وقد اختلف المتكلمون والمفسرون والفقهاء في
nindex.php?page=treesubj&link=25582حقيقة السحر وفي أحكامه ، وعده بعضهم من خوارق العادات ، وفرقوا بينه وبين المعجزة ، ولم يذكروا في فروقهم أن السحر يتلقى بالتعليم ، ويتكرر بالعمل ، فهو أمر عادي قطعا بخلاف المعجزة .
( قال الأستاذ الإمام ) في قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يعلمون الناس السحر ) وجهان :
( أحدهما ) : أنه متصل بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973ولكن الشياطين كفروا ) أي أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر .
( والثاني ) : وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن
اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم . وانتحال
اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ، ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم . أي أن فريقا من
اليهود نبذوا كتاب الله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) وهاهنا يقول القائل : بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على
سليمان في رميه بالكفر ، وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه ؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يعلمون الناس السحر ) . . . إلخ ، ونفي الكفر عن سليمان وإلصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض ، فعلم أيضا أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية أيضا . وإنما كان القصد إلى وصف
اليهود بتعليم السحر ؛ لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ، ويضرون بها الناس خداعا وتمويها وتلبيسا .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فأجمل بهذه العبارة الوجيزة خبر قصة كانوا يتحدثون بها كما أجمل في ذكر تعليم السحر ، فلم يذكر ما هو ، أشعوذة وتخييل ، أم خواص طبيعية ، وتأثيرات نفسية ؟ وهذا ضرب من الإعجاز انفرد به القرآن ، يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات لأجل الاعتبار به فينظمه في أسلوب يمكن لكل أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده لذلك الشيء في تفصيله ، ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع أن ينكرها من يدعي أن السحر حيلة وشعوذة أو غير ذلك مما ذكرناه ، ولا يستطيع أن يردها من يدعي أنه من خوارق العادات ؟
[ ص: 332 ] والحكمة في ذلك أن الله - عز وجل - قد وكل معرفة هذه الحقائق الكونية إلى بحث الإنسان واشتغاله بالعلم ؛ لأنه من الأمور الكسبية ، ولو بين مسائلها بالنص القاطع لجاءت مخالفة لعلم الناس واختبارهم في كل جيل لم يرتق العلم فيه إلى أعلى درجة ، ولكانت تلك المخالفة من أسباب الشك أو التكذيب ، فإننا نرى من الناس من يطعن في كتب الوحي لتفسير بعض تلك الأمور المجملة بما يتراءى لهم ، وإن لم تكن نصا ولا ظاهرا فيه ، ويزعمون أن كتاب الدين جاء مخالفا للعلم ، وإن كان ذلك الذي يطلقون عليه اسم العلم ظنيا أو فرضيا .
في ( الملكين ) قراءتان ، فتح اللام وكسرها ، فالأولى قراءة الجمهور ، والثانية قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والحسن وأبي الأسود والضحاك . وحمل بعضهم قراءة الفتح على قراءة الكسر ويؤيده ما قيل إن المراد بهما (
داود وسليمان - عليهما السلام - ) . . . وقيل . بل هما رجلان صاحبا وقار وسمت فشبها بالملائكة ، وكان يؤمهما الناس بالحوائج الأهلية ويجلونهما أشد الإجلال فشبها بالملوك ، وتلك عادة الناس فيمن ينفرد بالصفات المحمودة يقولون : هذا ملك وليس بإنسان ، كما يقولون فيمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس من حيث يحتاجون إليه : " وهذا سلطان زمانه " ، جلت حكمة الله في خلقه فقد قد هؤلاء الآدميين من أديم واحد ، كان الناس على عهد
هاروت وماروت - اللذين كان يتحدث بخبرهما ولا يحدد تاريخهما - على مثالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الأهلية من الجهة الروحانية إلا إلى أهل السمت والوقار اللابسين لباس أهل التقوى والصلاح ، هذا ما نشاهدهم عليه في زماننا ، وهذا ما حكى الله - تعالى - عنهم في الزمن القديم ، وقال الأستاذ الإمام : لعل الله - تعالى - سماهما ملكين ( بفتح اللام ) حكاية لاعتقاد الناس فيهما ، وأجاز أيضا كون إطلاق لفظ الملكين عليهما مجازا كما قال بعض المفسرين . قال - تعالى - في
اليهود : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل ) ، والظاهر من العطف أن ما أنزل عليهما هو غير السحر ضم إليه ؛ لأنه من جنسه في كون تعليمه سيئة مذمومة أو هو لتغاير الاعتبار أو النوع . وليس معنى الإنزال عليهما أنه وحي من الله كوحيه للأنبياء ، فيشكل عده من الشر والباطل الذي يذم تعلمه ، فإن كلمة ( أنزل ) تستعمل في مواضع لا صلة بينها وبين وحي الأنبياء ، قالوا : أنزلت حاجتي على كريم ، وأنزل لي عن هذه الأبيات ، ويقال : قد أنزل الصبر على قلب فلان ، وقال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وأنزلنا الحديد ) ( 57 : 25 ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=26ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) ( 9 : 26 ) . ولعل التعبير عما أوتياه من العلم بالإنزال ؛ لأنه لم يكن يعرف له مأخذ غيرهما ، يراد أنهما ألهماه إلهاما واهتديا إليه من غير أستاذ ولا معلم . ويصح أن يسمى مثل هذا وحيا لخفاء منبعه . وليس الوحي إلهام الخواطر خاصا في عرف اللغة ولا عرف القرآن بالأنبياء ، ولا بما يكون موضوعه خيرا أو حقا ، فقد قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وأوحى ربك إلى النحل ) ( 16 : 68 ) ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=7وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه )
[ ص: 333 ] ( 28 : 7 ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=112شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) ( 6 : 112 ) وقال الشاعر :
رأس الغواية في العقل السقيم فما فيه فأكثره وحي الشياطين
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري وجها آخر في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وما أنزل على الملكين ) ، ونقله كثير من المفسرين وهو أن ( ما ) نافية ، أي : إن
اليهود يعلمون الناس السحر ويرتقون بسنده إلى الملكين
ببابل ، وما أنزل السحر على الملكين ، فكيف كانوا يعلمونه
بني إسرائيل ؟ وقد ضعفوه بأن الثابت في الواقع أن
بني إسرائيل كانوا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ، وقد أجاز هذا التضعيف الأستاذ الإمام ، على أنه يمكن أن يراد به نفي الإنزال خاصة ، أي أن ذلك السحر الذي ينسبونه إلى الملكين لم ينزل عليهما إنزالا من الله فينظمه
