداء
بعمر ، ولم يقل أحد من أهل العلم أنه يسأل الله تعالى في ذلك بمخلوق ; لا بنبي ولا بغير نبي .
" وكذلك من نقل عن
مالك أنه جوز
nindex.php?page=treesubj&link=28705سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم ، أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك ;
nindex.php?page=showalam&ids=13790كالشافعي وأحمد وغيرهما - فقد كذب عليهم ، ولكن بعض الجهال ينقل هذا ، ويستند إلى حكاية مكذوبة عن
مالك ، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا ، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ، ولكن من الناس من يحرف نقلها ، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى " انتهى المراد منه . ومن أراد أن يحيط بهذه المسألة علما تفصيليا فليقرأ كتاب ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) كله .
وأما القول الجملي الجامع فهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=28700الوسيلة ما تتقرب به إلى الله تعالى وترجو أن تصل به إلى مرضاته ، وهو ما شرعه لك لتزكية نفسك ؛ إذ جعل مدار الفلاح على تزكيتها . والتوسل هو ابتغاء الوسيلة ، المأمور به هنا ; أي العمل بالمشروع لتزكية النفس ، وقد دل كتاب الله في جملته وتفصيله على أن مدار النجاة والفلاح على الإيمان والعمل الصالح (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وأن ليس للإنسان إلا ما سعى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=40وأن سعيه سوف يرى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=41ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) ( 53 : 39 - 41 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=15لتجزى كل نفس بما تسعى ) ( 20 : 15 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=90هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) ( 27 : 90 ) . نعم ، دلت السنة على أن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه ، لكن ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله وسأله ألا يجعل بأس أمته بينها فلم يعطه ذلك ، وثبت أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمان عمه
أبي طالب ، وأن الله أنزل عليه في ذلك
[ ص: 312 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=56إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) ( 28 : 56 ) وثبت أيضا أن لكل نبي مرسل دعوة واحدة مستجابة قطعا ، فما عداها بين الرجاء والخوف ; ولذلك خبأ صلى الله عليه وسلم دعوته ليشفع بها يوم القيامة ، فتعلم بأمثال هذه الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها ، والآيات التي ذكرنا بعضها ، أن دعاء غيرك لك لا يطرد نفعه مهما كان الداعي صالحا ، فهل يكون شخص غيرك وسيلة وقربة لك إلى الله ، وإن لم يدع لك ؟ هذا شيء لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا عقل إن جاز أن يحكم العقل في قربات الشرع . فالعمدة في تقرب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته وحسن جزائه هو إيمانه وعمله لنفسه ، فإذا أنت لم تعمل لنفسك ما شرعه الله لك وجعله سبب فلاحك ، ولم يدع لك غيرك بذلك ؛ فكيف تكون قد ابتغيت إلى الله الوسيلة ؟ وهل تسميتك بعض عباد الله المكرمين وسيلة ؟ أو طلبك منه بعد موته أن يشفع لك - أي يدعو لك - يعد امتثالا منك لأمر الله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=35وابتغوا إليه الوسيلة ) ؟ كلا ! إن
nindex.php?page=treesubj&link=28705الطلب من الميت غير مشروع . وإذا فرض أنه مشروع ومسموع ، فلا يمكن أن يعلم هل كان مقبولا أم غير مقبول ! فإن ذلك من أمر الآخرة الغيبي ، " والأمر يومئذ لله " وحده ، ومنه أمر الشفاعة ، فهي لا تنال بالسؤال هنا ، وإنما تفوض إليه تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قل لله الشفاعة جميعا ) ( 39 : 44 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( 2 : 255 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ( 21 : 28 ) . فسنة الفطرة في الدنيا أن الإنسان لا يشبع إذا أكل عنده والده أو أستاذه أو أحد الصالحين ، ولا يشفى من مرضه إذا ترك الدواء وشربه غيره عنه ، ولا تؤثر في نفسه أو تظهر في أعماله أخلاق غيره ، فإذا كان النبي أو الولي الذي يتكل عليه جوادا سخيا شجاعا أمينا ، لا يبذل هو المال بذلك السخاء ، ولا النفس بتلك الشجاعة ، ولا يؤدي الحقوق إلى أهلها بتلك الأمانة ; لأن أعماله تصدر عن أخلاقه ، لا عن أخلاق الرسول أو الولي الذي يتكل عليه ، فإذا كان من سنة الفطرة في الدنيا ألا تعيش بأخلاق غيرك ، ولا بعلمه وعمله ، وهي دار الكسب والتعاون ، فكيف ينفعك إيمان غيرك وصلاحه (
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=19يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) ( 82 : 19 ) ؟
[ ص: 307 ] ( فَصَلٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28700التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ ) بَيَّنَّا مَعْنَى الْوَسِيلَةِ فِي الْآيَةِ ، وَمَا قَالَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيٍّ وَلَا أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَوْ عَامَّتِهِمْ أَنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تُبْتَغَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ ، إِلَّا كَلِمَةً رُوِيَتْ عَنِ الْإِمَامِ
مَالِكٍ ، لَمْ تَصِحَّ عَنْهُ ، بَلْ صَحَّ عَنْهُ مَا يُنَافِيهَا ، وَقَدْ حَدَثَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى التَّوَسُّلُ بِأَشْخَاصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ ; أَيْ تَسْمِيَتُهُمْ وَسَائِلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِهِمْ ، وَطَلَبُ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ مِنْهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ أَوْ فِي حَالِ الْبُعْدِ عَنْهَا ، وَشَاعَ هَذَا وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسُ يَدْعُونَ أَصْحَابَ الْقُبُورِ فِي حَاجَاتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918692الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ
أَحْمَدُ nindex.php?page=showalam&ids=12070وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=114النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=18فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) ( 72 : 18 ) وَيَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=194إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) ( 7 : 194 ) وَيَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=13وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=14إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ( 35 : 13 ، 14 ) لَكِنَّ بَعْضَ الْمُصَنِّفِينَ زَعَمَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَسْتَجِيبُونَ لِلدَّاعِي ، وَالْعَوَامُّ يَأْخُذُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِعُمُومِ الْجَهْلِ . وَمِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مَنْ يَتَأَوَّلُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنَ التَّوَسُّلِ بِهِمْ ، وَقَدْ حَقَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ الْمَوْضُوعَ بِجَمِيعِ فُرُوعِهِ ، فَكَانَ مَا كَتَبَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا حَافِلًا أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ ( قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ ) وَقَدْ طَبَعْنَاهُ مَرَّتَيْنِ ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْوَسِيلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ :
" وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28703التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ ، فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ ، وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ ، كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ .
" وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ ، فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَأَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ ، وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " ؛ أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=35وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) أَيِ الْقُرْبَةَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ ، قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 308 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=80مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) ( 4 : 80 ) . فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ ، وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ ، كَمَا قَالَ
عُمَرُ ، فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ ، وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ
الْعَبَّاسِ ، وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنَ التَّوَسُّلِ
بِالْعَبَّاسِ ، فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى التَّوَسُّلِ
بِالْعَبَّاسِ عُلِمَ أَنَّ مَا يَفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ ، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ ; فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا .
" فَلَفَظُ
nindex.php?page=treesubj&link=28701التَّوَسُّلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ ( أَحَدُهَا ) : التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ ، فَهَذَا فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ ( وَالثَّانِي ) : التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ ( وَالثَّالِثُ ) : التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ ، لَا عِنْدَ قَبْرِهِ ، وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ; مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ ، أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً ، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
" وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَنَهَوْا عَنْهُ ; حَيْثُ قَالُوا : لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : أَسْأَلُكَ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14972أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ
الْكَرْخِيِّ فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ : وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15536بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ : حَدَّثَنَا
أَبُو يُوسُفَ قَالَ : قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إِلَّا بِهِ ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ ، أَوْ بِحَقِّ خَلْقِكَ . وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي يُوسُفَ ، قَالَ
أَبُو يُوسُفَ : بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ ، هُوَ اللَّهُ ، فَلَا أَكْرَهُ هَذَا ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، قَالَ
الْقُدُورِيُّ : الْمَسْأَلَةُ بِحَقِّهِ لَا تَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ ; فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا .
" وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28705اللَّهَ لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ ، لَهُ مَعْنَيَانِ ( أَحَدُهُمَا ) : هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يُقْسِمَ أَحَدٌ بِالْمَخْلُوقِ ، فَإِنَّهُ إِذَا مُنِعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقٍ ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْخَالِقِ بِمَخْلُوقٍ أَوْلَى وَأَحْرَى ، وَهَذَا بِخِلَافِ إِقْسَامِهِ ، سُبْحَانَهُ ، بِمَخْلُوقَاتِهِ ; كَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ يَتَضَمَّنُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ مَا يَحْسُنُ مَعَهُ إِقْسَامُهُ ، بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ بِخَالِقِهَا ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919418مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ " . وَقَدْ
[ ص: 309 ] صَحَّحَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَفِي لَفْظٍ " فَقَدْ كَفَرَ " ، وَقَدْ صَحَّحَهُ
الْحَاكِمُ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919419مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ " ، وَقَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919420لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919421مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=16379_16378مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُحْتَرَمَةِ ، أَوْ بِمَا يَعْتَقِدُ هُوَ حُرْمَتَهُ ; كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ ، وَالْمُلُوكِ وَسُيُوفِ الْمُجَاهِدِينَ ، وَقُرْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَإِيمَانِ السَّدْقِ وَسَرَاوِيلِ الْفُتُوَّةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ، وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ بِذَلِكَ .
" وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَقَدْ حُكِيَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَقِيلَ : هِيَ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، حَتَّى قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : لَأَنْ أَحَلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ ، وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ النِّزَاعَ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ ، فَعَنْ
أَحْمَدَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=16378الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَتَانِ : ( إِحْدَاهُمَا ) لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ :
مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ .
( وَالثَّانِيَةُ ) يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ ،
وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَافَقَ هَؤُلَاءِ ، وَقَصَرَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ،
وَعَدَّى ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ . وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَايَةِ ، مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ ، فَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ ، هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ .
" وَالَّذِي قَالَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ ، لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ، يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( أَحَدُهُمَا ) : الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ ، كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
( وَالثَّانِي ) السُّؤَالُ بِهِ ، فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ ، كُلُّهُ ضَعِيفٌ ، بَلْ مَوْضُوعٌ ، وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إِلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ : " أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ
مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " .
" وَحَدِيثُ الْأَعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[ ص: 310 ] وَشَفَاعَتِهِ ، وَهُوَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919422اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ " وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَوْ تَوَسَّلَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُمْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّؤَالِ بِهِ لَمْ يَكُنْ حَالُهُمْ كَحَالِهِ .
" وَدُعَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، الْمَشْهُورُ بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَقَوْلُهُ : " اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28702_28703التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ ، لَا السُّؤَالُ بِذَاتِهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَعْدِلْ
عُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَنِ السُّؤَالِ بِالرَّسُولِ إِلَى السُّؤَالِ
بِالْعَبَّاسِ ، وَسَاغَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَالِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ الْإِقْسَامِ بِهِمْ ; لِأَنَّ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْإِقْسَامِ فَرْقًا ; فَإِنَّ السَّائِلَ مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَلُ بِسَبَبٍ يُنَاسِبُ الْإِجَابَةَ ، وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا ، فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ ، وَالْمُقْسِمُ لَا يُقْسِمُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَبِرُّ قَسَمَهُ ، فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ ، وَأَمَّا إِجَابَةُ السَّائِلِينَ فَعَامٌّ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919423مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ ; إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِذَنْ نُكْثِرُ ، قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ " ( ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ) .
" وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِمْ ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ
مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ ، فَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ
مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ ، بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ أَوِ السُّؤَالِ بِهِ ، فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ
مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ
مَالِكٌ إِنَّ هَذَا سَبٌّ لِلرَّسُولِ أَوْ تَنْقُصٌ بِهِ ، بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ : يَا سَيِّدِي سَيِّدِي ! وَقَالَ : قُلْ كَمَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ : " يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، يَا كَرِيمُ " ، وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ : يَا حَنَّانُ ، يَا مَنَّانُ ! فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَأْثُورٍ عَنْهُ . فَإِذَا كَانَ
مَالِكٌ يَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ بِمَخْلُوقٍ ، نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَامَ الرَّمَادَةِ لَمْ يَسْأَلُوا اللَّهَ بِمَخْلُوقٍ ، لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ ، بَلْ قَالَ
عُمَرُ : " اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ ،
وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَجْدَبُوا إِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِسْقَائِهِ ،
[ ص: 311 ] لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ ، لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ ، لَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، وَلَا غَيْرِهِ . وَحَدِيثُ الْأَعْمَى سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ لَقَالُوا
لِعُمَرَ : إِنِ السُّؤَالَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ أَوْلَى مِنَ السُّؤَالِ وَالتَّوَسُّلِ
بِالْعَبَّاسِ ، فَلِمَ نَعْدِلُ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِأَفْضَلِ الْخَلْقِ ، إِلَى أَنْ نَتَوَسَّلَ بِبَعْضِ أَقَارِبِهِ ؟ وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَعُدُولٌ عَنِ الْأَفْضَلِ ، وَسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهُمَا ، وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ غَايَةَ الِاضْطِرَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْجَدْبِ ، وَالَّذِي فَعَلَهُ
عُمَرُ فَعَلَ مِثْلَهُ مُعَاوِيَةُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَتَوَسَّلُوا
nindex.php?page=showalam&ids=13994بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيِّ ، كَمَا تَوَسَّلَ
عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ .
" وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28700_32853الِاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ ، قَالُوا : وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقَارِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ ، اقْتِدَاءً
بِعُمَرَ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُسْأَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِمَخْلُوقٍ ; لَا بِنَبِيٍّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ .
" وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ
nindex.php?page=treesubj&link=28705سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ، أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَالِكٍ ;
nindex.php?page=showalam&ids=13790كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا - فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ يَنْقُلُ هَذَا ، وَيَسْتَنِدُ إِلَى حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ عَنْ
مَالِكٍ ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَكُنِ التَّوَسُّلُ الَّذِي فِيهَا هُوَ هَذَا ، بَلْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ نَقْلَهَا ، وَأَصْلُهَا ضَعِيفٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا فَلْيَقْرَأْ كِتَابَ ( قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ ) كُلَّهُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ الْجَامِعُ فَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28700الْوَسِيلَةَ مَا تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْجُو أَنْ تَصِلَ بِهِ إِلَى مَرْضَاتِهِ ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ لَكَ لِتَزْكِيَةِ نَفْسِكَ ؛ إِذْ جَعَلَ مَدَارَ الْفَلَاحِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا . وَالتَّوَسُّلُ هُوَ ابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ ، الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا ; أَيِ الْعَمَلُ بِالْمَشْرُوعِ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ ، وَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ عَلَى أَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=40وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=41ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ) ( 53 : 39 - 41 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=15لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) ( 20 : 15 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=90هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( 27 : 90 ) . نَعَمْ ، دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ لِغَيْرِهِ قَدْ يَنْفَعُهُ ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا اللَّهَ وَسَأَلَهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهَا فَلَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ ، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ عَمِّهِ
أَبِي طَالِبٍ ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
[ ص: 312 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=56إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ( 28 : 56 ) وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ دَعْوَةً وَاحِدَةً مُسْتَجَابَةً قَطْعًا ، فَمَا عَدَاهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ ; وَلِذَلِكَ خَبَّأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَوْتَهُ لِيَشْفَعَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَتَعْلَمُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا ، وَالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا ، أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِكَ لَكَ لَا يَطَّرِدُ نَفْعُهُ مَهْمَا كَانَ الدَّاعِي صَالِحًا ، فَهَلْ يَكُونُ شَخْصٌ غَيْرُكَ وَسِيلَةً وَقُرْبَةً لَكَ إِلَى اللَّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ لَكَ ؟ هَذَا شَيْءٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا عَقْلٌ إِنْ جَازَ أَنْ يُحَكَّمَ الْعَقْلُ فِي قُرُبَاتِ الشَّرْعِ . فَالْعُمْدَةُ فِي تَقَرُّبِ الْإِنْسَانِ إِلَى اللَّهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ هُوَ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ ، فَإِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ لِنَفْسِكَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَكَ وَجَعَلَهُ سَبَبَ فَلَاحِكَ ، وَلَمْ يَدْعُ لَكَ غَيْرُكَ بِذَلِكَ ؛ فَكَيْفَ تَكُونُ قَدِ ابْتَغَيْتَ إِلَى اللَّهِ الْوَسِيلَةَ ؟ وَهَلْ تَسْمِيَتُكَ بَعْضَ عِبَادِ اللَّهِ الْمُكْرَمِينَ وَسِيلَةٌ ؟ أَوْ طَلَبُكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَكَ - أَيْ يَدْعُو لَكَ - يُعَدُّ امْتِثَالًا مِنْكَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=35وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ؟ كَلَّا ! إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28705الطَّلَبَ مِنَ الْمَيِّتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ . وَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَمَسْمُوعٌ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ هَلْ كَانَ مَقْبُولًا أَمْ غَيْرَ مَقْبُولٍ ! فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ الْغَيْبِيِّ ، " وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ " وَحْدَهُ ، وَمِنْهُ أَمْرُ الشَّفَاعَةِ ، فَهِيَ لَا تُنَالُ بِالسُّؤَالِ هُنَا ، وَإِنَّمَا تُفَوَّضُ إِلَيْهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) ( 39 : 44 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) ( 2 : 255 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) ( 21 : 28 ) . فَسُنَّةُ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْبَعُ إِذَا أَكَلَ عِنْدَهُ وَالِدُهُ أَوْ أُسْتَاذُهُ أَوْ أَحَدُ الصَّالِحِينَ ، وَلَا يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ إِذَا تَرَكَ الدَّوَاءَ وَشَرِبَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ تَظْهَرُ فِي أَعْمَالِهِ أَخْلَاقُ غَيْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ أَوِ الْوَلِيُّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ جَوَادًا سَخِيًّا شُجَاعًا أَمِينًا ، لَا يَبْذُلُ هُوَ الْمَالَ بِذَلِكَ السَّخَاءِ ، وَلَا النَّفْسَ بِتِلْكَ الشَّجَاعَةِ ، وَلَا يُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا بِتِلْكَ الْأَمَانَةِ ; لِأَنَّ أَعْمَالَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَخْلَاقِهِ ، لَا عَنْ أَخْلَاقِ الرَّسُولِ أَوِ الْوَلِيِّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا أَلَّا تَعِيشَ بِأَخْلَاقِ غَيْرِكَ ، وَلَا بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ ، وَهِيَ دَارُ الْكَسْبِ وَالتَّعَاوُنِ ، فَكَيْفَ يَنْفَعُكَ إِيمَانُ غَيْرِكَ وَصَلَاحُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=19يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) ( 82 : 19 ) ؟