الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1622 [ ص: 19 ] حديث ثان لابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة متصل مسند

مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جرح العجماء جبار وفي الركاز الخمس قال مالك : وتفسير الجبار أنه لا دية فيه .

التالي السابق


قال أبو عمر :



لا يختلفون أن الجبار : الهدر الذي لا أرش فيه ، ولا دية على ما قال مالك رحمه الله ، قال الشاعر :


كم ملك نزع الملك عنه وجبار بها دمه جبار



هكذا روى هذا الحديث جمهور الرواة عن مالك ، كما رواه يحيى ، ورواه القعنبي عن مالك ، عن ابن شهاب عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، لم يذكر أبا سلمة . هكذا ذكره إسماعيل القاضي رواه القعنبي ، وهو عندنا في الموطأ للقعنبي من رواية علي بن عبد العزيز وغيره عن القعنبي .

[ ص: 20 ] مالك عن ابن شهاب ، عن سعيد وأبي سلمة ، جميعا عن أبي هريرة مسندا كما رواه يحيى وغيره في الموطأ ، هكذا في كتاب الديات في الموطأ ، وذكره في كتاب الزكاة ; فقال فيه مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : في الركاز الخمس . هكذا في كتاب الزكاة اختصر إسناده ولفظه ، وذكره يحيى في كتاب الزكاة مختصرا للفظ ، وجاء بإسناده كاملا ، فقال عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وفي الركاز الخمس ، وأما ابن القاسم في رواية سحنون ، فرواه عن مالك عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . . . مرسلا هكذا ، وأما اختلاف أصحاب ابن شهاب في إسناد هذا الحديث فرواه ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أبا سلمة ، هكذا حدث عنه ابن أبي شيبة وغيره ، ورواه الليث بن سعد ; كما رواه مالك سواء عن ابن شهاب ، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العجماء جرحها جبار الحديث بتمامه سواء .

وكذلك رواه معمر وابن جريج ، ذكر عبد الرزاق عن معمر وابن جريج عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العجماء جبار والبئر جرحها جبار والمعدن جرحه جبار وفي الركاز الخمس . والعجماء عند العرب كل بهيمة وسبع وحيوان غير ناطق مفصح .

قال الشاعر يصف كلبا :

[ ص: 21 ]

يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا يكلمه من حبه وهو أعجم



وقال أحمد بن ثور يصف حمامة :


ولم أر محزونا له مثل صوتها ولا عربيا شاقه صوت أعجما



قال ابن جريج : والجبار في كلام أهل تهامة الهدر ، والركاز ما وجد في معدن ، وما استخرج منه وما وجد من مال مدفون كان قبل هذه الأمة ، وقال ابن جريج : وأقول : هو مغنم ، وقال أهل اللغة : الجبار الهدر الذي لا يجب فيه شيء وجرح العجماء جنايتها ، وأجمع العلماء على أن العجماء إذا جنت جناية نهارا أو جرحت جرحا لم يكن لأحد فيه سبب أنه هدر ; لا دية فيه على أحد ولا أرش ، واختلفوا في المواشي يهملها صاحبها ، ولا يمسكها ليلا فتخرج ; فتفسد زرعا أو كرما أو غير ذلك من ثمار الحوائط والأجنة وخضرها ، وسنذكر اختلافهم في ذلك ، ونوضح القول فيه عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن حرام بن سعد بن محيصة من كتابنا هذا إن شاء الله ، ولا خلاف بينهم ; أن ما أفسدت المواشي وجنت نهارا من غير سبب آدمي أنه هدر من الزروع وغيرها ، إلا ما روي عن مالك وبعض أصحابه في الدابة الضارية المعتادة الفساد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في باب ابن شهاب عن حرام بن محيصة وأما السائق للدابة أو راكبها أو قائدها فإنهم عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين ضامنون لما جنت الدابة من أجلهم وبسببهم ، وقال داود وأهل الظاهر : لا ضمان في جرح العجماء على أحد على أي حال كان برجل أو بمقدم ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل جرحها جبارا ، ولم يخص حالا من حال . قالوا : فلا ضمان على أحد بسبب جناية عجماء إلا أن يكون حملها على ذلك ، وأرسلها عليه ، فتكون حينئذ كالآلة فيضمن [ ص: 22 ] بجناية نفسه وقصده إلى إفساد مال غيره والجناية عليه ، قالوا : وكذلك إذا تعدى في إرسالها أو ربطها في موضع لا يجب له ربطها فيه ، وأما من لم يقصد إلى ذلك فلا يضمن جناية دابة ، وإن كان سبب ذلك إذا فعل من ركوبها وسياقتها وقيادتها وإرسالها ما له فعله ; فلا يضمن إلا الفاعل القاصد ، إلا أن يجمعوا على غيره في موضع ما فيجب التسليم لإجماعهم في ذلك الموضع خاصة .

قال أبو عمر :



لا خلاف علمته أن ما جنت يد الإنسان خطأ أنه يضمنه في ماله ، فإن كان دما فعلى عاقلته تسليما للسنة المجتمع عليها ، وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ضمان السائق والراكب والقائد ، على الأصل الذي قدمنا فافهمه ، وجاء عن عمر بن الخطاب : أنه ضمن الذي أجرى فرسه عقل ما أصاب الفرس ، وذكر ابن وهب قال : أخبرني يونس وابن أبي ذئب عن ابن شهاب ; أنه سئل عن رجل قاد بدنة فأصابت طيرا فقتلته فقال : إن كان يقودها أو يسوقها حتى أصابت الطير ; فقد وجب عليه جزاء ما قتلت ، وإن لم يكن يقودها ولا يسوقها فليس يجب عليه جزاء ما أصابت ، وقال ابن سيرين : كانوا لا يضمنون من النفحة ويضمنون من رد العنان ، وقال حماد : لا يضمن النفحة إلا أن ينخس الإنسان الدابة ، وعن شريح مثله ، وقال حماد أيضا : إذا ساق المكاري حمارا عليه امرأة فتخر ، فلا شيء عليه ، وقال الشعبي : إذا ساق الدابة [ ص: 23 ] فأتعبها ; فهو ضامن لما أصابت ، وإن كان مسترسلا لم يضمن ، وذكر إسماعيل القاضي قال : حدثنا الهروي قال : حدثنا أشعث عن ابن سيرين عن شريح أنه كان يضمن الفارس ما أوطأت دابته بيد أو رجل ويبرئ من النفحة .

قال إسماعيل : وقاله الحسن والنخعي ، وذلك لأن الراكب كان سببه ، وقال مالك إن فزعها الراكب أو عنتها ضمن ما أصابت برجلها ، وإن لم يفزعها ولم يعنتها لم يضمن ما أصابت برجلها ، ويضمن ما أصابت بمقدمها على كل حال ، وقال أبو حنيفة وأصحابه في نفحة الدابة برجلها إذا كان صاحبها يسير عليها فالضمان عليه ، وقد روي عن شريح أنه أبطل النفحة بالرجل ، قال الطحاوي : لا يمكن التحفظ من الرجل والذنب فهو جبار على كل حال ، ويمكنه التحفظ من اليد والفم فعليه ضمانه .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا ضمان على أصحاب البهائم فيما تفسد وتجني عليه ، لا في الليل ولا في النهار إلا أن يكون راكبا أو سائقا أو قائدا أو مرسلا وقال الشافعي : الضمان عن البهائم على وجهين :

أحدهما : ما أصابت من الزرع بالليل فأفسدته ، والوجه الثاني : إذا كان الرجل راكبا فما أصابت بيدها أو رجلها أو فمها أو ذنبها من نفس أو جرح فهو ضامن لأن عليه منعها في تلك الحال من كل ما تتلف به شيئا ، قال : وكذلك إذا كان سائقا أو قائدا وكذلك الإبل المقطرة بالبعير ; لأنه [ ص: 24 ] قائدها ، قال : ولا يجوز في هذا إلا ضمان كل ما أصابت به الدابة تحت الراكب ، أو لا يضمن إلا ما حملها عليه ، لا يصح إلا أحد هذين القولين ، فأما من ضمن عن يدها ولم يضمن عن رجلها فهو تحكم قال : وأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن الرجل جبار ; فهذا خطأ ; لأن الحفاظ لم يحفظوه هكذا ، قال : ولو أوقفها في موضع ليس له أن يوقفها فيه ، ضمن ، ولو أوقفها في ملكه لم يضمن ، قال : ولو جعل في داره كلبا عقورا أو حبالة فدخل إنسان فقتله الكلب لم يكن عليه شيء قال المزني : سواء عندي أذن لذلك الإنسان أن يدخل الدار أو لم يأذن ، وقال ابن شبرمة وابن أبي ليلى : يضمن ما أتلفت الدابة برجلها إذا كان عليها أو قادها أو ساقها كما يضمن ما أتلفت وهو عليها بغير رجلها ، كقول الشافعي سواء ، وقال الأوزاعي والليث بن سعد في هذا الباب : كله كقول مالك لا يضمن ما أصابت الدابة برجلها من غير صنعه ويضمن ما أصابت بيدها ومقدمها إذا كان راكبا عليها أو سائقا لها أو قائدا .

قال أبو عمر :

من فرق بين الرجل والمقدم في راكب الدابة وسائقها وقائدها فحجته أنه يمكنه التحفظ من جناية فمها ويدها إذا كان راكبا عليها أو قائدا لها ، ولا يمكنه ذلك من رجلها ، ومن حجته أيضا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الرجل جبار ، وهذا لا يثبته أهل العلم بالحديث ، وله إسنادان : أحدهما : رواه الثوري وغيره عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 25 ] البير جبار والرجل جبار والعجماء جبار وفي الركاز الخمس . وهذا حديث مرسل ، هكذا رواه الثوري وغيره عن أبي قيس هذا ورواه زياد بن عبد الله البكائي عن الأعمش عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوصله وأسنده ، وليس زياد البكائي ممن يحتج به إذا خالفه مثل الثوري ، وأبو قيس أيضا ليس ممن يحتج به في حكم ينفرد به ، والإسناد الآخر ما رواه سفيان بن حسين الواسطي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل جبار وهذا حديث لا يوجد عند أحد من أصحاب الزهري إلا سفيان بن [ ص: 26 ] حسين وهو عندهم فيما ينفرد به لا تقوم به حجة ، وقد روى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : النار جبار ، وقال يحيى بن معين : أصله البير جبار ولكنه صحفه معمر .

قال أبو عمر :

في قول ابن معين هذا نظر ، ولا يسلم له حتى يتضح .

[ ص: 27 ] حدثنا محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث الواسطي أخبرنا جعفر بن عبد الواحد قال : قال لنا ابن عقبة بن عبد الغافر أخبرنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النار جبار والبير جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس وقد كان الشعبي رحمه الله يفتي بأن الرجل جبار ، رواه أبو فروة والشيباني عن الشعبي .

قال أبو عمر :

لا أعلم خلافا عن مالك وأصحابه وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام : أن من أوقف دابته في موضع ليس له أن يوقفها [ ص: 28 ] فيه ولا يجوز له ذلك من طريق ضيق أو غير ذلك مما ليس له أن يفعله ، فجنت جناية أنه ضامنها ، وإن أوقفها في موضع يعرف الناس مثله توقف فيه الدواب أو يوقف فيه مثل دابته ، قال ابن حبيب : نحو دار نفسه أو باب المسجد أو دار العالم أو القاضي أو ما أشبه ذلك فلا ضمان عليه فيما جنت ، وكذلك إذا أرسلها في موضع ليس له أن يرسلها فيه ضمن ما جنت ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : والبير جبار فمعناه : أنه لا ضمان على رب البير وحافرها إذا سقط فيها إنسان أو دابة أو غير ذلك فتلف وعطب ، هذا إذا كان حافر البير قد حفرها في موضع يجوز له أن يحفرها فيه ، مثل أن يحفرها في فنائه أو في ملكه أو في داره أو في صحراء للماشية أو في طريق واسع محتمل ونحو ذلك .

وهذا كله قول مالك والشافعي وداود وأصحابهم ، وقول الليث بن سعد قال ابن القاسم : قال مالك : للإنسان أن يحفر في الطريق بيرا يحدثها للمطر ، وله أن يحفر إلى جنب حائطه مرحاضا ، وله أن يحدث في داره ميزابا ، ولا يضمن ما عطب بشيء من ذلك ، قال : وما حفره في الطريق مما لا يجوز له لضيق الطريق أو لغير ذلك ضمن ما عطب به ، وقال ابن القاسم أيضا عن مالك : إن حفر في داره بيرا لسارق يرصده ليقع فيه أو وضع له حبالات أو شيئا يتلف به السارق فدخل فعطب فهو ضامن .

قال أبو عمر :

وجه قوله هذا أنه لم يحفر البير لمنفعته ، وإنما حفرها قاصدا ليعطب بها غيره ، فهو الجاني حينئذ ، والله أعلم .

وأما الشافعي : فلا ضمان عليه عنده في هذا فيما علمت ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : له أن يحدث في الطريق ما لا يضر به ، قالوا : وهو ضامن لما أصابه .

[ ص: 29 ] قال أبو عمر :

قوله - صلى الله عليه وسلم - والبير جبار يدفع الضمان عن ربها في كل ما سقط فيها بغير صنيع آدمي ، والله أعلم .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : والمعدن جبار فتأويله أن المعادن المطلوب فيها الذهب والفضة تحت الأرض إذا سقط شيء منها وانهار على أحد من العاملين فيها فمات أنه هدر ، لا دية له في بيت المال ولا غيره ، وكذلك من سقط فيها فعطب بعد حفرها ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - وفي الركاز الخمس . فإن العلماء اختلفوا في الركاز ، وفي حكمه ، فقال مالك : الركاز في أرض العرب للواجد ، وفيه الخمس قال : وما وجد من ذلك في أرض الصلح ; فإنه لأهل تلك البلاد ، ولا شيء للواجد فيه ، قال : وما وجد في أرض العنوة فهو للجماعة الذين افتتحوها ، وليس لمن أصابه دونهم ، ويؤخذ خمسه ، قال ابن القاسم : كان مالك يقول في العروض ، والجوهر ، والحديد ، والرصاص ، ونحوه يوجد ركازا أن فيه الخمس ثم رجع فقال : لا أرى فيه شيئا ثم آخر ما فارقناه عليه أن قال : فيه الخمس . وقال إسماعيل بن إسحاق : كل ما وجده المسلمون في خرب الجاهلية من أرض العرب التي يفتتحها المسلمون من أموال الجاهلية ظاهرة أو مدفونة في الأرض فهو الركاز ، ويجرى مجرى الغنائم يكون لمن وجده أربعة أخماس ، ويكون سبيل خمسه سبيل خمس الغنائم يجتهد فيه الإمام على ما يراه من صرفه في الوجوه التي ذكر الله من مصالح المسلمين قال : وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة ; لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله وأخذ ماله فإن له أربعة أخماسه ، وقال الثوري في الركاز [ ص: 30 ] يوجد في الدار أنه للواجد دون صاحب الدار ، وفيه الخمس ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : الركاز من الذهب والفضة وغيرهما مما كان من دفن الجاهلية أو البدرة أو القطعة يكون تحت الأرض فيوجد بلا مؤنة وفيه الخمس ، وقول الطبري كقولهم سواء ، وقال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار : إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس .

وقال أبو يوسف : هو للواجد وفيه الخمس وإن وجد في فلاة فهو للواجد في قولهم جميعا وفيه الخمس ، ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة ، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها ، وجائز عندهم لواجده أن يحبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه للمساكين .

قال أبو عمر :

وجه هذا عندي من قولهم أنه أحد المساكين ، وأنه لا يمكن السلطان إن صرفه عليهم أن يعمهم به ، وقال الشافعي : الركاز دفن الجاهلية العروض وغيرها وفيه الخمس وسواء وجده في أرض عنوة أو صلح بعد أن لا يكون في ملك أحد ; فإن وجده في ملك غيره فهو له إن ادعاه وفيه الخمس ، وإن لم يدعه فهو للواجد وفيه الخمس قال : وإن أصاب شيئا من ذلك في أرض الحرب أو منازلهم فهو غنيمة له وللجيش ، وإنما يكون للواجد ما لا يملكه العدو مما لا يوجد إلا في الفيافي .

قال أبو عمر :

أصل الركاز في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة ، وسائر الجواهر ، وهو عند الفقهاء أيضا كذلك لأنهم يقولون في البدرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب ; ففيها الخمس لأنها ركاز ، ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء [ ص: 31 ] وكان لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام من الأمور العادية ، وأما ما كان من ضرب الإسلام ; فحكمه عندهم حكم اللقطة ; لأنه ملك مسلم ، لا خلاف بينهم في ذلك فقف على هذا الأصل .

وقد استدل بعض أصحابنا وغيرهم من هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم - : والمعدن جبار وفي الركاز الخمس على أن الحكم في زكاة المعادن غير الحكم في الركاز ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة ، ولو كان المعدن والركاز حكمهما سواء لقال - صلى الله عليه وسلم - : والمعدن جبار وفيه الخمس . فلما قال : العجماء جرحها جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس ، علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما وجد منه والله أعلم ، وقد استدل قوم بما ذكرنا ، وفي ذلك عندي نظر ، وقد اختلف الفقهاء فيما يؤخذ من المعادن : فقال أبو حنيفة وأصحابه : فيما خرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص الخمس ، وما كان في المعدن من الذهب والفضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد فيما حصل بيده ما يجب فيه الزكاة ، فزكاه لتمام الحول إن أتى عليه وهو نصاب عنده الحول ، هذا إذا لم يكن معه ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة ، وإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاه ، وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها ، وتزكى بحول الأصل ، وهو قول الثوري ، قالوا : وكل ما ارتكز بالأرض من ذهب أو فضة أو غيرهما من الجواهر فهو ركاز ، وفيه الخمس في قليله وكثيره على ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - وفي الركاز الخمس وقال الأوزاعي : في ذهب المعدن وفضته الخمس ولا شيء غيرهما ، وقال مالك وأصحابه : لا شيء فيما يخرج من [ ص: 32 ] المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالا ذهبا أو خمس أواقي فضة ، وإذا بلغتا هذا المقدار وجب فيهما الزكاة ، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل ، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه يبتدأ فيه الزكاة مكانه ، والمعدن عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ، ولا ينتظر به حولا فإن انقطع عمله ، ولم يكمل فيما خرج بذلك العمل نصاب ثم ابتدأ العمل لم يضم ما خرج إلى ما حصل بالعمل الأول كزرع ابتدئ حصاده قال : وإن وجد الذهب والفضة في المعدن من غير كثير عمل ، كالبدرة وشبهها فهو بمنزلة الركاز وفيه الخمس . قال مالك : وما وجد في المعدن بغير عمل فهو ركاز فيه الخمس وقد مضى ذكر زكاة المعدن ، خاصة في باب ربيعة وهذا كله تحصيل مذهب مالك ، عند جماعة أصحابه ، وروى ابن سحنون عن أبيه عن ابن نافع عن مالك في البدرة تخرج من المعدن أن فيها الزكاة وإنما الخمس في الركاز ، وهو دفن الجاهلية . قال مالك : ولا شيء فيما يخرج من المعادن من غير الذهب والفضة والمعادن في أرض العرب والعجم ، وقال في المعدن في أرض الصلح : إذا ظهر فيها فهو لأهلها ، ولهم أن يمنعوا الناس من العمل فيها ، وأن يأذنوا لهم ولهم ما يصالحون عليه من خمس أو غيره .

قال مالك : وما فتح عنوة فهو إلى السلطان يفعل فيه ما يشاء وقال سحنون في رجل له معادن أنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ، ولا يزكي إلا عن مائتي درهم أو عشرين دينارا في كل واحد ، وقال محمد بن مسلمة : يضم بعضها إلى بعض ، ويزكي الجميع كالزرع ، وذكر المزني عن الشافعي قال : وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن قال المزني : الأولى به على أصله أن يكون ما يخرج من [ ص: 33 ] المعدن فائدة تزكى لحوله بعد إخراجه ، قال : وقال الشافعي : ليس في شيء أخرجته المعادن زكاة غير الذهب والورق ، وقال عنه الربيع في البويطي : ومن أصاب من معدن ذهبا أو ورقا فقد قيل ، هو كالفائدة يستقبل بها الحول ، وقيل إذا بلغ ما تجب فيه الزكاة زكاه مكانه ، وقال الليث بن سعد : ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة تستأنف به حولا ، ولا تجري فيه الزكاة إلا مع مرور الحول ، وهو قول الشافعي فيما حصله المزني من مذهبه ، وقول داود وأصحابه . قال داود : وما خرج من المعادن فليس بركاز ، إنما الركاز دفن الجاهلية ، وفيه الخمس لغير الواجد ، وما يخرج من المعادن فهو فائدة إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك ، وجبت فيها الزكاة في الفضة والذهب على مقداريهما ، وحجة مالك في إيجابه الزكاة في المعادن حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة ، وهذا حديث منقطع الإسناد لا يحتج بمثله أهل [ ص: 34 ] الحديث ، ولكنه عمل يعمل به عندهم في المدينة ، واحتج الشافعي بحديث عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى قوما من المؤلفة قلوبهم ذهبة في تربتها ، بعثها علي من اليمن قال : والمؤلفة إنما حقهم في الزكوات فتبين بهذا أن المعادن سنتها سنة الزكاة ، حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ : قال حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب بعث بذهبة في تربتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمها بين أربعة نفر الأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن بدر الفزاري ، وعلقمة بن علاثة العامري ، ثم أحد بني كلاب ، وزيد الطائي أحد بني نبهان ، وحدثنا سعيد قال : حدثنا قاسم قال : وحدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن ابن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال : بعث علي من اليمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذهبة في أدم مقروظ ولم تحصل من تربتها [ ص: 35 ] فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر : بين زيد الخير ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وابن علاثة أو عامر بن الطفيل ، وذكر الحديث ، وقال الطحاوي : قد أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء من غنائم خيبر وهم المؤلفة قال : وعلى أن عليا لم يكن على الصدقة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستعمل على الصدقة أحدا من بني هاشم . وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : سمعناه من داود بن شابور ويعقوب بن عطاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كنز وجده رجل : إن كنت وجدته في قرية مسكونة أو في سبيل ميتاء فعرفه ، وإن كنت وجدته في قرية جاهلية أو في قرية غير مسكونة أو في غير سبيل ميتاء ، ففيه وفي الركاز الخمس . حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مرة قال : حدثنا مطرف : قال : حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : في الركاز الخمس .




الخدمات العلمية