الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
517 [ ص: 158 ] حديث ثامن لجعفر بن محمد مرسل

مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل في قميص .

التالي السابق


هكذا رواه سائر رواة الموطأ مرسلا ، إلا سعيد بن عفير فإنه جعله ، عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن عائشة ، فإن صحت روايته فهو متصل . والحكم عندي فيه أنه مرسل عند مالك لرواية الجماعة له ، عن مالك كذلك ، إلا أنه حديث مشهور عند أهل السير والمغازي وسائر العلماء ، وقد روي مسندا من حديث عائشة من وجه صحيح والحمد لله .

ورواه الوحاظي ، عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر أن النبي عليه السلام غسل في قميص ، وكذلك رواه الباغندي ، عن إسحاق بن عيسى الطباع عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر إلا أنه خولف الباغندي في ذلك ، عن إسحاق .

فأما الموطأ فهو فيه مرسل ، إلا في رواية سعيد بن عفير فإنه رواه في الموطأ ، عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن عائشة ، وهو صحيح عن عائشة من رواية غير مالك .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : [ ص: 159 ] حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة . هكذا قال .

وأخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق قال : حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال : سمعت عائشة تقول : لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه ، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت ، لا يدرون من هو : أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه ، فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه ، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه [ ص: 160 ] بالقميص دون أيديهم . وكانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرته ما غسله إلا نساؤه .

قال أبو عمر : السنة في الحي والميت تحريم النظر إلى عورتهما وحرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا في ذلك ، ولا يجوز لأحد أن يغسل ميتا ، إلا وعليه ما يستره ، فإن غسل في قميصه فحسن ، وإن ستر وجرد عنه قميصه وسجي بثوب غطي به رأسه وسائر جسمه إلى أطراف قدميه فحسن ، وإلا فأقل ما يلزم من ستره أن تستر عورته .

ويستحب العلماء أن يستر وجهه بخرقة وعورته بأخرى ; لأن الميت ربما تغير وجهه عند الموت لعلة أو دم ، وأهل الجهل ينكرون ذلك ويتحدثون به .

وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال : من غسل ميتا ، ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه .

وروي : الناظر من الرجال إلى فروج الرجال كالناظر منهم إلى فروج النساء والناظر والمنكشف ملعون .

وقال ابن سيرين : يستر من الميت ما يستر من الحي .

وقال إبراهيم : كانوا يكرهون أن يغسل الميت ، وما بينه وبين السماء فضاء حتى يكون بينه وبينها سترة .

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا عمر بن محمد الجمحي ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا [ ص: 161 ] إبراهيم بن زياد سبلان قال : حدثنا محمد بن الفضل عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث أن عليا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميصه ، وعلى يد علي خرقة .

قال أبو عمر : هذا مستحسن عند جماعة العلماء أن يأخذ الغاسل خرقة فيلفها على يده إذا أراد غسل فرج الميت لئلا يباشر فرجه بيده ، بل يدخل يده ملفوفة بالخرقة تحت الثوب الذي يستر عورته قميصا كان ، أو غيره ، فيغسل فرجه ويأمر من يوالي بالصب عليه حتى ينفى ما هنالك من قبل ودبر ، وعلى ما وصفنا من العمل في غسل الميت في باب أيوب وإن لم يلف على يده خرقة ودلكه بالقميص أجزأه إذا أنقى ، ولا يباشر شيئا من عورته بيده .

ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال : التمس علي رضى الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم ما يلتمس من الميت فلم يجد شيئا ، فقال : بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا ، قال : وأخبرنا ابن جريج قال : سمعت محمد بن علي بن حسين يخبر ، قال : غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميص وغسل ثلاثا كلهن بماء وسدر ، وولي علي سفلته والفضل بن العباس [ ص: 162 ] محتضن النبي عليه السلام والعباس يصب الماء وعلي يغسل سفلته ، والفضل يقول : أرحني أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئا يتنزل علي .

قال : وغسل النبي صلى الله عليه وسلم من بئر لسعد بن خيثمة يقال لها العرس بقباء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب منها
.

وروي عن علي رحمه الله أنه قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم أهل البيت كل نفس ذائقة الموت الآية إن في الله خلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب .

قال علي رضي الله عنه : وتولى غسله صلى الله عليه وسلم العباس وأنا والفضل . قال علي : فلم أره يعتاد فاه في الموت ما يعتاد أفواه الموتى .

ثم لما فرغ علي من غسله وأدرجه في أكفانه كشف الإزار عن وجهه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والأنبياء ، خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك ، وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء ، ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك الشئون ، بأبي أنت وأمي ، اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك ، ثم نظر إلى قذاة في عينه ، فلفظها بلسانه ، ثم رد الإزار على وجهه صلى الله عليه وسلم
.

وقد قال بعض الناس وقطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزع عنه ذلك القميص وأنه [ ص: 163 ] كفن فيه مع الثلاثة الأثواب السحولية ، وهذا ليس بشيء ، ومعلوم أن الثوب الذي يغسل فيه الميت ليس من ثياب أكفانه ، وثياب الأكفان غير مبلولة ، وقد قالت عائشة : كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ، ولا عمامة . تعني ليس في أكفانه قميص ، ولا عمامة .

وسيأتي القول في ذلك في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله ، وقد يجوز أن يكون قائل ذلك مال إلى رواية المؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وثوبين صحاريين من عمل عمان ، وهذا خبر غير متصل ، وحديث عائشة صحيح مسند ، والحجة به ألزم في العمل ، وكلاهما لا يقطع العذر ، وبالله العصمة والتوفيق .

إلا أن الحديث المسند يوجب العمل وتجب به الحجة ، ثم جميع أهل الحق والسنة ، فإن احتج محتج بما حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن إدريس عن يزيد ، عن مقسم عن ابن عباس قال : كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب : قميصه الذي مات فيه وحلة له نجرانية . قيل له : هذا الحديث يدور على يزيد بن أبي زياد وليس عندهم ممن يحتج به فيما خولف فيه ، أو انفرد به ، ومنهم من لا يحتج به في شيء لضعفه ، وحديث عائشة حديث ثابت يعارضه ويدفعه ، وقد روي من حديث مقسم عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب ، أحدها قميصه الذي غسل فيه .

[ ص: 164 ] حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا إسحاق بن عيسى بن نجيح الطباع وأبو نعيم الفضل بن دكين قال إسحاق : حدثنا مالك . وقال أبو نعيم : حدثنا سفيان جميعا عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية كرسف ليس فيها قميص ، ولا عمامة . وليس في حديث مالك كرسف .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن صالح مولى التوأمة أنه سمع ابن عباس يقول : غسل النبي صلى الله عليه وسلم في قميص .

قال : وأخبرنا معمر والثوري عن منصور قال : كان على النبي صلى الله عليه وسلم قميص فنودوا ألا تنزعوه .




الخدمات العلمية