( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون )
الكلام متصل بما قبله من ذكر اليهود واعتذارهم عن عدم الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من البينات والهدى ، زعموا أنهم مؤمنون بكتاب ولا حاجة لهم بهداية في غيره ، فاحتج عليهم بما ينقض دعواهم ، وزعموا أنهم ناجون في الآخرة على كل حال ؛ لأنهم شعب الله وأبناؤه ، فأبطل زعمهم ، ثم ذكر لهم تعلة أخرى أغرب مما سبقها ، وفندها [ ص: 324 ] كما فند ما قبلها ، وهي أن تعلات جبريل الذي ينزل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عدوهم فلا يؤمنون بوحي يجيء هو به . وقد جاء في أسباب النزول روايات عنهم في ذلك .
منها : أن عبد الله بن صوريا من علمائهم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي فقال : هو جبريل ، فزعم أنه عدو اليهود ، وذكر من عداوته أنه أنذرهم خراب بيت المقدس فكان ، ومنها : أن - رضي الله عنه - دخل مدراسهم ، فذكر عمر بن الخطاب جبريل ، فقالوا : ذاك عدونا ، يطلع محمدا على أسرارنا ، وأنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلم . . . إلخ ، وهذا القول هراء ، وخطله بين ، وإنما عني القرآن بذكره ورده ؛ لأنه مؤذن بتعنتهم وعنادهم ، وشاهد على فساد تصورهم وعدم تدبرهم ؛ ليعلم الذين كانوا ينتظرون ما يقول أهل الكتاب فيه أنه لا قيمة لأقوالهم ولا اعتداد بمرائهم وجدالهم .
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) أي قل لهم أيها الرسول حكاية عن الله - تعالى - : من كان عدوا قال - تعالى - : ( لجبريل ، فإن شأن جبريل كذا ؛ فهو إذا عدو لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها ولهداية الله - تعالى - لخلقه وبشراه للمؤمنين على ما يأتي في بيان ذلك . قال شيخنا في تقييد تنزيله ( بإذن الله ) : وإذا كان يناجي روحك ويخاطب قلبك بإذن الله لا افتياتا من نفسه ، فعداوته لا يصح أن تصد عن الإيمان بك ، وليس للعاقل أن يتخذها تعلة وينتحلها عذرا ، فإن القرآن من عند الله لا من عنده . فقوله : ( بإذن الله ) حجة أولى عليهم ، ثم قال : ( مصدقا لما بين يديه ) أي : حال كونه موافقا للكتب التي تقدمته في الأصول التي تدعو إليها من التوحيد واتباع الحق والعمل الصالح ، ومطابقا لما فيها من البشارات بالنبي الذي يجيء من أبناء إسماعيل ، كأنه يقول : فآمنوا به لهذه المطابقة والموافقة ، لا لأن جبريل واسطة في تبليغه وتنزيله ، وهذه حجة ثانية ، ثم عززها بثالثة وهي قوله : ( وهدى ) أي : نزله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان ، فألقت أهلها في حضيض الهوان ، والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه من ضلال هو فيه ؛ لأن الواسطة في مجيئها كان عدوا له من قبل ، فإن هذا الرفض من عمل الغبي الجاهل الذي لا يعرف الخير بذاته وإنما يعرفه بمن كان سببا في حصوله . ثم أيد الحجج الثلاث برابعة ، فقال : ( وبشرى للمؤمنين ) أي : إذا كنتم تعادون جبريل لأنه أنذر بخراب بيت المقدس فهو إنما أنذر المفسدين ، وقد أنزل هذا القرآن علي بشرى للمؤمنين ، فما لكم أن تتركوا هذه البشرى إن كنتم من أهل الإيمان ، لأن الذي نزل بها قد نزل بإنذار أهل الفساد والطغيان .
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن جبريل اسم أعجمي مركب من " جبر " ومعناه بالعبرانية أو السريانية : القوة ، ومن " إيل " ، ومعناه : الإله ، أي قوة الله ، وقيل : معناه عبد الله . وفيه 13 لغة منها ثمان لغات قرئ بهن ، أربع في المشهورات : جبرئيل كسلسبيل ، قرأ بها حمزة [ ص: 325 ] ، والكسائي وجبريل بفتح الراء وحذف الهمزة قرأ بها ابن كثير والحسن وابن محيصن ، وجبرئل كجحمرش قرأ بها عاصم برواية أبي بكر ، وجبريل كقنديل قرأ بها الباقون . وأربع في الشواذ : جبرإل ، وجبرائيل ، وجبرئل ، وجبرين .
ومنها أن قوله : ( نزله على قلبك ) ورد على طريق الالتفات عن التكلم إلى الخطاب إذ كان مقتضى السياق أن يقول : ( نزله على قلبي ) وقد قالوا في نكتته : إنها حكاية ما خاطبه الله - تعالى - به . ولا أرى صاحب الذوق السليم إلا مستنكرا صيغة التكلم في هذا المقام ، والعلة في ذلك لا تبعد عن الأفهام ، ومنها أن الضمير المنصوب البارز في ( نزله ) للقرآن وهو لم يذكر فيما قبلها ، وإنما عينته قرينة الحال ، وذلك يدل على فخامة شأنه ، كأنه لشهرته قد استغنى عن ذكره ( قاله البيضاوي ) .
أقام الحجج على حماقتهم وسخفهم في دعوى عداوة جبريل ، وبيان أنها لا يصح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله بتلك الصفات التي طويت فيها الحجج ، ثم بين في آية أخرى حقيقة حالهم في هذه العداوة فقال : ( من كان عدوا لله ) بكفره بما ينزله من الهداية ( وملائكته ) برفض الحق والخير الذي فطروا عليه ، وكراهة القيام بما يعهد به إليهم ربهم - عز وجل - ؛ لأنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ( 66 : 6 ) ، ( ورسله ) بتكذيب بعض وقتل بعض ( وجبريل وميكال ) بأن الأول ينزل بالآيات والنذر ، ومن كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكال ؛ لأن فطرتهما واحدة ، وحقيقتهما واحدة ، من مقتها وعاداها في أحدهما فقد عاداها في الآخر ( فإن الله عدو للكافرين ) أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين من الله الذين جعلهم رحمة لخلقه فإن الله عدو له ؛ لأنه كافر بالله ومعاد له ، والله عدو للكافرين أي يعاملهم معاملة الأعداء للأعداء ، وهم الظالمون لأنفسهم إذ دعاهم فلم يقبلوا أن يكونوا مع الأولياء ( وميكال ) بوزن ميعاد قراءة أبي عمرو ويعقوب وعاصم برواية حفص ، وقرأ نافع ( ميكائل ) ، وحمزة والكسائي وابن عامر ( ميكائيل ) وفي الشواذ : ميكئل ، وميكئيل ؛ وميكاييل .
قال الأستاذ الإمام : هذا وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها ، وهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم ولكنهم كذلك في نفس الأمر ، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع ، وهي أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله وينقله ويدعو إليه ، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكال الذي يزعمون أنهم يحبونه ، وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي ، لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه . ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب الإلهية ؛ لأن الغرض من الجميع واحد . ومعاداة محمد - صلى الله عليه وسلم - كمعاداة سائر رسل الله ؛ لأن وظيفتهم واحدة ، فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر ، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي انفرد بها .
وفي قوله - تعالى - : ( للكافرين ) وضع للمظهر في موضع المضمر ؛ لبيان أن سبب عداوته [ ص: 326 ] - تعالى - لهم هو الكفر ، فإن الله لا يعادي قوما لذواتهم ولا لأنسابهم ، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو .
( أقول ) : وقد تقدم غير مرة أن عذاب الله وانتقامه من الكفرة الفجرة لا يشبه انتقام ملوك الدنيا وزعمائها ، وإنما قضت سنته - تعالى - بأن يكون لكل عمل يعمله الإنسان في ظاهره أو في نفسه وضميره أثر في نفس العامل يزكيها ويدسيها ، . ولذلك قال - تعالى - : ( وسعادة الإنسان في الآخرة أو شقاؤه تابع لآثار اعتقاداته وأعماله في نفسه وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) ( 43 : 76 ) .
ثم صرح بأن ، وأنه في نفسه آيات بينات لا يحتاج إلى آية أخرى تبينه وتشهد له ، فإن ما كان بينا في نفسه أولى بالقبول مما يحتاج في بيانه إلى غيره ، فقال : ( القرآن منزل من عند الله وحده ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ) وقد تقدم أن الوحي من الله للنبي يسمى تنزيلا وإنزالا ونزولا لبيان علو مرتبة الربوبية ، لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض .
قال هذا شيخنا : حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه ، لا حاجة إلى تأويلها بعلو مرتبة الربوبية على مرتبة المخلوقين هربا من استلزامها الحصر والتحيز في جهة واحدة ، فإن التنزيه القطعي يبطل اللزوم . ومسألة الجهات نسبية لا حقيقية ، وإذ كان الرب - تعالى - بائنا من خلقه وهو من ورائهم محيط ، فهم أينما كانوا يتوجهون إليه إلا أنه فوقهم ، وإذا كان الملائكة ( وعلو الله - تعالى - على خلقه يخافون ربهم من فوقهم ) ( 16 : 50 ) فماذا يقال فيمن دونهم ؟ وتوجه البشر إلى ربهم في جهة العلو وقبل السماء فطري معروف في جميع أهل الملل ، فهو فوق الخلق في جملته وفوق العباد أينما كانوا من أرض أو سماء ، وهنالك مقام الإطلاق الذي لا يقيد بقيد ولا يحصر في حيز ، وإنما الحيز والحصر من الأمور النسبية والاعتبارية في داخل دائرة الخلق . وصح في الحديث : أن الملائكة إذا سمعوا كلام الله في السماوات عراهم ما عراهم مما أشير إليه في قوله - تعالى - : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) ( 34 : 23 ) .
وشيخنا على دعوته إلى مذهب السلف كان لا يزال متأثرا بمذهب الأشعرية .
وأما كون فهي أنها بإعجازها البشر وبقرن المسائل الاعتقادية فيها ببراهينها ، والأحكام الأدبية والعلمية بوجوه منافعها ، لا تحتاج إلى دليل آخر يدل على أنها هداية من الله - تعالى - وأنها جديرة بالاتباع ، بل هي دليل على نفسها عند صاحب الفطرة السليمة كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى شيء آخر يظهره ( آيات القرآن بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) الذين خرجوا من نور الفطرة وانغمسوا في ظلمة التقليد ، فتركوا طلب الحق بذاته لاعتقادهم أن فطرتهم ناقصة لا استعداد فيها لإدراكه بذاته على شدة ظهوره ، وإنما يطلبونه من كلام مقلديهم ، وكذا الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه وعنادا له .
[ ص: 327 ] بعد هذا كله بين الله - تعالى - شأنين من شئون أهل الكتاب وهما : أنه لا ثقة بهم في شيء لما عرف عنهم من نقض العهود ، وأنه لا رجاء في إيمان أكثرهم ؛ لأن الضلالة قد ملكت عليهم أمرهم إلا قليلا منهم ، فإن كان ما تقدم من الأعمال والأقوال قد صدر عن بعضهم ، وإن كان نقض العهود قد وقع في كل زمن من فريق منهم دون فريق ، فلا يتوهمن أحد أن أولئك هم الأقلون ، كلا بل هم الأكثرون ، ولذلك قال : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) ، همزة الاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف ، أي : أكفروا بالآيات وقالوا ما قالوا ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ النبذ : طرح الشيء وإلقاؤه ، والمراد بالعهود هنا عهودهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما كان لفظ ( فريق ) يوهم العدد القليل ، وكان الواقع أن الذين كانوا يرون الوفاء له - صلى الله عليه وسلم - قليلون ، والناقضين هم الأكثرون أضرب عنه وقال : ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) فهم لا أيمان لهم ؛ لأنهم لا إيمان لهم ، أي لا عهود لهم . وفيه من خبر الغيب أن أكثر اليهود لا يؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك كان وصدق الله العظيم .