ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير وقالت
ضمير الفصل في قوله : ( هو المسيح ) يفيد الحصر ، قيل : وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى ، وقيل : لم يقل به أحد منهم ، ولكن استلزم قولهم : ( إن الله هو المسيح ) لا غيره ، وقد تقدم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار .
قوله : قل فمن يملك من الله شيئا الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والملك : الضبط والحفظ والقدرة ، من قولهم : ملكت على فلان أمره ؛ أي : قدرت عليه ؛ أي : فمن يقدر أن يمنع إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا الله ولا رب غيره ولا معبود بحق سواه ، ولو كان المسيح إلها كما تزعم النصارى لكان له من الأمر شيء ، ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقل حال ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها ، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها ، فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها أعجز عن أن يدفع عن غيرها ، وذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته ، وأنه إذا أراد شيئا كان لا معارض له في أمره ولا مشارك له في قضائه ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما أي ما بين النوعين من المخلوقات . قوله : ( يخلق ما يشاء ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته ، وأنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء .
قوله : والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وقالت اليهود أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير حيث قالوا : ( عزير ابن الله ) [ التوبة : 30 ] وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا : ( المسيح ابن الله ) [ التوبة : 30 ] وقيل : هو على حذف مضاف ؛ أي : نحن أتباع أبناء الله ، وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة والأماني العاطلة ، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم ، فقال : قل فلم يعذبكم بذنوبكم أي : إن كنتم كما تزعمون ، فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل والمسخ وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك لقولكم : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب وأنتم تذنبون ، والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون ، فهذا يدل على أنكم كاذبون في هذه الدعوى ، وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف .
قوله : بل أنتم بشر ممن خلق عطف على مقدر يدل عليه الكلام ؛ أي : فلستم حينئذ كذلك بل أنتم بشر ممن خلق أي : من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشر ، ويجازي كل عامل بعمله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما من الموجودات ( وإليه المصير ) أي : تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة ، وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن قال : ابن عباس أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى فأنزل الله فيهم : اليهود والنصارى وقالت إلى آخر الآية .
وأخرج أحمد في مسنده ، عن أنس قال : وإسناده في المسند هكذا : حدثنا مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ، فسعت فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا ، والله لا يلقي حبيبه في النار ، عن ابن أبي عدي حميد ، عن أنس فذكره .
ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث ، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يرد عليه ، فتلا الصوفي هذه الآية . وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا والله لا يعذب الله حبيبه ، ولكن قد يبتليه في الدنيا . وأخرج ، عن ابن جرير في قوله : السدي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء يقول : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه .