الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1717 [ ص: 100 ] [ ص: 101 ] نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، حديث واحد ، وهو حديث خامس وسبعون لنافع

مالك ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم .

التالي السابق


هكذا روى مالك هذا الحديث بهذا الإسناد بلا شك في شيء منه ، إلا ابن وهب ، رواه عن مالك ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي [ ص: 102 ] بكر الصديق ، فلم يصنع ابن وهب شيئا ، والصواب عن مالك في إسناد هذا الحديث ما رواه يحيى ، وجمهور رواة الموطأ ، عن مالك ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ، كما رواه مالك سواء .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن عثمان ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، قال : أخبرني نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي يشرب في إناء من فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم قال علي : عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، كانت عائشة عمته لأبيه وأمه ، وكانت أم سلمة خالته - أخت أمه لأبيها ، وأمها : أمة قريبة بنت أبي أمية ، قال علي : ولا أعلم أحدا كان يدخل على زوجتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إحداهما عمته والأخرى خالته غيره ، ورواه ابن علية ، عن أيوب عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن أو عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة - على الشك - والصواب ما قاله مالك إلا أنه اختلف عنه في عبد الله [ ص: 103 ] بن عبد الله بن أبي بكر ، أو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقال القعنبي ، وطائفة فيه كما قال يحيى ، وإن كان عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فهو أبو عتيق وأم سلمة خالته .

وروى هذا الحديث شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع عن امرأة ابن عمر ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي يشرب في إناء الفضة أو إناء من فضة إنما يجرجر في بطنه نارا .

حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، فذكره بإسناده .

وحدثنا أحمد بن قاسم أيضا ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم ، وعلي بن مسلم ، قالا : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، فذكره .

ورواه خصيف ، وهشام بن الغازي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شرب في آنية الفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم .

وهذا عندي خطأ لا شك فيه ، ولم يرو ابن عمر هذا الحديث قط - والله أعلم - ولا رواه نافع عن ابن عمر ، ولو رواه عن ابن عمر ما احتاج أن يحدث به عن ثلاثة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما إسناد شعبة في هذا الحديث فيحتمل أن يكون إسنادا آخر ، ويحتمل أن يكون خطأ ، وهو الأغلب ، والله أعلم .

[ ص: 104 ] والإسناد الذي يجب العمل به في هذا الحديث وتقوم به الحجة - إسناد مالك في ذلك ، وبالله التوفيق .

واختلف العلماء في المعنى المقصود بهذا الحديث ، فقالت طائفة : إنما عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم المشركين الذين كانوا يشربون فيها ، فأخبر عنهم ، وحذرنا أن نفعل مثل ذلك من فعلهم ، وأن نتشبه بهم .

وقال آخرون : كل من علم بتحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشراب في آنية الفضة ثم يشرب فيها استوجب النار ، إلا أن يعفو الله عنه بما ذكر من مغفرته لمن يشاء ممن لا يشرك به شيئا .

وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الشرب بها ، واختلفوا في جواز اتخاذها ، فقال قوم : تتخذ كما يتخذ الحرير والديباج ، وتزكى ولا تستعمل ، وقال الجمهور : لا تتخذ ولا تستعمل ، ومن اتخذها زكاها ، وأما الجرجرة في كلام العرب فمعناها : هدير يردده الفحل ، ويصوت به ، ويسمع من حلقه ، والمقصود جرعه إذا شرب ، قال الشاعر يصف فحلا من الإبل :

وهو إذا جرجر عند الهب جرجر في حنجرة كالجب وهامة كالمرجل المنكب
[ ص: 105 ] وقال امرؤ القيس بن حجر :


إذا سافه العود النباطي جرجرا

أي رغا لبعد الطريق وصعوبته .

وأما قوله في الحديث : يجرجر في بطنه نار جهنم فإنما معناه : الزجر ، والتحذير ، والتحريم ، فجاء بهذا اللفظ كما قال الله عز وجل ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) وهذا الحديث يقتضي الحظر والمنع من اتخاذ أواني الفضة ، واستعمالها في الشرب ، والأكل فيها واتخاذها ، والعلماء كلهم لا يجيزون استعمال الأواني من الذهب ، كما لا يجيزون ذلك من الفضة ; لأن الذهب لو لم يكن الحديث ورد فيه لكان داخلا في معنى الفضة ; لأن العلة في ذلك - والله أعلم - التشبه بالجبابرة ، وملوك الأعاجم ، والسرف ، والخيلاء ، وأذى الصالحين والفقراء الذين لا يجدون من ذلك ما بهم الحاجة إليه ، ومعلوم أن الذهب أعظم شأنا من الفضة ، فهو أحرى بذلك المعنى ، ألا ترى أن النهي لما ورد عن البول في الماء الراكد ، كان الغائط أحرى أن ينهى عنه في ذلك ؟ فكيف وقد ورد النهي عن ذلك منصوصا ؟ .

[ ص: 106 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن أبي ليلى ، قال : كان حذيفة بالمدائن ، فاستسقى ، فأتاه دهقان بآنية من فضة ، فرماه به ، وقال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير والديباج ، وعن الشرب في آنية الذهب والفضة ، وقال : هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني ، قال : حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قالا : أخبرنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء ، قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع ، أمرنا باتباع الجنائز ، وعيادة المريض ، ورد السلام ، وإجابة الداعي ، ونصر المظلوم ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، ونهانا عن خاتم الذهب - أو حلقة الذهب - وعن آنية الفضة ، وعن لبس الحرير ، والديباج والإستبرق ، والميثرة ، والقسي .

[ ص: 107 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن يونس الكديمي ، حدثنا أبو زيد ، وهشام أبو الوليد ، قالا : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني أشعث بن سليم ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء قال : أمرنا بسبع ونهينا عن سبع فذكر مثله .

وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي المثنى ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع فذكر الحديث بمعنى ما تقدم ، وقال فيه : ونهانا عن الشرب في الفضة ، فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة .

حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة ، قال : حدثنا الطحاوي ، قال : حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : استسقى حذيفة من دهقان بالمدائن ، فسقاه في إناء من فضة ، فحذفه ، ثم اعتذر إلى القوم ، فقال : إني كنت نهيته أن يسقيني فيه ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال : لا تشربوا في آنية الفضة [ ص: 108 ] والذهب ، ولا تلبسوا الديباج والحرير ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .

وقد روي عن بعض أصحاب داود أنه كره الشرب في إناء الفضة ، ولم يكره ذلك في الذهب ، وهذا لا يشتغل به لما وصفنا والحمد لله .

وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وقيل له : رجل دعا رجلا إلى طعام ، فدخل فرأى آنية فضة فقال : لا يدخل إذا رآها ، وغلط فيها وفي كسبها ، واستعمالها ، وذكر حديث حذيفة المذكور ، وحديث أم سلمة حديث هذا الباب ، وذكر حديث البراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن آنية الفضة في سبع أشياء نهى عنها .

واختلف العلماء في الشرب في الإناء المفضض بعد إجماعهم على تحريم استعمال إناء الفضة والذهب في شرب أو غيره ، فذكر ابن وهب ، عن مالك ، والليث بن سعد - أنهما كانا يكرهان الشرب والأكل في القدح المضبب بالفضة ، والصفحة التي قد ضببت بالورق ، وقال ابن القاسم ، عن مالك : لا أحب أن يدهن أحد في مداهن الورق ، ولا يستجمر في مجامر الورق ، قال : وسئل مالك عن ثلمة القدح وما يلي الأذن ، فقال مالك : قد سمعت سماعا - كأنه يضعفه - وما علمت فيه بنهي .

[ ص: 109 ] وقال الشافعي : أكره المضبب بالفضة ; لئلا يكون شاربا على الفضة ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضض ، إذا لم يجعل فاه على الفضة ، كالشرب بيده وفيها الخاتم .

قال أبو عمر : اختلف السلف أيضا في هذه المسألة على نحو اختلاف الفقهاء ، فروى خصيف ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه لم يشرب في القدح المفضض لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الشرب في آنية الفضة والذهب ، هكذا قال خصيف في هذا الحديث لما سمع رسول الله صلى الله عليه سلم ، وزاد فيها الذهب ، وقوله لما سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطأ ، وصوابه لما سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب في آنية الفضة والذهب .

وروى ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي عمرو مولى عائشة ، قال : أبت عائشة أن ترخص لنا في تفضيض الآنية .

وعن عمران بن حصين ، وأنس بن مالك ، وطاوس ، ومحمد بن علي بن الحسين ، والحكم بن عتيبة ، وإبراهيم ، وحماد ، والحسن ، وأبي العالية - أنهم كانوا يشربون في الإناء المفضض .

قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن متخذ الآنية من الفضة أو الذهب عليه الزكاة فيها ، إذا بلغت من وزنها ما تجب فيها الزكاة ، وليس ذلك عندهم من باب الحلي المتخذ لزينة النساء ، ولا من باب السيف المحلى ، ولا المصحف المحلى في شيء ، فقف على هذا الأصل ، واعلم أن ما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا شك فيه ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية