الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين .

                                                                                                                                                                                                                                      معنى : ونادى نوح ربه دعاه ، والمراد أراد دعاءه بدليل الفاء في فقال رب إن ابني من أهلي وعطف الشيء على نفسه غير سائغ ، فلا بد من التقدير المذكور ، ومعنى قوله : إن ابني من أهلي أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك : وأهلك .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله : وأهلك وهو المستثنى منه ، وترك ما يفيده الاستثناء ، وهو إلا من سبق عليه القول ؟ فيجاب : بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول ، فإنه كان يظنه من المؤمنين وإن وعدك الحق الذي لا خلف فيه ، وهذا منه وأنت أحكم الحاكمين أي أتقن المتقنين لما يكون به الحكم ، فلا يتطرق إلى حكمك نقض ، وقيل : أراد بأحكم الحاكمين أعلمهم وأعدلهم : أي أنت أكثر علما وعدلا من ذوي الحكم ، وقيل : إن الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل ، وأنه خارج بقيد الاستثناء ف قال يانوح إنه ليس من أهلك الذين آمنوا بك وتابعوك وإن كان من أهلك باعتبار القرابة ، ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين لا قرابة النسب وحده فقال : إنه عمل غير صالح .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ( عمل ) على لفظ المصدر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس وعكرمة والكسائي ويعقوب ( عمل ) على لفظ الفعل ، ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه كأنه جعل نفس العمل ، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل ، كذا قال الزجاج وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى القراءة الثانية ظاهر : أي إنه عمل عملا غير صالح ، وهو كفره وتركه لمتابعة أبيه ، ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ، فقال : فلا تسألن ما ليس لك به علم لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله فرع على ذلك النهي عن السؤال ، وهو وإن كان نهيا عاما بحيث يشمل كل سؤال لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب ، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولا أوليا ، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع ، وسمي دعاءه سؤالا لتضمنه معنى السؤال إني أعظك أن تكون من الجاهلين أي أحذرك أن تكون من الجاهلين كقوله : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا [ النور : 17 ] وقيل المعنى : أرفعك أن تكون من الجاهلين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن العربي : وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع ، وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه بادر إلى الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة والرحمة ، ف قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم أي أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه ، وإلا تغفر لي ذنب ما دعوت به على غير علم مني وترحمني برحمتك التي وسعت كل شيء فتقبل توبتي أكن من الخاسرين في أعمالي فلا أربح فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      القائل هو الله ، أو الملائكة قيل يانوح اهبط أي انزل من السفينة إلى الأرض ، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض فقد بلعت الأرض ماءها وجفت بسلام منا أي بسلامة وأمن ، وقيل : بتحية وبركات أي نعم ثابتة ، مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها ، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته وعلى أمم ممن معك [ ص: 661 ] أي ناشئة ممن معك ، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة ، وقيل : أراد من في السفينة ، فإنهم أمم مختلفة وأنواع من الحيوانات متباينة .

                                                                                                                                                                                                                                      قيل : أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمنا من ذريتهم ، وأراد بقوله : وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم من صار كافرا من ذريتهم إلى يوم القيامة ، وارتفاع ( أمم ) في قوله : وأمم سنمتعهم على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي ومنهم أمم ، وقيل على تقدير : ويكون أمم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأخفش : هو كما تقول : كلمت زيدا وعمرو جالس ، وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما سنمتعهم : أي ونمتع أمما ، ومعنى الآية : وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع ، ونعطيهم منها ما يعيشون به ، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم ، وقيل : يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة بقوله : تلك إلى قصة نوح ، وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار من أنباء الغيب من جنس أنباء الغيب ، والأنباء جمع نبأ وهو الخبر : أي من أخبار الغيب التي مرت بك في هذه السورة ، والضمير في نوحيها إليك راجع إلى القصة ، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة ما كنت يا محمد تعلمها أنت ولا يعلمها قومك بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي ، أو من قبل هذا الوقت فاصبر على ما تلاقيه من كفار زمانك ، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها إن العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة للمتقين لله ، المؤمنين بما جاءت به رسله ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ، ولا اعتبار بمباديه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : نادى نوح ربه فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي ، وإن ابني من أهلي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن عباس قال : ما بغت امرأة نبي قط ، وقوله : إنه ليس من أهلك يقول : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : إن نساء الأنبياء لا يزنين ، وكان يقرؤها إنه عمل غير صالح يقول : مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : فلا تسألني ما ليس لك به علم قال : بين الله لنوح أنه ليس بابنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : يانوح اهبط بسلام منا قال : أهبطوا والله عنهم راض .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال : دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الضحاك وعلى أمم ممن معك يعني ممن لم يولد ، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة وأمم سنمتعهم يعني متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم منا عذاب أليم لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ قال : ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك يعني العرب من قبل هذا القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية