الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1482 [ ص: 106 ] حديث رابع لربيعة مسند صحيح

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ، ووكاءها ، ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها ، وإلا فشأنك بها ، قال : فضالة الغنم [ ص: 107 ] يا رسول الله ، قال : لك أو لأخيك أو للذئب قال : فضالة الإبل ، قال ما لك ؟ معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يلقاها ربها .

التالي السابق


والعفاص هنا : الخرقة المربوط فيها الشيء الملتقط ، وأصل العفاص : ما سد به فم القارورة ، وكل ما سد به فم الآنية فهو عفاص ، يقال : منه عفصت القارورة ، وأعفصتها ، وقال أبو عبيدة : هو جلد تلبسه رأس القارورة .

والوكاء : الخيط الذي يشد به ، يقال منه : أوكيتها إيكاء .

وأما الصمام فهو ما يدخل في فم القارورة فيكون سدادا لها .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث معان اجتمع العلماء على القول بها ، ومعان اختلفوا فيها .

فمما اجتمعوا عليه أن عفاص اللقطة ، ووكاءها من إحدى علاماتها ، وأدلها عليها .

وأجمعوا أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا ، أو شيئا لا بقاء له ، فإنها تعرف حولا كاملا .

وأجمعوا على أن صاحبها إذا جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها .

وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول ، وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له ، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين ، [ ص: 108 ] وبين أن ينزل على أجرها ، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ، ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ولا تصرف قبل الحول .

وأجمعوا أن آخذ ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها .

واختلفوا في سائر ذلك على ما نذكره إن شاء الله ، فمن ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة ، وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا ; لأنه عليه السلام أجاب السائل عن اللقطة بأن قال : اعرف عفاصها ، ووكاءها ، كأنه قال : احفظها على صاحبها ، واعرف من العلامات ما تستحق به إذا طلبت ، وقال في الشاة : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، يقول : خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب إن لم تأخذها ، كأنه يحضه على أخذها ، ولم يقل في شيء من ذلك دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه ، ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها كما قال في ضالة الإبل - والله أعلم - .

ومعلوم أن أهل الأمانات لو اتفقوا على ترك اللقطة لم ترجع لقطة ، ولا ضالة إلى صاحبها أبدا ، لأن غير أهل الأمانات لا يعرفونها بل يستحلونها ، ويأكلونها .

واختلف الفقهاء في الأفضل من أخذ اللقطة أو تركها ، فروى ابن وهب ، عن مالك أنه سئل عن اللقطة يجدها الرجل ، أيأخذها ؟ فقال : أما الشيء الذي له بال ، فإني أرى ذلك ، فقال له الرجل : إني رأيت شنفا أو قرطا مطروحا في المسجد فتركته ، فقال مالك : لو أخذته ، فأعطيته بعض نساء المسجد كان أحب إلي ، قال : وكذلك الذي يجد الشيء ، فإن كان لا يقوى على تعريفه ، فإنه يجد من هو [ ص: 109 ] أقوى على ذلك منه ممن يثق به يعطيه فيعرفه ، فإن كان الشيء له بال فأرى أن يأخذه .

وروى يحيى بن يحيى ، عن ابن القاسم ، عن مالك أنه كره أخذ اللقطة والآبق جميعا ، قال : فإن أخذ أحد شيئا من ذلك فأبق الآبق ، أو ضاعت اللقطة من غير فعله ولم يضيع لم يضمن .

قال مالك فيمن وجد آبقا : إن كان لجار أو لأخ رأيت له أن يأخذه ، وإن كان لمن لم يعرف فلا يقربه ، وهو في سعة من ترك مال لجاره ، أو لأخيه .

وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة إن شاء أخذها ، وإن شاء تركها ، هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله ، وهو ظاهر حديث زيد بن خالد هذا إن شاء الله .

قال أبو عمر :

إنما جعله مالك - والله أعلم - في سعة من ذلك لما في أخذ الآبق والحيوان الضوال من المؤن ، ولم يكلف الله عباده ذلك ، فإن فعله فاعل فقد أحسن ، وليست اللقطة كذلك ; لأن المئونة فيها خفيفة ; لأنها لا تحتاج إلى غذاء ، ولا اهتبال حرز ، ولا يخشى غائلتها فيحتفظ منها كما يصنع بالآبق .

وقال الليث في اللقطة : إن كان شيء له بال فأحب إلي أن يأخذه ، ويعرفه ، وإن كان شيئا يسيرا فإن شاء تركه ، وأما ضالة الغنم فلا أحب أن يقربها إلا أن يحوزها لصاحبها .

[ ص: 110 ] قال : ابن وهب : وسمعت الليث ، ومالكا يقولان في ضالة الإبل في القرى : من وجدها يعرفها ، وإن وجدها في الصحاري فلا يقربها .

وأصحاب مالك يقولون في الذي يأخذ اللقطة ، ثم يردها إلى مكانها في فوره أو قريبا من ذلك : إنه لا ضمان عليه .

قال ابن القاسم : إن تباعد ، ثم ردها ضمن .

وقال أشهب : لا يضمن ، وإن تباعد ، ولا وجه عندي لقول أشهب ; لأنه رجل قد حصل بيده مال غيره ، ثم عرضه للضياع والتلف .

وقال المزني ، عن الشافعي : لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينا عليها قال : وسواء قليل اللقطة ، وكثيرها ، واحتج بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضالة الغنم : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، يقول : إن لم تحفظها بنفسك على أخيك أكلها الذئب ، فاحفظ على أخيك ضالته الضائعة .

وذكر بعض أصحابه ما حدثناه عبد الله بن محمد بن أسد ، وخلف بن قاسم بن سهل قالا : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا مقدام بن داود قال : حدثنا [ ص: 111 ] ذؤيب بن عمامة السهمي قال : حدثنا هشام بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ضالة الغنم فقال : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، فرد على أخيك ضالته ، وسئل عن ضالة الإبل فقال : ما لك ولها ؟ معها سقاؤها ، وحذاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يلقاها ربها ، وسئل عن حريسة الجبل فقال : فيها جلدات نكال ، وغرامة مثلها ، فإذا أواه المراح فالقطع فيما بلغ ثمن المجن .

فقوله في هذا الحديث : فرد على أخيك ضالته ، يعني ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها ، دليل على الحض على أخذها ; لأنها لا ترد إلا بعد أخذها ، وحكم اللقطة في خوف التلف عليها ، والبدار إلى أخذها ، وتعريفها كذلك - والله أعلم - .

واختلف العلماء في اللقطة ، والضالة ، وكان أبو عبيد القاسم بن سلام ، وجماعة من العلماء يفرقون بين اللقطة والضالة ، قالوا : الضالة لا تكون إلا في الحيوان ، واللقطة في غير الحيوان .

قال أبو عبيد : إنما الضوال ما ضل بنفسه ، وكان يقول : لا ينبغي لأحد أن يدع اللقطة ، ولا يجوز لأحد أخذ الضالة ، ويحتج [ ص: 112 ] بحديث الجارود ، وحديث عبد الله بن الشخير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ضالة المؤمن حرق النار ، وبحديث جرير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يأوي الضالة إلا ضال .

وقالت طائفة من أهل العلم : اللقطة والضوال سواء في المعنى ، والحكم فيها سواء .

وكان أبو جعفر الطحاوي يذهب إلى هذا ، وأنكر قول أبي عبيد : الضال ما ضل بنفسه ، وقال : هذا غلط لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإفك قوله للمسلمين : إن أمكم ضلت قلادتها ، فأطلق ذلك على القلادة ، وقال في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ضالة المؤمن حرق النار قال : وذلك لأنهم أرادوها للركوب والانتفاع بها لا للحفظ على صاحبها ; لذلك قال لهم - صلى الله عليه وسلم - : ضالة المؤمن حرق النار قال : وذلك بين في رواية الحسن ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن أبيه قال : قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا أحملكم ، قلنا : نحن نجد في الطريق [ ص: 113 ] ضوال من الإبل نركبها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ضالة المؤمن حرق النار ، وقال في قوله : لا يأوي الضالة إلا ضال ، قال : هذا محمول على أنه يؤويها لنفسه ، لا لصاحبها ، ولا يعرفها .

وذكر الطحاوي أيضا ، عن يونس ، عن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكر بن سوادة ، عن أبي سالم الجيشاني ، عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها .

قال أبو عمر :

في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضالة الغنم : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، وفي ضالة الإبل [ ص: 114 ] ما لك ولها ؟ معها سقاؤها ، وحذاؤها ، ترد الماء وتأكل الشجر ، حتى يلقاها ربها دليل واضح على أن العلة في ذلك خوف التلف والذهاب لا جنس الذهاب ، فلا فرق بين ما ضل بنفسه ، وبين ما لم يضل بنفسه إذا خشي عليه التلف عندي ، - والله أعلم - بظاهر الحديث الصحيح في الفرق بين ضالة الغنم ، وضالة الإبل ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن ضالة الإبل غضب ، واشتد غضبه ، ثم قال فيها ما ذكرنا .

وقد قيل : إن الإبل تصبر على الماء ثلاثة أيام وأكثر ، وليس ذلك بحكم الشاة لأنه يقول : إن لم تأخذها ، ولا وجدها أخوك صاحبها ، أو غيره ، أكلها الذئب ، يقول : فخذها ، وهذا محفوظ من رواية الثقات .

حدثني محمد بن إبراهيم قراءة مني عليه قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا يعقوب الأيلي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن ربيعة ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني قال سفيان : فلقيت ربيعة ، فسألته فقال : حدثني يزيد ، عن زيد بن خالد الجهني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه سئل عن ضالة الإبل فغضب ، واحمرت وجنتاه ، وقال : ما لك ولها ؟ [ ص: 115 ] معها الحذاء ، والسقاء ، ترد الماء ، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ، وسئل عن ضالة الغنم فقال : خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ، وسئل عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ، ووكاءها ، وعرفها سنة ، فإن اعترفت ، وإلا فاخلطها بمالك كذا قال ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن ربيعة ، وخالفه سليمان بن بلال ، وحماد بن سلمة ، فروياه عن يحيى بن سعيد ، وربيعة جميعا ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرنا خلف بن القاسم الحافظ قراءة مني عليه أن عبد الله بن جعفر بن الورد حدثهم قال : حدثنا الحسن بن غالب قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق أبو محمد البيطاري قال : أخبرنا سليمان بن بلال قال : حدثني يحيى بن سعيد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة : الذهب أو الورق قال : اعرف وكاءها وعفاصها ، ثم عرفها سنة ، فإن لم تعرف فاستعن بها ، ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ، وسئل عن ضالة الإبل فقال : ما لك ولها ؟ دعها ، معها حذاؤها ، وسقاؤها ، ترد الماء ، وترعى الشجر حتى يجدها ربها ، وسأله عن الشاة فقال : خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ، وكذلك عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، وربيعة جميعا ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني ، عن النبي - صلى الله [ ص: 116 ] عليه وسلم - فذكر مثل حديث مالك سواء في ضالة الغنم ، وفي ضالة الإبل ، وفي اللقطة ، إلا أنه قال : عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفع بها ، ولتكن وديعة عندك .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج بن منهال قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، وربيعة ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني : أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ضالة الإبل فقال : ما لك ولها ؟ معها سقاؤها ، وحذاؤها ، دعها تأكل الشجر ، وترد الماء حتى يأتيها باغيها ، ثم سأله عن ضالة الغنم فقال : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، ثم سأله عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ، وعدتها ، فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه ، وإلا فهي لك .

واختلف الفقهاء في التافه اليسير الملتقط ، هل يعرف حولا أم لا ؟ فقال مالك : إذا كان تافها يسيرا تصدق به قبل الحول ، قال ابن حبيب : كالدرهم ، ونحوه .

وذكر ابن وهب ، عن مالك أنه قال في اللقطة مثل المخلاة ، والحبل ، والدلو ، وأشباه ذلك أنه إن كان ذلك في طريق ، وضعه في أقرب الأماكن إليه ليعرف ، وإن كان في مدينة انتفع به وعرفه ، ولو تصدق به كان أحب إلي ، فإن جاء صاحبه كان على حقه ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : ما كان عشرة دراهم [ ص: 117 ] عرفها حولا ، وإن كان دون ذلك عرفها على قدر ما يرى ، وقال الحسن بن حي كقولهم سواء ، إلا أنه قال : ما كان دون عشرة دراهم عرفه ثلاثة أيام .

وقال الثوري : الذي يجد الدرهم يعرفه أربعة أيام ، رواه عنه أبو نعيم .

وقال الشافعي : يعرف القليل والكثير حولا كاملا ، ولا تنطلق يده على شيء منه إلا بعد الحول ، فإذا عرفه حولا أكله بعد ذلك أو تصدق به ، فإذا جاء صاحبه كان غريما في الموت والحياة ، قال : وإن كان طعاما لا يبقى ، فله أن يأكله ، ويغرمه لربه .

قال المزني ، ومما وجد بخطه : أحب إلي أن يبيعه ، ويقيم على تعريفه حولا ، ثم يأكله ، هذا أولى به لأن النبي عليه السلام لم يقل للملتقط فشأنك بها ، إلا بعد السنة ، ولم يفرق بين القليل والكثير .

قال أبو عمر :

التعريف عند جماعة الفقهاء فيما علمت لا يكون إلا في الأسواق ، وأبواب المساجد ، ومواضع العامة ، واجتماع الناس .

وروي عن عمر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجماعة من السلف يطول ذكرهم : أن اللقطة يعرفها واجدها سنة ، فإن لم يأت لها مستحق أكلها واجدها إن شاء أو تصدق بها ، فإن جاء صاحبها وقد تصدق بها فهو مخير بين الأجر والضمان ، وبهذا كله أيضا قال جماعة فقهاء الأمصار منهم مالك ، والثوري [ ص: 118 ] والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والليث ، والشافعي ، ومن تبعهم إلا ما بينا عنهم في كتابنا هذا من تفسير بعض هذه الجملة مما اختلفوا فيه .

وأجمعوا أن الفقير له أن يأكلها بعد الحول ، وعليه الضمان ، واختلفوا في الغني ، فقال مالك : أما الغني فأحب إلي أن يتصدق بها بعد الحول ، ويضمنها إن جاء صاحبها .

وقال ابن وهب : قلت في حديث عمر بن الخطاب حين قال للذي وجد الصرة : عرفها ثلاثا ، ثم احبسها سنة ، فإن جاء صاحبها ، وإلا فشأنك بها ، قال : ما شأنه بها ؟ قال : يصنع بها ما شاء ، إن شاء أمسكها ، وإن شاء تصدق بها ، وإن شاء استنفقها ، فإن جاء صاحبها أداها إليه .

وقال الأوزاعي : إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال بعد السنة .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يأكلها الغني ألبتة بعد الحول ، وإنما يأكلها الفقير ، ويتصدق بها الغني ، فإن جاء صاحبها كان مخيرا على الفقير الآكل ، وعلى الغني المتصدق في الأجر أو الضمان .

وقال الشافعي : يأكل اللقطة الغني والفقير بعد الحول ، وهو تحصيل مذهب مالك ، وقوله ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن خالد الجهني قد قال لواجدها : شأنك بها بعد السنة ، ولم يفرق بين الغني والفقير ، وعلى من أكلها أو تصدق بها الضمان إن جاء صاحبها .

[ ص: 119 ] قال أبو عمر :

احتج بعض من يرى أن الغني لا يأكل اللقطة بعد الحول بما ذكره ابن عيينة في حديث زيد بن خالد المذكور عنه في هذا الباب بقوله : وعرفها سنة ، فإن عرفت ، وإلا فاخلطها بمالك قالوا : فهذا دليل على أن السائل عن حكم اللقطة والضالة في ذلك الحديث كان غنيا ، فخرج الجواب عليه من قوله : فشأنك بها ، وقوله : فاخلطها بمالك ، وقوله : ولتكن وديعة عندك ، نحو هذا ، فما روي من اختلاف ألفاظ الناقلين لهذا الحديث من الألفاظ الموجبة لا تكون عنده مرفوعة لصاحبها ، وهي تفسير معنى قوله : شأنك بها .

وحجة من أجاز للغني أكلها ظاهر الحديث بقوله : شأنك بها ، واخلطها بمالك ، ولم يسأله أفقير هو أم غني ، ولا فرق له بين الفقير والغني ، ولو كان بين الفقير والغني فرق في حكم الشرع لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والفقير قد يكون له مال لا يخرجه إلى حد الغنى فيجوز أن يقال له : اخلطها بمالك ، وفي ذلك دليل على انطلاق يده عليها بما أحب كانطلاق يده في ماله ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عياض بن حمار : فإن جاء صاحبها فهو أحق بها ، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء ، وهذا معناه انطلاق يد الملتقط ، وتصرفه فيها بعد الحول ، ولكنه يضمنها إن جاء صاحبها ، واجب ذلك بإجماع المسلمين ; لأنه مستهلك مال غيره ، وقد أجمعوا أن من استهلك مال غيره وأنفقه بغير إذنه [ ص: 120 ] غرمه ، وضمنه ، ومن استهلك لغيره شيئا من المال ضمنه بأي وجه استهلكه ، وهذا ما لا خلاف فيه فأغنى ذلك عن الإكثار .

واختلفوا في دفع اللقطة إلى من جاء بالعلامة دون بينة ، فقال مالك : تستحق بالعلامة ، قال ابن القاسم : ويجبر على دفعها إليه فإن جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا .

قال مالك : وكذلك اللصوص ، إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة ، أن السلطان يتلوم في ذلك فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم ، وكذلك الآبق ، وهو قول الليث بن سعد ، والحسن بن حي أنها تدفع لمن جاء بالعلامة ، والحجة لمن قال بهذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف عفاصها ، ووكاءها ، وعدتها ، فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه ، وهذا نص في موضع الخلاف يوجب طرح ما خالفه .

وقال أبو حنيفة ، والشافعي لا تستحق إلا ببينة ، ولا يجبر على دفعها إلا من جاء بالعلامة ، ويسعه أن يدفعها إليه فيما بينه وبينه دون قضاء .

وذكر المزني ، عن الشافعي قال : فإذا عرف طالب اللقطة العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوزن ، وحلاها بحليتها ، ووقع في نفس الملتقط أنه صادق كان له أن يعطيه إياها ، وإلا أجبره ، لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها قال : ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - اعرف عفاصها ، ووكاءها - والله أعلم - لأن يؤدي عفاصها ، ووكاءها معها ، وليعلم إذا وضعها في ماله أنها [ ص: 121 ] لقطة ، وقد يكون ليستدل على صدق المعترف ، أرأيت لو وصفها عشرة أيعطونها ؟ نحن نعلم أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه يمكن أن يكون صادقا .

قال أبو عمر :

القول بظاهر الحديث أولى ، ولم يؤمر بأن يعرف عفاصها ، ووكاءها ، وعلاماتها إلا لذلك .

وقال : - صلى الله عليه وسلم - إن عرفها فادفعها إليه هكذا قال حماد بن سلمة في حديثه ، ومن كان أسعد بالظاهر أفلح ، وبالله التوفيق .

واختلفوا فيمن أخذ لقطة ، ولم يشهد على نفسه أنه التقطها ، وإنها عنده يعرفها ، ثم هلكت عنده ، وهو لم يشهد :

فقال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد : لا ضمان عليه إذا هلكت عنده من غير تضييع منه ، وإن كان لم يشهد ، وهو قول عبد الله بن شبرمة .

وقال : أبو حنيفة ، وزفر : إن أشهد حين أخذها أنه يأخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت ، وإن لم يشهد ضمنها ، وحجتهما في ذلك ما حدثني أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل الدينوري قال : حدثنا أبو العباس محمد بن عبد الحكم القطري قال : حدثنا آدم بن أبي إياس قال : حدثنا شعبة ، عن خالد الحذاء قال : سمعت يزيد بن عبد الله بن الشخير أبا العلاء يحدث عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عياض بن حمار ، [ ص: 122 ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التقط لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ، وليعرف ، ولا يكتم ، ولا يغيب ، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها ، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء .

قال الطحاوي : وهذا الحديث يحتمل أن يكون مراده في الإشهاد الإشادة ، والإعلان ، وظهور الأمانة ، قال : ولما لم يكن الإشهاد في الغصوب يخرجها عن حكم الضمان ، وكان الإشهاد في ذلك ، وترك الإشهاد سواء ، وهي مضمونة أبدا أشهد أم لم يشهد ، وجب أن تكون اللقطة أمانة أبدا لقوله - صلى الله عليه وسلم - ولتكن وديعة عندك ، ولإجماعهم على أنه إذا أشهد لم يضمن ، وكذلك إذا لم يشهد .

قال أبو عمر :

معنى هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن ملتقط اللقطة إذا عرفها ، وسلك فيها سنتها ، ولم يكن مغيبا ، ولا كاتما ، وكان معلنا معرفا ، وحصل بفعله ذلك ، أمينا ، لا يضمن إلا بما يضمن به الأمانات ، وإذا لم يعرفها ، ولم يسلك بها سنتها ، وغيب ، وكتم ، ولم يعلم الناس أن عنده لقطة ، ثم قامت عليه البينة بأنه وجد لقطة [ ص: 123 ] ذكروها ، وضمها إلى بيته ، ثم ادعى تلفها ضمن ; لأنه بذلك الفعل خارج عن حدود الأمانة ، وبالله التوفيق ، وقال بعض أهل العلم : في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للسائل عن اللقطة : اعرف عفاصها ، ووكاءها ، فإن جاء صاحبها وعرفها ، يعني بعلاماتها - دليل بين على إبطال قول كل من ادعى علم الغيب في الأشياء كلها من الكهنة ، وأهل التنجيم ، وغيرهم ; لأنه لو علم - صلى الله عليه وسلم - أنه يوصل إلى علم ذلك من هذه الوجوه ، لم يكن لقوله - صلى الله عليه وسلم - في معرفة علاماتها وجه - والله أعلم - .

فهذا ما في الحديث من أحكام اللقطة ، ووجوه القول فيها ، وأما حكم الضوال من الحيوان فإن الفقهاء اختلفوا في بعض وجوه ذلك ، فقال مالك في ضالة الغنم : ما قرب من القرى فلا يأكلها ، ويضمها إلى أقرب القرى تعرف فيها قال : ولا يأكلها واجدها ، ولا من تركت عنده حتى تمر بها سنة كاملة ، هذا فيما يوجد بقرب القرى ، وأما ما كان في الفلوات ، والمهامه فإنه يأخذها ، ويأكلها ، ولا يعرفها ، فإن جاء صاحبها فليس له شيء ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، والبقر بمنزلة الغنم ، إذا خيف عليها السباع ، فإن لم يخف فبمنزلة الإبل ، وقال في الإبل : إذا وجدها في فلاة فلا يتعرض لها ، فإن أخذها فعرفها فلم يجئ صاحبها خلاها في الموضع الذي وجدها فيه ، قال : والخيل ، والبغال ، والحمير يعرفها ، ثم يتصدق بثمنها ; لأنها لا توكل .

[ ص: 124 ] قال مالك : لا تباع ضوال الإبل ، ولكن يردها إلى موضعها التي أصيبت فيه ، وكذلك فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

واتفق قول مالك ، وأصحابه : إن الإمام إذا كان غير عدل ، ولا مأمون ، لم تؤخذ ضوال الإبل ، وتركت مكانها ، فإن كان الإمام عدلا كان له أخذها ، وتعريفها ، فإن جاء صاحبها وإلا ردها إلى المكان ، هذه رواية ابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك .

وقال أشهب : لا يردها ، ويبيعها ، ويمسك ثمنها على ما روي عن عثمان .

وقال ابن وهب عن مالك فيمن وجد شاة أو غنما بجانب قرية : إنه لا يأكلها حتى تمر بها سنة أو أكثر ، فإن كان لها صوف أو لبن ، وكان قربه من يشتري ذلك الصوف واللبن فليبعه ، وليدفع ثمنه لصاحب الشاة إن جاء ، قال مالك : ولا أرى بأسا أن يصيب من نسلها ولبنها بنحو قيامه عليها .

قال ابن وهب ، عن مالك : فيمن وجد تيسا قرب قرية : إنه لا بأس أن يتركه ينزو على غنمه ما لم يفسده ذلك .

وقال الأوزاعي في الشاة : إن أكلها واجدها ضمنها لصاحبها .

وقال الشافعي : تؤخذ الشاة ويعرفها آخذها فإن لم يجئ صاحبها أكلها ، ثم ضمنها لصاحبها إن جاء ، قال : ولا يعرض للإبل والبقر ، فإن أخذ الإبل ثم أرسلها ضمن .

[ ص: 125 ] وذكر أن عثمان خالف ( عمر فأمر ) ببيعها ، وحبس أثمانها لأربابها ، واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - : رد على أخيك ضالته ، وبقوله في اللقطة : ولتكن وديعة عندك ، ومن أرسل الوديعة ، وعرضها للضياع ضمنها بإجماع .

( وقال مالك ، وأبو حنيفة : من وجد بعيرا في بادية أو غيرها ، فأخذه ، ثم أرسله لم يضمنه بخلاف اللقطة ، وشبهه بعض أصحابهما بالصيد يصيده المحرم ، ثم يرسله أنه لا شيء عليه ، فأما الشافعي فالضالة عنده هاهنا كاللقطة لاجتماعهما في أنه مال هالك معين قد لزمه بعد أخذه ، فوجب أن يصير بإزالة يده عنه ضامنا كالوديعة ) .

قال أبو جعفر الأزدي هو الطحاوي : جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضوال الإبل بغير ما أجاب في ضالة الغنم إخبار منه عن حال دون حال ، وذلك على المواضع المأمون عليها فيها التلف ، فإذا تخوف عليها التلف ، فهي والغنم سواء . قال : ولم يوافق مالكا أحد من العلماء على قوله في الشاة : إن أكلها لم يضمنها إذا وجدها في الموضع المخوف ، قال : واحتجاجه بقوله عليه السلام : هي لك أو لأخيك أو للذئب لا معنى له لأن قوله : هي لك ليس هو على معنى التمليك ، كما أنه إذا قال : أو للذئب لم يرد به التمليك ; لأن الذئب يأكلها على ملك صاحبها ، فكذلك الواجد إن أكلها أكلها على ملك صاحبها فيضمنها ، واحتج بحديث سليمان بن بلال في [ ص: 126 ] اللقطة ولتكن وديعة عندك قال : وذلك يوجب ضمانها إذا أكلها .

قال أبو عمر :

في قوله - صلى الله عليه وسلم - : رد على أخيك ضالته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - دليل على أن الشاة على ملك صاحبها ، وذلك يوجب الضمان على آكلها ، وقد قال مالك وهو الذي لا يرى على آكلها في الموضع المخوف شيئا : إن ربها لو أدركها لحما في يد واجدها ، وفي يد الذي تصدق بها عليه ، وأراد أخذ لحمها كان ذلك له ، ولو باعها واجدها كان لربها ثمنها الذي بيعت به ، وهذا يدل على أنها على ملك مالكها عنده ، فالوجه تضمين آكلها إن شاء الله ; ( لأنه لا فرق بين أكل الشاة في الوقت الذي أبيح له أخذها ، وبين أكل اللقطة واستهلاكها بعد الحول لأنهما قد أبيح لكل واحد منهما أن يفعل بها ما شاء ، ويتصرف فيها بما أحب ، ثم أجمعوا على ضمان اللقطة لصاحبها إن جاء طالبها ، فكذلك الشاة ، وبالله التوفيق ) .

ومن حجة مالك قوله - صلى الله عليه وسلم - : هي لك أو لأخيك لأنه يحتمل أن يريد بذكر الأخ صاحبها ، ويحتمل أن يريد لك أو لغيرك من الناس الواجدين لها ، وأي الوجهين كان فالظاهر من قوله : أو للذئب ، يوجب تلفها ، أي إن لم تأخذها أنت ولا مثلك أكلها الذئب ، وأنت ومثلك أولى من الذئب ، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها طعمة لمن وجدها ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا وجه [ ص: 127 ] للضمان في طعمة أطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وقد شبهها بعض المتأخرين من أصحابه بالركاز ، وهذا بعيد لأن الركاز لم يصح عليه ملك لأحد قبل ) .

ويجوز أن يحتج أيضا في ترك تضمين آكلها بإجماعهم على إباحة أكلها ، واختلافهم في ضمانها ، والاختلاف لا يوجب فرضا لم يكن واجبا ( وهذا الاحتجاج مخالف لأصول مالك ، ومذهبه ) ، وقد قال : - صلى الله عليه وسلم - : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، ولم يقل ذلك في الإبل ، ولا في اللقطة ، وذلك فرق بين إن شاء الله .

هذا مما يمكن أن يحتج به في ذلك ، وفي المسألة نظر ( والصحيح ما قدمت لك ) ، وبالله التوفيق .

وقد قال سحنون في المستخرجة : إن أكل الشاة واجدها في الفلاة أو تصدق بها ، ثم جاء صاحبها ضمنها ، وهو الظاهر من قول مالك أن من أكل طعاما قد اضطر إليه لغيره لزمه قيمته ، والشاة أولى بذلك - والله أعلم - .

وروى أشهب ، عن مالك في الضوال من المواشي يتصدق بها الملتقط بعد التعريف ، ثم يأتي ربها : أنه ليس له شيء ( ( قال ) ) : ، وليست المواشي مثل الدنانير .

واختلف الفقهاء أيضا في النفقة على الضوال ، واللقيط .

[ ص: 128 ] فقال مالك فيما ذكر ابن القاسم عنه : إن أنفق الملتقط على الدواب ، والإبل ، وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة ، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره ، قال : وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ، ويكون أحق به كالرهن ، قال : ويرجع على صاحب اللقطة بكراء حملها .

وقال مالك في اللقيط : إذا أنفق عليه الملتقط ، ثم أقام رجل البينة أنه ابنه ; فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا ، وكان موسرا ، وإن لم يكن طرحه ، ولكن ضل منه فلا شيء على الأب ، والملتقط متطوع بالنفقة .

وقال الشافعي فيما رواه عنه الربيع في البويطي : إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع ، فإن أراد أن يرجع على صاحبها ، فليذهب إلى الحاكم حتى يفرض له النفقة ، ويوكل غيره بأن يقبض تلك النفقة منه ، وينفق عليها ، ولا يكون للسلطان أن يأذن له أن ينفق عليها إلا اليوم واليومين ، فإن جاوز ذلك أمر ببيعها .

وقال المزني عنه : إذا أمر الحاكم بالنفقة كانت دينا ، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا ، وقال المزني : لا يقبل قوله ، وليس بالأمين .

وقال ابن شبرمة : إذا أنفق على العبد رجع على صاحبه على كل حال ، إلا أن يكون قد انتفع به وخدمه ، فتكون النفقة بمنفعة ، وقال في الملتقط : إن أنفق عليه الملتقط احتسابا لم يرجع ، وإن كان على غير ذلك احتسب بمنفعته ، وأعطي نفقته بعد ذلك

[ ص: 129 ] وقال الحسن بن حي : لا يرجع على صاحبه من نفقته بشيء في الحكم ، ويعجبني في الورع والأخلاق أن يرد عليه نفقته .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا أنفق على اللقطة والآبق بغير أمر القاضي فهو متطوع ، وإن أنفق بأمر القاضي فهو دين على صاحبها إذا جاء ، وله أن يحبسها بالنفقة إذا حضر صاحبها ، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها ، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة ، وما أشبهها ، ويقضي بالنفقة ، وأما الغلام والدابة فيكرى وينفق عليها من الأجرة .

قالوا : وما أنفق على اللقيط فهو متطوع إلا أن يأمره الحاكم .

وقال ابن المبارك ، عن الثوري : إن من أنفق بأمر الحاكم في الضالة واللقيط كان دينا .

وقال الليث في اللقيط : إنه يرجع الملتقط بالنفقة على أبيه إذا ادعاه ، ولم يفرق ، وهو معنى قول الأوزاعي ; لأنه قال : كل من أنفق على من لا تجب له عليه نفقة رجع بما أنفق .




الخدمات العلمية