الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
591 - وفي رواية البخاري عن أبي سعيد : بالظهر ، فإن شدة الحر من فيح جهنم ، واشتكت النار إلى ربها ، فقالت : رب ! أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، أشد ما تجدون من الحر ، وأشد ما تجدون من الزمهرير " . متفق عليه . وفي رواية للبخاري : فأشد ما تجدون من الحر فمن سمومها وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها .

التالي السابق


591 - ( وفي رواية للبخاري ، عن أبي سعيد " بالظهر " ) : أي : أدخلوها في وقت البرد ، فالباء للتعدية والأمر للندب ( فإن شدة الحر من فيح جهنم ) : بفاء ثم ياء ثم حاء أي : نفسها أو حرارتها أو غليانها ، وقال الطيبي : معناه سطوع حرها وانتشارها اهـ . إذ الفيح الوسع ، وقيل : أصله الواو من فاح يفوح ، فهو فيح كهان يهون فهو هين فخفف . قال ابن الملك : الإبراد بالظهر في شدة الحر ، قيل : مندوب لطالب الجماعة بهذا الحديث ، وقيل : التعجيل أولى لحديث خباب أنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا ، ولم يشكنا أي : لم يزل شكوانا ولم يرخص لنا في التأخير اهـ . والمعول هو الأول والتأخير يقيد إلى آخر [ ص: 527 ] الوقت لئلا يعارض . ( واشتكت النار إلى ربها ) : جملة مبينة للأولى ، وإن دخلت الواو بين المبين والمبين كما في قوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر ( فقالت : رب أكل بعضي بعضا ) : قال التوربشتي : ذكر في أول الحديث أن شدة الحر من فيح جهنم ، وهو محتمل أن يكون حقيقة ، وأن يكون مجازا فبين بقوله ( فأذن لها بنفسين ) : أي : فيها ( نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ) : أن المراد الحقيقة لا غير ، ثم نبه أن أحد النفسين يتولد منه أشد الحر ، والآخر يتولد منه أشد البرد بقوله : ( أشد ما تجدون من الحر ، وأشد ما تجدون من الزمهرير ) : أي : البرد ، وقال القاضي : اشتكاء النار مجاز عن كثرتها وغليانها ، وازدحام أجزائها بحيث يضيق مكانها عنها ، فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر ، والاستيلاء على مكانه ، ونفسها لهبها ، أو خروج ما برز منها مأخوذ من نفس الحيوان ، وهو الهواء الدخاني الذي تخرجه القوة الحيوانية ، ويبقى منه حوالي القلب ، وبيانه : أنه كما جعل مستطابات الأشياء وما يستلذ به الإنسان في الدنيا أشباه نعيم الجنان ، ليكونوا أميل إليه ، كما يدل عليه قوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا الآية . كذلك جعل الشدائد المؤلمة والأشياء المؤذية أنموذجا لأحوال الجحيم ، وما يعذب به الكفرة والعصاة ليزيد خوفهم وانزجارهم ، فما يوجد من السموم المهلكة ، فمن حرها ، وما يوجد من الصرصر المجمدة فهو من زمهريرها ، وهو طبقة من طبقات الجحيم ، ويحتمل هذا الكلام وجوها أخر ، والله أعلم . ذكره الطيبي .

ثم قوله : نفس بالجر على البدلية . وقال الأبهري : يجوز الرفع ، وقوله : أشد بالرفع على الصحيح ، قال السيد جمال الدين : هو خبر مبتدأ محذوف . أي : ذلك أشد ما تجدون ، أو مبتدأ خبره محذوف بقرينة الرواية الآتية . قال الطيبي : وهو أولى لرواية البخاري . قال السيد : ويروى بكسر الدال على البدل ، وقال ابن الملك : وروي بنصب أشد صفة لنفسين أو بدلا ، وفيه : أن نفسين مجرور ، وقال بعضهم : روي في أشد النصب أيضا ، وهو يحتمل أن يكون على حذف أعني ، وعلى كل تقدير ( فما ) إما موصولة أو موصوفة ، ومن الحر ومن الزمهرير بيان له ( متفق عليه ) : قال ميرك : ورواه الأربعة .

( وفي رواية للبخاري : " فأشد ما تجدون من الحر فمن سمومها " ) : بفتح السين ( وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها ) : قال بعضهم : فعلم من الحديث أن في النار شدة الحر وشدة البرد ، وقيل : كل منهما طبقة من طبقات الجحيم . قال ابن الملك : وهذا من جملة الحكم الإلهية حيث أظهر آثار الفيح في زمان الحر ، وآثار الزمهرير في الشتاء لتعود الأمزجة بالحر والبرد ، فلو انعكس لم تحتمله ; إذ الباطن في الصيف بارد فيقاوم حر الظاهر ، وفي الشتاء حار فيقاوم برد الظاهر ، وأما اختلاف حر الصيف وبرد الشتاء في بعض الأيام ، فلعله تعالى يأمر بأن يحفظ تلك الحرارة في موضع ، ثم يرسلها على التدريج حفظا لأبدانهم وأشجارهم ، وكذا البرد .

[ ص: 528 ]



الخدمات العلمية