الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم لما فرغ - سبحانه - من قصة موسى في قصة داود وابنه سليمان ، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان والتقرير لقوله : وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم [ النمل : 6 ] ، والتنوين في علما إما للنوع أي : طائفة من العلم ، أو للتعظيم أي : علما كثيرا ، فالواو في قوله : وقالا الحمد لله للعطف على محذوف ، لأن هذا المقام مقام الفاء ، فالتقدير : ولقد آتيناهما علما فعملا به وقالا الحمد لله ، ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقا بعمل القلب ، وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين أي : فضلنا بالعلم والنبوة وتسخير الطير والجن والإنس ولم يفضلوا أنفسهم على الكل تواضعا منهم .
وفي الآية دليل على وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من العباد ، ومنح شرفا جليلا . شرف العلم وارتفاع محله ،
وورث سليمان داود أي : ورث العلم والنبوة .
قال قتادة والكلبي : كان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا فورث سليمان من بينهم نبوته ، ولو كان المراد وراثة المال لم يخص سليمان بالذكر ; لأن جميع أولاده في ذلك سواء ، وكذا قال جمهور المفسرين ، فهذه الوراثة هي وراثة مجازية كما في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم : العلماء ورثة الأنبياء وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير قال سليمان هذه المقالة مخاطبا للناس تحدثا بما أنعم الله به عليه ، وشكر النعمة التي خصه بها ، وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره .
قال الفراء : منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل ، وأنشد قول حميد بن ثور :
عجيب لها أن يكون غناؤها فصيحا ولم يغفر بمنطقها فما
ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير .
قال جماعة من المفسرين : إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس .
وقال قتادة : إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير ، وكثيرا ما تخرج لها أجنحة فتطير ، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه ، ومعنى والشعبي وأوتينا من كل شيء كل شيء تدعو إليه الحاجة كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وكل ما بين السماء والأرض .
وجاء سليمان بنون العظمة ، والمراد نفسه بيانا لحاله من كونه مطاعا لا يخالف ، لا تكبرا وتعظيما لنفسه ، والإشارة بقوله : إن هذا إلى ما تقدم ذكره من التعليم والإيتاء لهو الفضل المبين أي : الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد ، أو المظهر لفضيلتنا .
[ ص: 1075 ] وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير الحشر الجمع أي : جمع له جنوده من هذه الأجناس .
وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصح من جهة النقل ، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر فهم يوزعون أي : لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم ، يقال : وزعه يزعه وزعا : كفه ، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم أي : يرده ، ومنه قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
وقول الآخر :
ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع
وقول الآخر :
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل : من التوزيع بمعنى التفريق ، يقال : القوم أوزاع أي : طوائف .
حتى إذا أتوا على وادي النمل ( حتى ) هي التي يبدأ بعدها الكلام ، ويكون غاية لما قبلها ، والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل أي : فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ ، وعلى واد النمل متعلق بـ أتوا ، وعدي بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون .
والمعنى : أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره ، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعا للرسم ، حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله : الذين جابوا الصخر بالوادي [ الفجر : 9 ] إلا فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل . الكسائي
قال كعب : واد النمل بالطائف ، وقال قتادة ومقاتل : هو بالشام .
قالت نملة هذا جواب إذا ، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة : ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب ، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها .
قيل : وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها .
ورد هذا أبو حيان فقال : لحاق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنثة ، بل يصح أن يقال : في المذكر قالت ، لأنها نملة ، وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه ، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ولا بالتعرض لاسم النملة ولما ذكر من القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة .
وقرأ الحسن وطلحة " ومعمر بن سليمان نملة " و " النمل " بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة .
وقرأ بضمتين فيهما . سليمان التيمي
لا يحطمنكم سليمان وجنوده الحطم الكسر ، يقال : حطمته حطما أي : كسرته كسرا ، وتحطم تكسر ، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل ، وفي الحقيقة لسليمان ، فهو من باب : لا أرينك هاهنا ، ويجوز أن يكون بدلا من الأمر ، ويحتمل أن يكون جوابا للأمر .
قال أبو حيان : أما تخريجه على جواب الأمر فلا يكون إلا على قراءة فإنه قرأ " لا يحطمكم " بالجزم بدون نون التوكيد ، وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا في الشعر . الأعمش ،
قال : وهو قليل في الشعر ، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما . سيبويه
وقرأ أبي " ادخلوا مساكنكن " وقرأ " مسكنكم " وقرأ شهر بن حوشب الحسن وأبو رجاء و قتادة " لا يحطمنكم بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء ، وقرأ وعيسى الهمداني ابن إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد ، وجملة وهم لا يشعرون في محل نصب على الحال من فاعل يحطمنكم أي : لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم ، وقيل : إن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها ، وهو بعيد .
فتبسم ضاحكا من قولها قرأ ابن السميفع " ضحكا " وعلى قراءة الجمهور يكون " ضاحكا " حالا مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم ، وقيل : هي حال مقدرة لأن التبسم أول الضحك ، وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبينا له ، وقيل : إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير ، وعلى قراءة ابن السميفع يكون " ضحكا " مصدرا منصوبا بفعل محذوف أو في موضع الحال ، وكان ضحك سليمان تعجبا من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل .
وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي قد تقدم بيان معنى أوزعني قريبا في قوله فهم يوزعون [ النمل : 17 ، فصلت : 19 ] قال في الكشاف : وحقيقة أوزعني : اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك . انتهى .
قال الواحدي : ( أوزعني ) أي : ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ، يقال : فلان موزع بكذا أي : مولع به . انتهى .
قال القرطبي : وأصله من وزع ، فكأنه قال : كفني عما يسخطك انتهى .
والمفعول الثاني لأوزعني هو : أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي .
وقال : إن معنى أوزعني : امنعني أن أكفر نعمتك ، وهو تفسير باللازم ، ومعنى الزجاج وعلى والدي الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه ، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه ، وذلك يستوجب الشكر منه لله - سبحانه - ، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها ، ولا سيما النعم الدينية ، فقال : صالحا ترضاه وأن أعمل أي : عملا صالحا ترضاه مني ، ثم دعا أن يجعله الله - سبحانه - في الآخرة داخلا في زمرة الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها ، فقال : الصالحين وأدخلني برحمتك في عبادك والمعنى : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي في أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين وهي الجنة ، اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبي الكريم فتقبل ذلك مني وتفضل علي به ، فإني وإن كنت مقصرا في العمل ففضلك هو سبب الفوز بالخير ، فهذه الآية منادية بأعلى صوت وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين [ ص: 1076 ] بالتفضل منك لا بالعمل منهم ، كما قال رسولك الصادق فيما ثبت عنه في الصحيح فإذا لم يكن إلا تفضلك الواسع فترك طلبه منك عجز ، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع . سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته
ثم شرع - سبحانه - في ذكر قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان ، وذلك بدلالة الهدهد ، فقال : وتفقد الطير التفقد تطلب ما غاب عنك ، وتعرف أحواله ، والطير اسم جنس لكل ما يطير ، والمعنى : أنه تطلب ما فقد من الطير وتعرف حال ما غاب منها ، وكانت الطير تصحبه في سفره ، وتظله بأجنحتها فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين أي : ما للهدهد لا أراه ؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيرا ، وقيل : لا حاجة إلى ادعاء القلب ، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد ، كأنه قال .
مالي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عني ، أو لشيء آخر ؟ ثم ظهر له أنه غائب فقال : أم كان من الغائبين ، و ( أم ) هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام و أيوب " ما لي " بفتح الياء ، وكذلك قرؤوا في يس وما لي لا أعبد الذي فطرني [ يس : 22 ] بفتح الياء ، وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ويعقوب ، وقرأ الباقون بفتح التي في ( يس ) وإسكان التي هنا .
قال أبو عمرو : لأن هذه التي هنا استفهام ، والتي في ( يس ) نفي ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان .
لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه .
اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو ؟ فقال مجاهد : هو أن ينتف ريشه جميعا . وقال وابن جريج يزيد بن رومان : هو أن ينتف ريش جناحيه ، وقيل : هو أن يحبسه مع أضداده ، وقيل : أن يمنعه من خدمته ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد .
وقوله : عذابا اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كقوله : أنبتكم من الأرض نباتا [ نوح : 17 ] ، أو ليأتيني بسلطان مبين قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشددة بعدها نون الوقاية ، وقرأ الباقون بنون مشددة فقط ، وهي نون التوكيد ، وقرأ عيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصولة بالياء ، والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته .
فمكث غير بعيد أي : الهدهد مكث زمانا غير بعيد .
قرأ الجمهور " مكث " بضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها ، ومعناه في القراءتين : أقام زمانا غير بعيد .
قال : مكث يمكث مكوثا كقعد يقعد قعودا . سيبويه
وقيل : إن الضمير في مكث لسليمان .
والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانا غير طويل ، والأول أولى .
فقال أحطت بما لم تحط به أي : علمت ما لم تعلمه من الأمر ، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته ، ولعل في الكلام حذفا ، والتقدير : فمكث الهدهد غير بعيد فجاء فعوتب على مغيبه ، فقال معتذرا عن ذلك أحطت بما لم تحط به .
قال الفراء : ويجوز إدغام التاء في الطاء ، فيقال : أحط ، وإدغام الطاء في التاء فيقال : أحت وجئتك من سبإ بنبإ يقين قرأ الجمهور من سبإ بالصرف على أنه اسم رجل ، نسب إليه قوم ، ومنه قول الشاعر :
الواردون وتيم في ذرى سبأ قد غض أعناقهم جلد الجواميس
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة ، وأنكر أن يكون اسم رجل وقال : الزجاج سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينهما وبين صنعاء ثلاثة أيام .
وقيل : هو اسم امرأة سميت بها المدينة .
قال القرطبي : والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي . قال ابن عطية : وخفي هذا على فخبط خبط عشواء . وزعم الزجاج الفراء أن الرؤاسي سأل عن أبا عمرو بن العلاء سبأ فقال : ما أدري ما هو ؟ قال النحاس : وأبو عمرو أجل من أن يقول هذا ، قال : والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي ، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود ، إلا أن الاختيار عند الصرف . انتهى . سيبويه
وأقول : لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس ، وهو أيضا اسم رجل من قحطان ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود ، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ مما وصفه وسيأتي في آخر هذا البحث من المأثور ما يوضح هذا ويؤيده ، ومعنى الآية أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين ، والنبأ هو الخبر الخطير الشأن ، فلما قال الهدهد لسليمان ما قال ، قال له سليمان : وما ذاك ؟ . فقال : إني وجدت امرأة تملكهم وهي بلقيس بنت شرحبيل ، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ ، والجملة هذه كالبيان ، والتفسير للجملة التي قبلها أي : ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء وأوتيت من كل شيء فيه مبالغة ، والمراد أنها أوتيت من كل شيء من الأشياء التي تحتاجها ، وقيل : المعنى : أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا ، فحذف شيئا لأن الكلام قد دل عليه ولها عرش عظيم أي : سرير عظيم ، ووصفه بالعظم لأنه كما قيل : كان من ذهب طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعا مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر . وقيل : المراد بالعرش هنا الملك ، والأول أولى لقوله : أيكم يأتيني بعرشها قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك [ ص: 1077 ] عظيم وسرير عظيم ، وكانت كافرة من قوم كفار .
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله أي : يعبدونها متجاوزين عبادة الله - سبحانه ، قيل : كانوا مجوسا ، وقيل : زنادقة وزين لهم الشيطان أعمالهم التي يعملونها ، وهي عبادة الشمس وسائر أعمال الكفر فصدهم عن السبيل أي : صدهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح ، وهو الإيمان بالله وتوحيده فهم لا يهتدون إلى ذلك .
ألا يسجدوا قرأ الجمهور بتشديد " ألا " .
قال : الوقف على " ابن الأنباري فهم لا يهتدون " غير تام عند من شدد ( ألا ) ، لأن المعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا .
قال النحاس : هي ( أن ) دخلت عليها ( لا ) ، وهي في موضع نصب .
قال الأخفش أي : زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله .
وقال : هي في موضع نصب بـ " صدهم " أي : فصدهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا ، فهو على الوجهين مفعول له . الكسائي
وقال اليزيدي : إنه بدل من " أعمالهم " في موضع نصب .
وقال أبو عمرو : في موضع خفض على البدل من السبيل .
وقيل : العامل فيها لا يهتدون أي : فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله ، وتكون لا على هذا زائدة كقوله : ما منعك ألا تسجد [ الأعراف : 12 ] وعلى قراءة الجمهور ليست هذه الآية موضع سجدة ، لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود إما بالتزيين ، أو بالصد ، أو بمنع الاهتداء ، وقد رجح كونه علة للصد ورجح الزجاج ، الفراء كونه علة لزين ، قال : زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا ، ثم حذفت اللام .
وقرأ الزهري بتخفيف " ألا " . والكسائي
قال : ما كنت أسمع الأشياخ يقرءونها إلا بالتخفيف على نية الأمر ، فتكون " ألا " على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء ، و ( اسجدوا ) فعل أمر ، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا ، ولكن الصحابة - رضي الله عنهم - أسقطوا الألف من يا ، وهمزة الوصل من ( اسجدوا ) خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا ، فصارت صورة الخط ( ألا يسجدوا ) ، والمنادى محذوف ، وتقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، وقد حذفت العرب المنادى كثيرا في كلامها ، ومنه قول الشاعر : الكسائي
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقول الآخر :
ألا يا اسلمي ثمت اسلمي ثمت اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر أيضا :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر
وهو كثير في أشعارهم .
قال : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد ، واختار الزجاج أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد . قال : ولقراءة التخفيف وجه حسن إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم . الزجاج
والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه ، وكذا قال النحاس ، وعلى هذه القراءة تكون جملة ألا يسجدوا معترضة من كلام الهدهد ، أو من كلام سليمان ، أو من كلام الله - سبحانه - .
وفي هذه قراءة " هل لا تسجدوا " بالفوقية ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود أبي " ألا تسجدوا " بالفوقية أيضا .
الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض أي : يظهر ما هو مخبوء ومخفي فيهما ، يقال : خبأت الشيء أخبؤه خبأ ، والخبء ما خبأته .
قال : جاء في التفسير أن الخبء هاهنا بمعنى القطر من السماء والنبات من الأرض . الزجاج
وقيل : خبء الأرض كنوزها ونباتها .
وقال قتادة : الخبء السر . قال النحاس : أي ما غاب في السماوات والأرض . وقرأ أبي ، وعيسى بن عمر " الخب " بفتح الباء من غير همز تخفيفا ، وقرأ عبد الله وعكرمة " الخبا " بالألف قال ومالك بن دينار أبو حاتم : وهذا لا يجوز في العربية .
ورد عليه بأن حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن . وفي قراءة سيبويه عبد الله " يخرج الخب من السماوات والأرض " .
قال الفراء : و ( من ) و ( في ) يتعاقبان ، والموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتا لله - سبحانه - أو بدلا منه ، أو بيانا له .
ويجوز أن تكون في محل نصب على المدح ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وجملة ويعلم ما تخفون وما تعلنون معطوفة على ( يخرج ) ، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين ، وقرأ الجحدري ، وعيسى بن عمر و حفص بالفوقية للخطاب ، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة ، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة والكسائي الزهري فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك ، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب . والكسائي
والمعنى : أن الله - سبحانه - يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السماوات والأرض ، ثم بعد ما وصف الرب - سبحانه - بما تقدم مما يدل على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده وتخصيصه بالعبادة ، قال : الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قرأ الجمهور ( العظيم ) بالجر نعتا للعرش ، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتا للرب ، وخص العرش بالذكر ; لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنه كتب : إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل قال الله - عز وجل : عمر بن عبد العزيز ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وأي نعمة أفضل مما أعطي داود وسليمان .
أقول : ليس في الآية ما يدل على ما فهمه - رحمه الله - والذي تدل عليه أنهما حمدا الله - سبحانه - على ما فضلهما به من النعم ، فمن أين تدل على أن حمده أفضل من نعمته .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، قتادة في قوله : وورث سليمان داود قال : ورثه نبوته وملكه وعلمه .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد ، عن وابن أبي حاتم ، أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود [ ص: 1078 ] يستسقي بالناس ، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك ، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا ، فقال سليمان للناس : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم .
وأخرج الحاكم في المستدرك عن قال : أعطي جعفر بن محمد سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي كل شيء ، ومنطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة ، حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحي إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه ، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلا أنبياء بلا رسالة .
قال الذهبي : هذا باطل ، وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها ، فالإمساك عن ذكرها أولى .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، في قوله : ابن عباس فهم يوزعون قال يدفعون .
وأخرج عنه في قوله : ابن جرير فهم يوزعون قال : جعل لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا تتقدمه في السير كما تصنع الملوك .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، قتادة في قوله : أوزعني قال : ألهمني .
وأخرج عن عبد بن حميد الحسن مثله .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن أنه سئل كيف تفقد ابن عباس سليمان الهدهد من بين الطير ؟ قال : إن سليمان نزل منزلا فلم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد يدل سليمان على الماء ، فأراد أن يسأله عنه ففقده ، قيل : كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده ؟ فقال : إذا جاء القضاء ذهب البصر .
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن في قوله : ابن عباس لأعذبنه عذابا شديدا قال : أنتف ريشه كله ، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين ، وروى عن ابن أبي حاتم الحسن قال : كان اسم هدهد سليمان غبر .
وأقول : من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله ، وهكذا ما رواه عنه : أن اسم النملة حرس ، وأنها من قبيلة يقال : لها بنو الشيطان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذئب ، وهو - رحمه الله - أورع الناس عن نقل الكذب ، ونحن نعلم أنه لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك شيء ، ونعلم أنه ليس ابن عساكر للحسن إسناد متصل بسليمان أو بأحد من أصحابه ، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب ، وقد أمرنا " ، فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روي : أن لا نصدقهم ولا نكذبهم " فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله - سبحانه - بلا شك ، بل فيما عنهم من القصص الواقعة لهم . حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج
وقد كررنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، في قوله : ابن عباس أو ليأتيني بسلطان مبين قال : خبر الحق الصدق البين .
وأخرج عبد بن حميد ، عن وابن جرير عكرمة قال : قال كل سلطان في القرآن حجة وذكر هذه الآية ، ثم قال : وأي سلطان كان للهدهد ؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك . ابن عباس
عنه في قوله : وأخرج ابن أبي حاتم أحطت بما لم تحط به قال : اطلعت على ما لم تطلع عليه .
وأخرج ابن المنذر ، عنه أيضا وابن أبي حاتم ، وجئتك من سبإ قال : سبأ بأرض اليمن ، يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال بنبإ يقين قال : بخبر حق .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عنه أيضا إني وجدت امرأة تملكهم قال : كان اسمها بلقيس بنت ذي شيرة ، وكانت صلباء شعراء .
وروي عن الحسن و قتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل ، وعن بنت ذي شرح . ابن جريج
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن وابن عساكر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : أبي هريرة إحدى أبوي بلقيس كان جنيا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن في قوله : ابن عباس ولها عرش عظيم قال : سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عنه في قوله : وابن أبي حاتم ، يخرج الخبء قال : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض .