قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا بقولهم لأصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقولهم : الملائكة بنات الله ، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره ، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري ، فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم .
فالمعنى على هذا : لا أحد مثلهم في الظلم فضلا عن أن يوجد من هو أظلم منهم ، والإشارة بقوله أولئك إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ ، وهو مبتدأ ، وخبره يعرضون على ربهم فيحاسبهم على أعمالهم ، أو المراد بعرضهم : عرض أعمالهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم الأشهاد : هم الملائكة الحفظة ، وقيل المرسلون .
وقيل الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه ، وقيل جميع الخلائق .
والمعنى : أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض : هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه ولم يصرحوا بما كذبوا به كأنه كان أمرا معلوما عند أهل ذلك الموقف .
ألا لعنة الله على الظالمين هذا من تمام كلام الأشهاد : أي يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ويقولون : [ ص: 653 ] ألا لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء ، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه قاله بعدما قال الأشهاد قوله : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم .
والأشهاد جمع شهيد ، ورجحه أبو علي بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله : ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة 143 ] .
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ النساء 41 ] و جمع شاهد كأصحاب وصاحب ، والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار ، والتقريع لهم على رءوس الأشهاد .
ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم الذين يصدون عن سبيل أي يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه ويبغونها عوجا أي يصفونها بالاعوجاج تنفيرا للناس عنها ، أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر ، يقال بغيتك شرا : أي طلبته لك و الحال أن وهم بالآخرة هم كافرون أي يصفونها بالعوج ، والحال أنهم بالآخرة غير مصدقين فكيف يصدون الناس عن طريق الحق وهم على الباطل البحت ؟ وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به ، حتى كأن كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم .
أولئك الموصوفون بتلك الصفات لم يكونوا معجزين في الأرض أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم وما كان لهم من دون الله من أولياء يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم وإنزال بأسه بهم ، وجملة يضاعف لهم العذاب مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ليكون عذابا مضاعفا .
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب : يضعف ، مشددا ما كانوا يستطيعون السمع أي أفرطوا في إعراضهم عن الحق وبغضهم له ، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار لفرط تعاميهم عن الصواب .
ويجوز أن يراد بقوله : وما كان لهم من دون الله من أولياء أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ولا ينفعهم ذلك ، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعا أو يدفعون عنهم ضررا ، ويجوز أن تكون ما هي المدية .
والمعنى : أنه يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والبصر .
قال الفراء : ما كانوا يستطيعون السمع لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ .
وقال : لبغضهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه . الزجاج
قال النحاس : هذا معروف في كلام العرب ، يقال : فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان : إذا كان ثقيلا عليه .
أولئك المتصفون بتلك الصفات الذين خسروا أنفسهم بعبادة غير الله .
والمعنى : اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران وضل عنهم ما كانوا يفترون أي ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم ولم يبق بأيديهم إلا الخسران .
قوله : لا جرم قال الخليل : لا جرم بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة ، وبه قال وسيبويه الفراء .
وروي عن الخليل أنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا . والفراء
وقال : إن جرم بمعنى كسب : أي كسب - ذلك الفعل - لهم الخسران ، وفاعل كسب مضمر ، وأن منصوبة بجرم . الزجاج
قال الأزهري : وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة .
وقال : معنى لا جرم : لا صد ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون . الكسائي
وقال جماعة من النحويين : إن معنى لا جرم لا قطع قاطع أنهم في الآخرة هم الأخسرون قالوا : والجرم القطع ، وقد جرم النخل واجترمه : أي قطعه ، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حد يتقاصر عنه غيرهم ولا يبلغ إليه ، وهذه الآيات مقررة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ، وبين من كان على بينة من ربه .
إن الذين آمنوا أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله وغير ذلك من خصال الإيمان وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أي أنابوا إليه ، وقيل خشعوا ، وقيل خضعوا ، قيل : وأصل الإخبات الاستواء في الخبت : وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان .
قال الفراء : إلى ربهم ، ولربهم واحد أولئك الموصوفون بتلك الصفات الصالحة أصحاب الجنة هم فيها خالدون .
مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ضرب للفريقين مثلا وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصم ، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع ، على أن كل فريق شبه بشيئين ، أو شبه بمن جمع بين الشيئين ، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم ، والمؤمن شبه بمن جمع بين السمع والبصر ، وعلى هذا تكون الواو في والأصم ، وفي والسميع لعطف الصفة على الصفة ، كما في قول الشاعر : قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
والاستفهام في قوله : هل يستويان للإنكار : يعني الفريقين ، وهذه الجملة مقررة لما تقدم من قوله : أفمن كان على بينة من ربه وانتصاب مثلا على التمييز من فاعل يستويان : أي هل يستويان حالا وصفة أفلا تذكرون في عدم استوائهما وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي يخفى على من له تذكر ، وعنده تفكر وتأمل ، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين .وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن في قوله : ومن أظلم قال : الكافر والمنافق ابن جريج أولئك يعرضون على ربهم فيسألهم عن أعمالهم ويقول الأشهاد الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم شهدوا به عليهم يوم القيامة .
وأخرج عن ابن جرير مجاهد قال : الأشهاد الملائكة .
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة نحوه .
وفي الصحيحين وغيرهما عن : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ابن عمر
وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين . إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ، ويقول له : [ ص: 654 ] أتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : رب أعرف ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن في السدي الذين يصدون عن سبيل الله قال : هو قوله : محمد يعني سبيل الله ، صدت قريش عنه الناس .
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي مالك في قوله : ويبغونها عوجا يعني يرجون بمكة غير الإسلام دينا .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن في ابن عباس أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض الآية قال : أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنه قال : قوله : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون وأما في الآخرة فإنه قال : فلا يستطيعون خاشعة [ القلم 42 ] 43 وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : ما كانوا يستطيعون السمع قال : ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرا فينتفعوا به ، ولا يبصروا خيرا فيأخذوا به .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن في قوله : أخبتوا قال : خافوا . ابن عباس
وأخرج عنه قال : الإخبات الإنابة . ابن جرير
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ قال : الإخبات : الخشوع والتواضع .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : اطمأنوا .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن في قوله : ابن عباس مثل الفريقين كالأعمى والأصم قال : الكافر : والبصير والسميع قال : المؤمن .