( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول الكامل محمد صلى الله عليه وسلم الذي أكمل به الدين ، وبعث رحمة للعالمين ، ترى أيها الناظر إليهم أعينهم تفيض من الدمع ، أي تمتلئ دمعا حتى يتدفق الدمع من جوانبها لكثرته ، أو حتى كأن الأعين ذابت وصارت دمعا جاريا ، ذلك من أجل ما منع غيرهم من العتو والاستكبار ، قوله : ( من الحق ) بيان لقوله : ( مما عرفوا ) ( وقيل : إن " من " فيه للتبعيض ، أي إن أعينهم فاضت عبرة ودموعا ، عبرة منهم وخشوعا ، لمعرفتهم بعض الحق ، إذ سمعوا بعض الآيات دون بعض ، فكيف لو عرفوا الحق كله بسماع جميع القرآن ، ومعرفة ما جاءت به السنة من الأسوة الحسنة البيان وهذا القول إنما يصح بتطبيقه على واقعة معينة كالذي يسمع في وجماعته ، وأما ظاهر الجملة الشرطية فهو بيان ما يكون من شأنهم عند سماع القرآن ، وهو العبرة والاستعبار ، والدموع الغزار . النجاشي
ثم بين تعالى ما يكون من مقالهم ، بعد بيان ما يكون من حالهم فقال : ( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) أي : يقولون هذا القول يريدون به إنشاء الإيمان ، والتضرع إلى الله تعالى بأن يقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الذين جعلهم الله تعالى كالرسل شهداء على الناس ، وإنما يقولون ذلك لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ، أو مما يتناقلونه عن سلفهم ، أن النبي الأخير الذي يكمل الله به الدين يكون متبعوه شهداء على الناس ، أو المعنى أنهم بدخولهم في هذه الأمة يكتبون من الشاهدين ، فذكر الله الأمة [ ص: 12 ] بأشرف أوصافها ، قال رضي الله عنه إن الشاهدين هنا هم الشهداء في قوله تعالى : ( ابن عباس وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( 2 : 143 ) وروي عنه أنه قال : هم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، أنهم شهدوا أنه قد بلغ ، وأن الرسول قال : " قد بلغت " كأنه يقول : إن الشهادة للرسل تستلزم الشهادة على من خالفهم ، وإلا كان هذا التفسير غير ظاهر; لأن الشهادة على المرء ضد الشهادة له ، والحق أن الشهادة هنا يراد بها أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة ، وتكون حجة على المشركين والمبطلين لكونها مظهرا للدين الحق الذي جحدوه أو ضلوا عنه ، وقد حققنا القول في بيان معنى الشهداء في تفسير ( لتكونوا شهداء على الناس ) ( 2 : 143 ) في ( ص 5ج 3ط الهيئة ) ( ومن يطع الله والرسول ) ( 4 : 69 ) في ( ص 197 ج5 ط الهيئة ) .
( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) . هذا تتمة قولهم ، والمعنى : أي مانع يمنعنا من الإيمان بالله وحده وبما جاءنا من الحق على لسان هذا الرسول ، بعد أن ظهر لنا أنه البارقليط روح الحق الذي بشر به المسيح ، والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ، والذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة ، والفضائل الكاملة ، والعبادات الخاصة ، والمعاملات المستقيمة ، وهم أتباع هذا النبي الكريم ، الذين رأينا أثر صلاحهم بأعيننا بعد ما كان فسادهم في جاهليتهم ما كان ؟ أي لا مانع من هذا الإيمان بعد تحقيق موجبه ، وقيام سببه ، فسروا القوم الصالحين بأصحاب الرسول ، وهو متعين بالنسبة إلى من آمن من نصارى الحبشة ، وكل من سار على طريقهم يعد منهم ويحشر معهم .
( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) أي فجزاهم الله تعالى وأعطاهم من الثواب بقولهم الذي عبروا به عن إيمانهم وإخلاصهم بساتين وحدائق في دار النعيم تجري من تحت أشجارها الأنهار يخلدون فيها ، فلا هي تسلب منهم ولا هم يرغبون عنها ويتركونها ، وذلك النوع من الثواب جزاء جميع المحسنين في سيرتهم وأعمالهم من أهل الإيمان ، وقد علم من الآيات الأخرى أن في تلك الجنات ، الدور والقصور والنعيم الروحاني والرضوان الإلهي ما لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ويحيط به الوصف في هذا العالم المخالف لذلك العالم في حقيقته وخواصه ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) ( 32 : 17 ) .