اليهود في سلك العلوم المحمودة ويزعمون أنه حق ، وإنما هو شيء افتجراه واخترعاه من عند أنفسهما .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) أي إن ما عندنا هو أمر يبتلي به الله الناس ويختبرهم فلا تتعلم ما هو كفر ، فإن أصر علماه . هذا ما عليه الجمهور واقتصر عليه الأستاذ الإمام في الدرس . وقال
البيضاوي : وما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنما نحن ابتلاء من الله ، فمن تعلم منا وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به ، وفيه دليل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=25589تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور ، وإنما المنع من اتباعه والعمل به ا هـ . ويجوز أن يكون المعنى : إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك أتشكر أم تكفر ؟ وننصح لك ألا تكفر . ولعلهما يقولان هذا للمحافظة على حسن اعتقاد الناس بفضلهما إذ كانوا يقولون هما ملكان . وإننا نسمع الدجاجلة الذين ينتحلون مثل هذا ويوهمون الناس أنهم روحانيون ، يقولون لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة وللبغض : نوصيك بألا تكتب هذا لجلب امرأة متزوجة إلى حب رجل غير زوجها ، ولا تكتب لأحد الزوجين بأن يبغض الآخر ، وأن تخص هذه الفوائد بالمصلحة كالحب بين الزوجين ، والتفريق بين العاشقين الفاسقين ، وإنما يقولون هذا ليوهموا الناس أن علومهم إلهية ، وأن صناعتهم روحانية ، وأنهم صحيحو النية . وقد كان
اليهود يسندون سحرهم إلى ملكين
ببابل ، ونرى دجاجلة المسلمين من المغاربة وغيرهم يسندون خزعبلاتهم إلى "
دانيال النبي " ، وهذا المعنى يصح على القول بأن قوله : ( وما أنزل ) نفي بحسب توجيهنا السابق . وقال
البيضاوي : إن معناه على وجه النفي : إنما نحن مفتونون ، فلا تكن مثلنا .
قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، صيغة المضارع في هذه الجملة وما قبلها لتصوير ما كان كأنه كائن ، فالكلام تصوير للقصة لا حكم بمضمونها ، أي أنهم
[ ص: 334 ] كانوا يتعلمون منهما ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين ، وهو نحو ما يسميه الدجاجلة الآن " كتاب البغضة " وليس في العبارة ما يدل على أن ما يتعلمونه لهذا الغرض هو مؤثر فيه بطبعه أو بسبب خفي أو بخارقة لا تعقل لها علة ولا أنه غير مؤثر ، وليس فيها بيان لما يتعلمونه هل هو كتابة تمائم ، أو تلاوة رقى وعزائم ، أو أساليب سعاية ، أو دسائس تنفير ونكاية ، أو تأثير نفساني ، أو وسواس شيطاني ؟ أي شيء من ذلك ثبت علما كان تفصيلا لما أجمله القرآن في الواقع ، ولا يجوز لنا أن نتحكم بتفصيل ما أجمله القرآن فنحمله على أحد ما ذكر أو على غيره . ولو علم الله أن الخير لنا في بيان ذلك لبينه كما قلناه في مثله مرارا .
لم يبين القرآن ذلك الإجمال ولا حقيقة ذلك العلم ؛ لأنه موكول إلى بحث البشر وارتقائهم في العلم كما تقدم ، ولكنه لم يهمل ما يتعلق بالعقائد وبيان الحق فيها ؛ ولذلك قال بعد حكاية السحر عنهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) أي أنهم ليس لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات ، فهم يفعلون بها ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر ، وفوق ما منحوا من القوى والقدر ، فإذا اتفق أن أصيب أحد بضرر من أعمالهم ، فإنما ذلك بإذن الله ، أي بسبب من الأسباب التي جرت العادة بأن تحصل المسببات من ضر ونفع عند حصولها بإذن الله - تعالى . وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=28662الحكم التوحيدي هو المقصد الأول من مقاصد الدين ، فالقرآن لا يترك بيانه عند الحاجة بل يبينه عند كل مناسبة ، وربما ترد في القرآن قصة مثل هذه القصة لأجل بيان الحق في مسألة اعتقادية كهذه المسألة ؛ لأن إيراد الأحكام في سياق الوقائع أوقع في النفس وأعصى على التأويل والتحريف .
ثم قال بعد نفي القوة التي وراء الأسباب عنهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) ، يضرهم ؛ لأنه سبب في الإضرار بالناس ، وهو محرم يعاقب الله - تعالى - عليه في الآخرة ، ومن عرف بإيذاء الناس يمقته الناس ويكونون عليه . ولما كان بعض الضار من جهة نافعا من جهة أخرى - وربما كانت منفعته أكبر من إثمه - نفى المنفعة بعد إثبات المضرة . فهذا النفي واجب في قانون البلاغة لا بد منه ، وقد صدق الله - تعالى - فإننا نرى
nindex.php?page=treesubj&link=25583منتحلي السحر وما في معناه أفقر الناس وأحقرهم ، ولو عقل السفهاء الذين يختلفون إليهم يلتمسون المنافع لأنفسهم والإيقاع بأعدائهم لعلموا أن الشقي في نفسه لا يمكن أن يهب السعادة لغيره ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، هذه حالهم في الدنيا ، فكيف يكونون في الآخرة يوم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=281توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) ( 2 : 281 ) لا جرم أنها تكون حالا سوأى ،
واليهود يعلمون ذلك كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) أي أنهم يعلمون أن من اختار هذا واستبدله بما آتاه الله من أصول الدين الحق وأحكام الشريعة العادلة الموصلين إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فليس له نصيب في نعيم الآخرة ، وذلك أن التوراة قد حظرت تعليم السحر ، وجعلته كعبادة الأوثان وشددت العقوبة
[ ص: 335 ] على فاعله وعلى اتباع الجن والشياطين والكهان ، ولا ينافي هذا العلم قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) فإن العلم علمان : علم تفصيلي متمكن من النفس متسلط على إرادتها يحركها إلى العمل ، وعلم إجمالي خيالي يلوح في الذهن مبهما عندما يعرض ما يذكر به ككتاب وإلقاء سؤال ، وهو يقبل التحريف والتأويل ، وليس له منفذ إلى الإرادة ولا سبيل ، فقد كانوا يستحلون أكل السحت كالرشوة والربا بالتأويل ، كما يفعل غيرهم اليوم وقبل اليوم . ولو كانوا يعلمون حرمة ما ذكر علما تفصيليا يستغرق جميع جزئيات المحرم ، ويفقهون علة التحريم وسره ، ويصدقون بما توعد الله مرتكبه من العقوبة في الآخرة تصديقا جازما ، ويتذكرونه وقت العمل - بما للعقيدة من السلطان على الإرادة - لما ارتكبوا ما ارتكبوه مع الإصرار عليه ، ولكنهم فقدوا هذا النوع من العلم ولم يغن عنهم تصور أن السحر والخداع كلاهما حرام كالربا والرشوة ؛ لأن في الكتاب عبارة تدل على ذلك ؛ فإن العبارة تحتمل ضروبا من التأويل ككون النهي خاصا بمعاملة
شعب إسرائيل ، وكانوا يقولون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=75ليس علينا في الأميين سبيل ) ( 3 : 75 ) إذا أكلنا أموالهم بالباطل ، وكاشتراط الضرر في السحر مع ادعاء أن ما يأتونه منه نافع غير ضار وغير ذلك .
وإننا نرى كثيرا من الحرمات قد انتهكت في المسلمين بمثل التأويلات حتى
nindex.php?page=treesubj&link=28207_26294جوز بعض المشتغلين بالفقه هدم ركن من أعظم أركان الإسلام بالحيلة ، وهو ركن الزكاة الذي يحارب تاركوه شرعا ، وترى هذه الحيل قد أثرت في الأمة أسوأ التأثير ، فقلما يوجد فيها غني يؤدي الزكاة ، ولا يعتقد المتمسك بالدين من هؤلاء الأغنياء أنه متعرض لمقت الله وعقوبته ، وأنه قد فسق عن أمر ربه ؛ لأنه يمنع الزكاة بحيلة يسميها شرعية ، وقد أخذها عمن يسمون فقهاء ، ويفتخرون بأنهم ورثة الأنبياء ، ثم إن الحيل على التزوير وأكل أموال الناس بالباطل لها في بعض الكتب وعلى ألسنة كثيرين من أصحاب العمائم مجال واسع وميدان فسيح ، ولها أقبح التأثير في إفساد العامة واستباحتهم المحظورات ، ولقد صارت هذه الحيل على الله - عز وجل - والتأويلات الباطلة الهادمة لدينه معدودة من علم الدين حتى إنه ليأتيها من لا منفعة له في إتيانها ممن يعدون صالحين ، ومن أعجب ذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=28207_16209_16215بعض أهل العلم الصالحين يشهد الزور بمثل هذه التأويلات ، وقد نقل الثقات أن طالب الشهادة يستعطفه ويستميل قلبه الشكوى من الظلم ، وإرادة الاستعانة بشهادته على دفع المظلمة والتخلص من الأذى ، فيأمر الشيخ بأن تطوى الورقة المشتملة على قول الزور بحيث يحجب سواد الكتابة فلا يراه ويضع توقيعه وختمه في ذيلها كأنه وضعهما على ورقة خالية ، وهو يعلم أنها ليست خالية من الكتابة ، ويعرف ما فيها من الكذب . فهل نقول : إنه غير عالم بقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=72والذين لا يشهدون الزور ) ( 25 : 72 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=105إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون ) ( 16 : 105 ) وبما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم وغيرهما
[ ص: 336 ] من حديث
أبي بكرة nindex.php?page=hadith&LINKID=918627أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وكان متكئا ( ( ألا أنبئكم nindex.php?page=treesubj&link=27530_18028_29437_18989بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين - ثم قعد فقال - ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) ) . وبما روياه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا أيضا ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918628آية المنافق ثلاث ، إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ) ) ، وفي رواية لغيرهما : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918629ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إنه مسلم ) ) ، وذكرهن .
بلى إنه عالم بكل ذلك ولكنه التأويل أفسد على كل أهل دين دينهم .
أقول : أشار الأستاذ الإمام إلى ما كان من إقدام هذا العالم العابد على شهادة الزور واستحلالها بتلك الحيلة السخيفة ، وذكر أمثلة أخرى ، وقد تذكرت عند كتابة الحديث في المنافقين أن بعض شيوخ الأزهر المعروفين كان وعدني وعدا وأخلف ، فسألته به فقال : إن فقهاءنا الحنفية قالوا بأن
nindex.php?page=treesubj&link=19489_18085الوفاء بالوعد غير واجب ، فقلت وقد تميزت من الغيظ : إن من يقول هذا القول بعد ما ورد من النصوص الصريحة في الوفاء وفي الوعيد على تركه فهو مخطئ ، وقوله مردود كما ورد في الصحيح ( بل قلت أكثر من هذا ) وإنني أبرئ الأئمة من القول بحل إخلاف الوعد من غير عذر صحيح ، ولكنني أعذر الفقهاء إذا قالوا بأنه ليس للقاضي أن يحكم على من وعد بالوفاء ويلزمه ذلك إلزاما ، ولا أعذر من يقول : إن الوفاء مستحب وتركه جائز ، وإن كان هو المعروف في أكثر كتب الفقه المتداولة .
ولقد صار العالم المسلم عاجزا في أكبر بلاد المسلمين عن إنكار ما يخالف هدي الكتاب والسنة من كتب الميتين ولا سيما إذا اشتهروا باختيار كتبهم للتدريس ، وحجة هؤلاء المقلدين على نصر كتب الميتين وترجيحها على كتاب الله وسنة رسوله هي أن القادرين على الاهتداء بهما قد انقرضوا ، فوجب على المسلمين ترك العمل بهما ، والاعتماد على كتب العلماء المتأخرين الذين استنبطوا من قواعد أئمتهم جميع مسائل الدين ، فعلينا أن نأخذ بكل ما قالوا ، وألا ننظر في الكتاب إلا للتبرك بهما ، فإن رأينا خلافا بين قول الله ورسوله وقول الفقيه لا يحتمل التأويل ، فعلينا أن نتهم عقولنا وأفهامنا ، وننزه فهم الفقيه الميت وعقله ، ونعمل بقوله مكابرين أنفسنا التي سجل عليها الحرمان من فهم الكتاب المبين والسنة البيضاء التي وصفها صاحبها بأن ليلها كنهارها أي لا يشتبه فيها أحد ! ! ! هذا ما عليه جماهير المسلمين ، ولم يبعد من قبلهم عن كتاب ربهم أشد من هذا البعد ، وسيعودون إليه بعد حين ، فقد أخذهم العذاب على تركه (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=47وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) ( 30 : 47 ) .
ثم قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=103ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) أي لو أنهم استبدلوا الإيمان بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا السحر الخادع واتباع نزغات الشياطين ، أو لو آمنوا بكتابهم إيمانا حقيقيا - ومنه البشارة بالنبي والأمر باتباعه - واتقوا بالعمل به والمحافظة على حدوده
[ ص: 337 ] مغبة ما ينتظره المجرمون من العقوبة على العصيان ، لكان ثواب الله لهم على الإيمان الصحيح والعمل الصالح خيرا لهم من جميع ما توهموه في المخالفة من المنافع . ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=103لو كانوا يعلمون ) أي إنهم في كل ما هم عليه من الأباطيل ، ومن زعمهم أنها ترجع إلى الكتاب بضروب من التأويل ، يتبعون الظنون ويعتمدون على التقليد ، وليسوا على شيء من العلم الصحيح ، ولو كانوا يعلمون علما صحيحا لظهر أثره في أعمالهم ولآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتبعوه فكانوا من المفلحين .
ومن مباحث اللفظ في الآيات : أن
بابل بلدة قديمة كانت في سواد
الكوفة ( قبل
الكوفة ) في أشهر أقوال المفسرين ، ويؤخذ من بعض كتب التاريخ أنها كانت في الجانب الشرقي من نهر الفرات بعيدة عنه ، ويقال : إن أصل اشتقاقها في العبرانية يدل على الخلط ، إشارة إلى ما يرويه العبرانيون من اختلاط الألسنة هناك .
وهاروت وماروت اسمان أعجميان ، ولو كانا مشتقين من الهرت والمرت كما زعم بعضهم لما منعا من الصرف ، و ( من ) في قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وما يعلمان من أحد ) لاستغراق النفي وتأكده ، وقد شدد الأستاذ الإمام كعادته الإنكار على من قال إنها زائدة ، وقال : إنما الزائدة ما يذكر للتحلية ولا يكون له معنى ما وفاقا لكثير من المفسرين ، والمثوبة الثواب ، و ( لمثوبة ) خبر ( لو ) ، قال الأستاذ : أي لكانت مثوبة من الله خيرا .
وقد قدروا لها فعلا فقالوا : الأصل لأثيبوا مثوبة ، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية ليدل على ثبات المثوبة ، ونكرت لبيان أنها مهما قلت فهي خير لهم ، وأصلها الثوب بمعنى الرجوع ، كأن المحسن يثوب إلى من أحسن إليه بعد الإعراض .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=25582حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَفِي أَحْكَامِهِ ، وَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي فُرُوقِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ يُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ ، وَيَتَكَرَّرُ بِالْعَمَلِ ، فَهُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُعْجِزَةِ .
( قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) وَجْهَانِ :
( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) أَيْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .
( وَالثَّانِي ) : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ عَنِ
الْيَهُودِ وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الشَّيَاطِينِ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ الْقَوْلِ بِكُفْرِهِمْ . وَانْتِحَالُ
الْيَهُودِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ أَمْرٌ كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ ، وَلَا يَزَالُونَ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ . أَيْ أَنَّ فَرِيقًا مِنَ
الْيَهُودِ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) وَهَاهُنَا يَقُولُ الْقَائِلُ : بِمَاذَا اتَّبَعُوا أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
سُلَيْمَانَ فِي رَمْيِهِ بِالْكُفْرِ ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ اسْتُخْرِجَ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ؟ فَأَجَابَ عَلَى طَرِيقِ الْاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) . . . إِلَخْ ، وَنَفْيُ الْكُفْرِ عَنْ سُلَيْمَانَ وَإِلْصَاقُهُ بِالشَّيَاطِينِ الْكَاذِبِينَ ذُكِرَ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ ، فَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشَّيَاطِينَ بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ أَيْضًا . وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْدُ إِلَى وَصْفِ
الْيَهُودِ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَا ، وَيَضُرُّونَ بِهَا النَّاسَ خِدَاعًا وَتَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) فَأَجْمَلَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْوَجِيزَةِ خَبَرَ قِصَّةٍ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِهَا كَمَا أَجْمَلَ فِي ذِكْرِ تَعْلِيمِ السِّحْرِ ، فَلَمْ يَذْكُرْ مَا هُوَ ، أَشَعْوَذَةٌ وَتَخْيِيلٌ ، أَمْ خَوَاصٌّ طَبِيعِيَّةٌ ، وَتَأْثِيرَاتٌ نَفْسِيَّةٌ ؟ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْجَازِ انْفَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ ، يَذْكُرُ الْأَمْرَ الْمَشْهُورَ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَجْلِ الْاعْتِبَارِ بِهِ فَيَنْظِمُهُ فِي أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَهُ فِيهِ مَهْمَا يَكُنِ اعْتِقَادُهُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي تَفْصِيلِهِ ، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَكَرَ السِّحْرَ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِأَسَالِيبَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَشَعْوَذَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ ؟
[ ص: 332 ] وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ وَكَلَ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ إِلَى بَحْثِ الْإِنْسَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ ، وَلَوْ بَيَّنَ مَسَائِلَهَا بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ لَجَاءَتْ مُخَالِفَةً لِعِلْمِ النَّاسِ وَاخْتِبَارِهِمْ فِي كُلِّ جِيلٍ لَمْ يَرْتَقِ الْعِلْمُ فِيهِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ ، وَلَكَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّكِّ أَوِ التَّكْذِيبِ ، فَإِنَّنَا نَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي كُتُبِ الْوَحْيِ لِتَفْسِيرِ بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ بِمَا يَتَرَاءَى لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا فِيهِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ كِتَابَ الدِّينِ جَاءَ مُخَالِفًا لِلْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْعِلْمِ ظَنِّيًّا أَوْ فَرْضِيًّا .
فِي ( الْمَلَكَيْنِ ) قِرَاءَتَانِ ، فَتْحُ اللَّامِ وَكَسْرُهَا ، فَالْأُولَى قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ ، وَالثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْأَسْوَدِ وَالضَّحَّاكِ . وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا (
دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - ) . . . وَقِيلَ . بَلْ هُمَا رَجُلَانِ صَاحِبَا وَقَارٍ وَسَمْتٍ فَشُبِّهَا بِالْمَلَائِكَةِ ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمَا النَّاسُ بِالْحَوَائِجِ الْأَهْلِيَّةِ وَيُجِلُّونَهُمَا أَشَدَّ الْإِجْلَالِ فَشُبِّهَا بِالْمُلُوكِ ، وَتِلْكَ عَادَةُ النَّاسِ فِيمَنْ يَنْفَرِدُ بِالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ يَقُولُونَ : هَذَا مَلَكٌ وَلَيْسَ بِإِنْسَانٍ ، كَمَا يَقُولُونَ فِيمَنْ كَانَ سَيِّدًا عَزِيزًا يُظْهِرُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ : " وَهَذَا سُلْطَانُ زَمَانِهِ " ، جَلَّتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ فَقَدْ قَدَّ هَؤُلَاءِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ أَدِيمٍ وَاحِدٍ ، كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ
هَارُوتَ وَمَارُوتَ - اللَّذَيْنِ كَانَ يُتَحَدَّثُ بِخَبَرِهِمَا وَلَا يُحَدَّدُ تَارِيخُهُمَا - عَلَى مِثَالِهِمُ الْيَوْمَ لَا يَقْصِدُونَ لِلْفَصْلِ فِي شُئُونِهِمُ الْأَهْلِيَّةِ مِنَ الْجِهَةِ الرُّوحَانِيَّةِ إِلَّا إِلَى أَهْلِ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ أَهْلِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ ، هَذَا مَا نُشَاهِدُهُمْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا ، وَهَذَا مَا حَكَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : لَعَلَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُمَا مَلَكَيْنِ ( بِفَتْحِ اللَّامِ ) حِكَايَةً لِاعْتِقَادِ النَّاسِ فِيهِمَا ، وَأَجَازَ أَيْضًا كَوْنَ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ . قَالَ - تَعَالَى - فِي
الْيَهُودِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ ) ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعَطْفِ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا هُوَ غَيْرُ السِّحْرِ ضُمَّ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي كَوْنِ تَعْلِيمِهِ سَيِّئَةً مَذْمُومَةً أَوْ هُوَ لِتَغَايُرِ الِاعْتِبَارِ أَوِ النَّوْعِ . وَلَيْسَ مَعْنَى الْإِنْزَالِ عَلَيْهِمَا أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ كَوَحْيِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ ، فَيُشْكِلُ عَدُّهُ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ الَّذِي يُذَمُّ تَعَلُّمُهُ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ ( أُنْزِلَ ) تُسْتَعْمَلُ فِي مَوَاضِعَ لَا صِلَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ ، قَالُوا : أُنْزِلَتْ حَاجَتِي عَلَى كِرِيمٍ ، وَأُنْزِلَ لِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ ، وَيُقَالُ : قَدْ أُنْزِلَ الصَّبْرُ عَلَى قَلْبِ فُلَانٍ ، وَقَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) ( 57 : 25 ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=26ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ( 9 : 26 ) . وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ عَمَّا أُوتِيَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِنْزَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ لَهُ مَأْخَذٌ غَيْرُهُمَا ، يُرَادُ أَنَّهُمَا أَلْهَمَاهُ إِلْهَامًا وَاهْتَدَيَا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أُسْتَاذٍ وَلَا مُعَلِّمٍ . وَيَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا وَحْيًا لِخَفَاءِ مَنْبَعِهِ . وَلَيْسَ الْوَحْيُ إِلْهَامَ الْخَوَاطِرِ خَاصًّا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَلَا عُرْفِ الْقُرْآنِ بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا بِمَا يَكُونُ مَوْضُوعُهُ خَيْرًا أَوْ حَقًّا ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) ( 16 : 68 ) ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=7وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرَضِعِيهِ )
[ ص: 333 ] ( 28 : 7 ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=112شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( 6 : 112 ) وَقَالَ الشَّاعِرُ :
رَأْسُ الْغَوَايَةِ فِي الْعَقْلِ السَّقِيمِ فَمَا فِيهِ فَأَكْثَرُهُ وَحْيُ الشَّيَاطِينِ
وَذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَجْهًا آخَرَ فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) ، وَنَقَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ ( مَا ) نَافِيَةٌ ، أَيْ : إِنَّ
الْيَهُودَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَيَرْتَقُونَ بِسَنَدِهِ إِلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ ، وَمَا أُنْزِلَ السِّحْرُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ، فَكَيْفَ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟ وَقَدْ ضَعَّفُوهُ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْوَاقِعِ أَنَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ، وَقَدْ أَجَازَ هَذَا التَّضْعِيفَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْإِنْزَالِ خَاصَّةً ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ الَّذِي يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْمَلَكَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمَا إِنْزَالًا مِنَ اللَّهِ فَيَنْظِمُهُ
الْيَهُودُ فِي سِلْكِ الْعُلُومِ الْمَحْمُودَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ افْتَجَرَاهُ وَاخْتَرَعَاهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ) أَيْ إِنَّ مَا عِنْدَنَا هُوَ أَمْرٌ يَبْتَلِي بِهِ اللَّهُ النَّاسَ وَيَخْتَبِرُهُمْ فَلَا تَتَعَلَّمْ مَا هُوَ كُفْرٌ ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَّمَاهُ . هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ . وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيُّ : وَمَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَنْصَحَاهُ وَيَقُولَا لَهُ : إِنَّمَا نَحْنُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ ، فَمَنْ تَعَلَّمَ مِنَّا وَعَمِلَ بِهِ كَفَرَ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ وَتَوقَّى عَمَلَهُ ثَبَتَ عَلَى الْإِيْمَانِ ، فَلَا تَكْفُرْ بِاعْتِقَادِ جَوَازِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25589تَعَلُّمَ السِّحْرِ وَمَا لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ ، وَإِنَّمَا الْمَنْعُ مِنِ اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ا هـ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : إِنَّمَا نَحْنُ أُولُو فِتْنَةٍ نَبْلُوكَ وَنَخْتَبِرُكَ أَتَشْكُرُ أَمْ تَكْفُرُ ؟ وَنَنْصَحُ لَكَ أَلَّا تَكْفُرَ . وَلَعَلَّهُمَا يَقُولَانِ هَذَا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى حُسْنِ اعْتِقَادِ النَّاسِ بِفَضْلِهِمَا إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ هُمَا مَلَكَانِ . وَإِنَّنَا نَسْمَعُ الدَّجَاجِلَةَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مِثْلَ هَذَا وَيُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ رُوحَانِيُّونَ ، يَقُولُونَ لِمَنْ يُعَلِّمُونَهُمُ الْكِتَابَةَ لِلْمَحَبَّةِ وَلِلْبُغْضِ : نُوصِيكَ بِأَلَّا تَكْتُبَ هَذَا لِجَلْبِ امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ إِلَى حُبِّ رَجُلٍ غَيْرِ زَوْجِهَا ، وَلَا تَكْتُبَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْ يَبْغَضَ الْآخَرَ ، وَأَنْ تَخُصَّ هَذِهِ الْفَوَائِدَ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَاشِقِينَ الْفَاسِقِينَ ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ عُلُومَهُمْ إِلَهِيَّةٌ ، وَأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ رُوحَانِيَّةٌ ، وَأَنَّهُمْ صَحِيحُو النِّيَّةِ . وَقَدْ كَانَ
الْيَهُودُ يُسْنِدُونَ سِحْرَهُمْ إِلَى مَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ ، وَنَرَى دَجَاجِلَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَغَيْرِهِمْ يُسْنِدُونَ خُزَعْبَلَاتِهِمْ إِلَى "
دَانْيَالَ النَّبِيِّ " ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ : ( وَمَا أُنْزِلَ ) نَفِيٌ بِحَسَبِ تَوْجِيهِنَا السَّابِقِ . وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيُّ : إِنَّ مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ : إِنَّمَا نَحْنُ مَفْتُونُونَ ، فَلَا تَكُنْ مِثْلَنَا .
قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا قَبْلَهَا لِتَصْوِيرِ مَا كَانَ كَأَنَّهُ كَائِنٌ ، فَالْكَلَامُ تَصْوِيرٌ لِلْقِصَّةِ لَا حُكْمٌ بِمَضْمُونِهَا ، أَيْ أَنَّهُمْ
[ ص: 334 ] كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا وُضِعَ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَهُوَ نَحْوُ مَا يُسَمِّيهِ الدَّجَاجِلَةُ الْآنَ " كِتَابَ الْبِغْضَةِ " وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ بِطَبْعِهِ أَوْ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ أَوْ بِخَارِقَةٍ لَا تُعْقَلُ لَهَا عِلَّةٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا يَتَعَلَّمُونَهُ هَلْ هُوَ كِتَابَةُ تَمَائِمَ ، أَوْ تِلَاوَةُ رُقًى وَعَزَائِمَ ، أَوْ أَسَالِيبُ سِعَايَةٍ ، أَوْ دَسَائِسُ تَنْفِيرٍ وَنِكَايَةٍ ، أَوْ تَأْثِيرٌ نَفْسَانِيٌّ ، أَوْ وَسْوَاسٌ شَيْطَانِيٌّ ؟ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ عِلْمًا كَانَ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي الْوَاقِعِ ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَحَكَّمَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِ مَا ذَكَرَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنَا فِي بَيَانِ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ كَمَا قُلْنَاهُ فِي مِثْلِهِ مِرَارًا .
لَمْ يُبَيِّنِ الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ وَلَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى بَحْثِ الْبَشَرِ وَارْتِقَائِهِمْ فِي الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَبَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ السِّحْرِ عَنْهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) أَيْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ غَيْبِيَّةٌ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَبَطَ اللَّهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ ، فَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهَا مَا يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ ، وَفَوْقَ مَا مُنِحُوا مِنَ الْقُوَى وَالْقَدَرِ ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ أُصِيبَ أَحَدٌ بِضَرَرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ، أَيْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَحْصُلَ الْمُسَبِّبَاتُ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ عِنْدَ حُصُولِهَا بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى . وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28662الْحُكْمُ التَّوْحِيدِيُّ هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ ، فَالْقُرْآنُ لَا يُتْرَكُ بَيَانُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بَلْ يُبَيِّنُهُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ ، وَرُبَّمَا تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَجْلِ بَيَانِ الْحَقِّ فِي مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ إِيرَادَ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاقِ الْوَقَائِعِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَعْصَى عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ الْقُوَّةِ الَّتِي وَرَاءَ الْأَسْبَابِ عَنْهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ) ، يَضُرُّهُمْ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ يُعَاقِبُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ عُرِفَ بِإِيذَاءِ النَّاسِ يَمْقُتُهُ النَّاسُ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِ . وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الضَّارِّ مِنْ جِهَةٍ نَافِعًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى - وَرُبَّمَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَكْبَرَ مِنْ إِثْمِهِ - نَفَى الْمَنْفَعَةَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْمَضَرَّةِ . فَهَذَا النَّفْيُ وَاجِبٌ فِي قَانُونِ الْبَلَاغَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - فَإِنَّنَا نَرَى
nindex.php?page=treesubj&link=25583مُنْتَحِلِي السِّحْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَفْقَرَ النَّاسِ وَأَحْقَرَهُمْ ، وَلَوْ عَقَلَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِمْ يَلْتَمِسُونَ الْمَنَافِعَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْإِيقَاعَ بِأَعْدَائِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ الشَّقِيَّ فِي نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهَبَ السَّعَادَةَ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ ، هَذِهِ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=281تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) ( 2 : 281 ) لَا جَرَمَ أَنَّهَا تَكُونُ حَالًا سُوْأَى ،
وَالْيَهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28973وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنِ اخْتَارَ هَذَا وَاسْتَبْدَلَهُ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْحَقِّ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ الْمُوصِلِينَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ حَظَرَتْ تَعْلِيمَ السِّحْرِ ، وَجَعَلَتْهُ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَشَدَّدَتِ الْعُقُوبَةَ
[ ص: 335 ] عَلَى فَاعِلِهِ وَعَلَى اتِّبَاعِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْكُهَّانِ ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْعِلْمُ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) فَإِنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ : عِلْمٌ تَفْصِيلِيٌّ مُتَمَكِّنٌ مِنَ النَّفْسِ مُتَسَلِّطٌ عَلَى إِرَادَتِهَا يُحَرِّكُهَا إِلَى الْعَمَلِ ، وَعِلْمٌ إِجْمَالِيٌّ خَيَالِيٌّ يَلُوحُ فِي الذِّهْنِ مُبْهَمًا عِنْدَمَا يَعْرِضُ مَا يُذَكَّرُ بِهِ كَكِتَابٍ وَإِلْقَاءِ سُؤَالٍ ، وَهُوَ يَقْبَلُ التَّحْرِيفَ وَالتَّأْوِيلَ ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْفَذٌ إِلَى الْإِرَادَةِ وَلَا سَبِيلٌ ، فَقَدْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ السُّحْتِ كَالرِّشْوَةِ وَالرِّبَا بِالتَّأْوِيلِ ، كَمَا يَفْعَلُ غَيْرُهُمُ الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ . وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ حُرْمَةً مَا ذُكِرَ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ جُزْئِيَّاتِ الْمُحَرَّمِ ، وَيَفْقَهُونَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وَسِرَّهُ ، وَيُصَدِّقُونَ بِمَا تَوَعَّدَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ تَصْدِيقًا جَازِمًا ، وَيَتَذَكَّرُونَهُ وَقْتَ الْعَمَلِ - بِمَا لِلْعَقِيدَةِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِرَادَةِ - لَمَا ارْتَكَبُوا مَا ارْتَكَبُوهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُمْ فَقَدُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعِلْمِ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ تَصَوُّرُ أَنَّ السِّحْرَ وَالْخِدَاعَ كِلَاهُمَا حَرَامٌ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ عِبَارَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَحْتَمِلُ ضُرُوبًا مِنَ التَّأْوِيلِ كَكَوْنِ النَّهْيِ خَاصًّا بِمُعَامَلَةِ
شَعْبِ إِسْرَائِيلَ ، وَكَانُوا يَقُولُونَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=75لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ( 3 : 75 ) إِذَا أَكَلْنَا أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ ، وَكَاشْتِرَاطِ الضَّرَرِ فِي السِّحْرِ مَعَ ادِّعَاءِ أَنَّ مَا يَأْتُونَهُ مِنْهُ نَافِعٌ غَيْرُ ضَارٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْحُرُمَاتِ قَدِ انْتُهِكَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ بِمِثْلِ التَّأْوِيلَاتِ حَتَّى
nindex.php?page=treesubj&link=28207_26294جَوَّزَ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ هَدْمَ رُكْنٍ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بِالْحِيلَةِ ، وَهُوَ رُكْنُ الزَّكَاةِ الَّذِي يُحَارَبُ تَارِكُوهُ شَرْعًا ، وَتَرَى هَذِهِ الْحِيَلَ قَدْ أَثَّرَتْ فِي الْأُمَّةِ أَسْوَأَ التَّأْثِيرِ ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا غَنِيٌّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ ، وَلَا يَعْتَقِدُ الْمُتَمَسِّكُ بِالدِّينِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءِ أَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِمَقْتِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ بِحِيلَةٍ يُسَمِّيهَا شَرْعِيَّةً ، وَقَدْ أَخَذَهَا عَمَّنْ يُسَمَّوْنَ فُقَهَاءَ ، وَيَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، ثُمَّ إِنَّ الْحِيَلَ عَلَى التَّزْوِيرِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَهَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ مَجَالٌ وَاسِعٌ وَمَيْدَانٌ فَسِيحٌ ، وَلَهَا أَقْبَحُ التَّأْثِيرِ فِي إِفْسَادِ الْعَامَّةِ وَاسْتِبَاحَتِهِمُ الْمَحْظُورَاتِ ، وَلَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ عَلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالتَّأْوِيلَاتُ الْبَاطِلَةُ الْهَادِمَةُ لِدِينِهِ مَعْدُودَةً مِنْ عِلْمِ الدِّينِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِيهَا مَنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا مِمَّنْ يُعَدُّونَ صَالِحِينَ ، وَمِنْ أَعْجَبِ ذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28207_16209_16215بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّالِحِينَ يَشْهَدُ الزُّورَ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَقَدْ نَقَلَ الثِّقَاتُ أَنَّ طَالِبَ الشَّهَادَةِ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَسْتَمِيلُ قَلْبَهُ الشَّكْوَى مِنَ الظُّلْمِ ، وَإِرَادَةُ الْاسْتِعَانَةِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى دَفْعِ الْمَظْلَمَةِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْأَذَى ، فَيَأْمُرُ الشَّيْخُ بِأَنْ تُطْوَى الْوَرَقَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى قَوْلِ الزُّورِ بِحَيْثُ يُحْجَبُ سَوَادُ الْكِتَابَةِ فَلَا يَرَاهُ وَيَضَعُ تَوْقِيعَهُ وَخَتْمَهُ فِي ذَيْلِهَا كَأَنَّهُ وَضَعَهُمَا عَلَى وَرَقَةٍ خَالِيَةٍ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَالِيَةً مِنَ الْكِتَابَةِ ، وَيَعْرِفُ مَا فِيهَا مِنَ الْكَذِبِ . فَهَلْ نَقُولُ : إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=72وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) ( 25 : 72 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=105إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) ( 16 : 105 ) وَبِمَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا
[ ص: 336 ] مِنْ حَدِيثِ
أَبِي بَكْرَةَ nindex.php?page=hadith&LINKID=918627أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَكَانَ مُتَّكِئًا ( ( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ nindex.php?page=treesubj&link=27530_18028_29437_18989بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ - ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ ) ) . وَبِمَا رَوَيَاهُ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918628آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ) ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِمَا : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918629ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إِنَّهُ مُسْلِمٌ ) ) ، وَذَكَرَهُنَّ .
بَلَى إِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ التَّأْوِيلُ أَفْسَدَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ دِينٍ دِينَهُمْ .
أَقُولُ : أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ إِقْدَامِ هَذَا الْعَالِمِ الْعَابِدِ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَاسْتِحْلَالِهَا بِتِلْكَ الْحِيلَةِ السَّخِيفَةِ ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً أُخْرَى ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ عِنْدَ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فِي الْمُنَافِقِينَ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخِ الْأَزْهَرِ الْمَعْرُوفِينَ كَانَ وَعَدَنِي وَعْدًا وَأَخْلَفَ ، فَسَأَلْتُهُ بِهِ فَقَالَ : إِنَّ فُقَهَاءَنَا الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19489_18085الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَقُلْتُ وَقَدْ تَمَيَّزْتُ مِنَ الْغَيْظِ : إِنَّ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْوَفَاءِ وَفِي الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ ( بَلْ قُلْتُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا ) وَإِنَّنِي أُبَرِّئُ الْأَئِمَّةَ مِنَ الْقَوْلِ بِحِلِّ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ ، وَلَكِنَّنِي أَعْذُرُ الْفُقَهَاءَ إِذَا قَالُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ وَعَدَ بِالْوَفَاءِ وَيُلْزِمَهُ ذَلِكَ إِلْزَامًا ، وَلَا أَعْذُرُ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْوَفَاءَ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُتَدَاوَلَةِ .
وَلَقَدْ صَارَ الْعَالَمُ الْمُسْلِمُ عَاجِزًا فِي أَكْبَرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِنْكَارِ مَا يُخَالِفُ هَدْيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ كُتُبِ الْمَيِّتِينَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اشْتَهَرُوا بِاخْتِيَارِ كُتُبِهِمْ لِلتَّدْرِيسِ ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى نَصْرِ كُتُبِ الْمَيِّتِينَ وَتَرْجِيحِهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ هِيَ أَنَّ الْقَادِرِينَ عَلَى الْاهْتِدَاءِ بِهِمَا قَدِ انْقَرَضُوا ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِمَا ، وَالْاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اسْتَنْبَطُوا مِنْ قَوَاعِدِ أَئِمَّتِهِمْ جَمِيعَ مَسَائِلِ الدِّينِ ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِكُلِّ مَا قَالُوا ، وَأَلَّا نَنْظُرَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا لِلتَّبَرُّكِ بِهِمَا ، فَإِنْ رَأَيْنَا خِلَافًا بَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَوْلِ الْفَقِيهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّهِمَ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا ، وَنُنَزِّهَ فَهْمَ الْفَقِيهِ الْمَيِّتِ وَعَقْلَهُ ، وَنَعْمَلَ بِقَوْلِهِ مُكَابِرِينَ أَنْفُسَنَا الَّتِي سُجِّلَ عَلَيْهَا الْحِرْمَانُ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَالسُّنَّةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي وَصَفَهَا صَاحِبُهَا بِأَنَّ لَيْلَهَا كَنَهَارِهَا أَيْ لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا أَحَدٌ ! ! ! هَذَا مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَبْعُدْ مَنْ قَبْلَهُمْ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ أَشَدَّ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ ، وَسَيَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ حِينٍ ، فَقَدْ أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=47وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) ( 30 : 47 ) .
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=103وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا الْإِيْمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا السِّحْرِ الْخَادِعِ وَاتِّبَاعِ نَزَغَاتِ الشَّيَاطِينِ ، أَوْ لَوْ آمَنُوا بِكِتَابِهِمْ إِيْمَانًا حَقِيقِيًّا - وَمِنْهُ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ وَالْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ - وَاتَّقَوْا بِالْعَمَلِ بِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِهِ
[ ص: 337 ] مَغَبَّةَ مَا يَنْتَظِرُهُ الْمُجْرِمُونَ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ ، لَكَانَ ثَوَابُ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى الْإِيْمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ مَا تَوَهَّمُوهُ فِي الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ . ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=103لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) أَيْ إِنَّهُمْ فِي كُلِّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ ، وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ ، يَتَّبِعُونَ الظُّنُونَ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى التَّقْلِيدِ ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ ، وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمًا صَحِيحًا لَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوهُ فَكَانُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ : أَنَّ
بَابِلَ بَلْدَةٌ قَدِيمَةٌ كَانَتْ فِي سَوَادِ
الْكُوفَةِ ( قَبْلَ
الْكُوفَةِ ) فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ كُتُبِ التَّارِيخِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ نَهْرِ الْفُرَاتِ بَعِيدَةً عَنْهُ ، وَيُقَالُ : إِنَّ أَصْلَ اشْتِقَاقِهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْخَلْطِ ، إِشَارَةً إِلَى مَا يَرْوِيهِ الْعِبْرَانِيُّونَ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَلْسِنَةِ هُنَاكَ .
وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ ، وَلَوْ كَانَا مُشْتَقَّيْنِ مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لَمَا مُنِعَا مِنَ الصَّرْفِ ، وَ ( مِنْ ) فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ) لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ وَتَأَكُّدِهِ ، وَقَدْ شَدَّدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَعَادَتِهِ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ ، وَقَالَ : إِنَّمَا الزَّائِدَةُ مَا يُذْكَرُ لِلتَّحْلِيَةِ وَلَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى مَا وِفَاقًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، وَالْمَثُوبَةُ الثَّوَابُ ، وَ ( لَمَثُوبَةٌ ) خَبَرُ ( لَوْ ) ، قَالَ الْأُسْتَاذُ : أَيْ لَكَانَتْ مَثُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ خَيْرًا .
وَقَدْ قَدَّرُوا لَهَا فِعْلًا فَقَالُوا : الْأَصْلُ لَأُثِيبُوا مَثُوبَةً ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ وَرُكِّبَ الْبَاقِي جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِيَدُلَّ عَلَى ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ ، وَنُكِّرَتْ لِبَيَانِ أَنَّهَا مَهْمَا قَلَّتْ فَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ ، وَأَصْلُهَا الثَّوْبُ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ ، كَأَنَّ الْمُحْسِنَ يَثُوبُ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ .