لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته ، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه ، وجليل قدرته وتفرده بالخلق ، قد وجد . في الناس من يتخذ معه سبحانه ندا يعبده من الأصنام
وقد تقدم تفسير الأنداد ، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد ، بل أحبوها حبا عظيما وأفرطوا في ذلك إفراطا بالغا ، حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكنا في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه ، فالمصدر في قوله : كحب الله مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف وهو المؤمنون .
ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله ، أي عبدة الأوثان قاله ابن كيسان . والزجاج
ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول ، أي كما يحب الله .
والأول أولى لقوله : والذين آمنوا أشد حبا لله فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي ، أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد ، لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء ، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك ، بل يشركون الله معهم ، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله ، ويمكن أن يجعل هذا : أعني قوله : والذين آمنوا أشد حبا لله دليلا على الثاني ، لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حبا لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين لله ، وقيل : المراد بالأنداد هنا الرؤساء ، أي يطيعونهم في معاصي الله ، ويقوي هذا الضمير في قولهم : يحبونهم فإنه لمن يعقل ، ويقويه أيضا قوله سبحانه عقب ذلك : إذ تبرأ الذين اتبعوا الآية .
قوله : ولو يرى الذين ظلموا قراءة أهل مكة والكوفة وأبي عمرو بالياء التحتية ، وهو اختيار أبي عبيد .
وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية ، والمعنى على القراءة الأولى : لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا . قاله أبو عبيد .
قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . انتهى .
وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية .
وروي عن أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به محمد بن يزيد المبرد أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه [ ص: 108 ] بالجيدة ، لأنه يقدر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ، فكأنه يجعله مشكوكا فيه ، وقد أوجبه الله تعالى ، ولكن التقدير وهو الأحسن : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله ، ويرى بمعنى يعلم ، أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه .
قال : وجواب ( لو ) محذوف ، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله : ولو ترى إذ وقفوا على النار ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ومن قرأ بالفوقية فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولكن خوطب بهذا الخطاب ، والمراد به أمته ، وقيل : أن في موضع نصب مفعول لأجله ، أي لأن القوة لله ، كما قال الشاعر :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
أي لادخاره ، والمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب ، لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال . ودخلت " إذ " وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه .وقرأ ابن عامر " إذ يرون " بضم الياء ، والباقون بفتحها .
وقرأ الحسن ويعقوب وأبو جعفر " إن القوة " و " إن الله " بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف ، وعلى تقدير القول .
قوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا بدل من قوله : إذ يرون العذاب ومعناه : أن السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر .
وقوله : ورأوا العذاب في محل نصب على الحال : يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : عند المعاينة في الدنيا ، وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة .
ويمكن أن يقال فيهما جميعا إذ لا مانع من ذلك .
قوله : وتقطعت بهم الأسباب هي جمع سبب ، وأصله في اللغة : الحبل الذي يشد به الشيء ويجذب به ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا ، والمراد بها : الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحم وغيره ، وقيل : هي الأعمال .
والكرة : الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ، و " لو " هنا في معنى التمني كأنه قيل : ليت لنا كرة ، ولهذا وقعت الفاء في الجواب .
والمعنى : أن الأتباع قالوا : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا .
والكاف في قوله : كما تبرءوا منا في محل نصب على النعت لمصدر محذوف ، وقيل : في محل نصب على الحال ، ولا أراه صحيحا .
وقوله : كذلك يريهم الله في موضع رفع : أي الأمر كذلك ، أي كما أراهم الله العذاب يريهم أعمالهم ، وهذه الرؤية إن كانت بصرية فقوله : حسرات منتصب على الحال ، وإن كانت القلبية فهو المفعول الثالث ، والمعنى : أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات ، أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها فيكون ذلك حسرة عليهم .
وقوله : وما هم بخارجين من النار فيه دليل على ، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص ، وجعله خلود الكفار في النار للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب ، والبحث في هذا يطول . الزمخشري
وقد أخرج عبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد في قوله : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا قال : مباهاة ومضاررة للحق بالأنداد والذين آمنوا أشد حبا لله قال : من الكفار لآلهتهم .
وأخرج عن ابن جرير أبي زيد في هذه الآية قال : هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم لآلهتهم .
وأخرج عن ابن جرير في الآية قال : الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله . السدي
وأخرج عن عبد بن حميد عكرمة نحو ما قال ابن زيد .
وأخرج عن ابن جرير الزبيري في قوله : ولو يرى الذين ظلموا قال : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم فاتخذوا من دوني أندادا يحبونهم كحبكم إياي حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم ، لعلمتم أن القوة كلها لي دون الأنداد ، والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئا ولا تدفع عنهم عذابا أحللت بهم ، وأيقنتهم أني شديد عذابي لمن كفر بي وادعى معي إلها غيري .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة في قوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا قال : هم الجبابرة والقادة والرءوس في الشرك من الذين اتبعوا قال : هم الشياطين تبرءوا من الإنس .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وتقطعت بهم الأسباب قال : المودة .
وأخرج ابن جرير عنه قال : هي المنازل . وابن أبي حاتم
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : هي الأرحام .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال : هي الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا والمودة .
وأخرج عن عبد بن حميد أبي صالح قال : هي الأعمال .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير الربيع قال : هي المنازل .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة في قوله : لو أن لنا كرة قال : رجعة إلى الدنيا .
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي العالية في قوله : حسرات قال : صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة .
وأخرج عن ابن أبي حاتم عكرمة في قوله : وما هم بخارجين من النار قال : أولئك أهلها الذين هم أهلها .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ثابت بن معبد قال : ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت وما هم بخارجين من النار .