الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1918 - وعن أبي جري جابر بن سليم ، قال : أتيت المدينة فرأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه ، لا يقول شيئا إلا صدروا عنه ، قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا رسول الله . قال : قلت : عليك السلام يا رسول الله ، مرتين : قال : " لا تقل عليك السلام ، عليك السلام تحية الميت ، قل : السلام عليك "

قلت : أنت رسول الله ؟ فقال : " أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك " قلت : اعهد إلي ، قال : " لا تسبن أحدا " ، قال : فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة . قال : " ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ; إن ذلك من المعروف . وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما فيه ، فإنما وبال

ذلك عليه
" رواه أبو داود ، وروى الترمذي منه حديث السلام ، وفي رواية " فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه " .

التالي السابق


1918 - ( وعن أبي جري ) بضم الجيم وفتح الراء وتشديد الياء ( جابر بن سليم ) بالتصغير ( قال : أتيت المدينة فرأيت رجلا يصدر الناس ) أي : يرجعون ( عن رأيه ) ويعملون بما أمرهم به ويجتنبون عما ينهاهم عنه ، قال الطيبي : أي : ينصرفون عما رآه ويستصوبونه ، شبه المنصرفين عنه بعد توجههم إليه لسؤال مصالحهم ومعاشهم ومعادهم بالواردة إذا صدروا عن المنهل بعد الري ( لا يقول شيئا إلا صدروا عنه ) : أي : عملوا به ، صفة كاشفة موضحة للمقصود ( قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا رسول الله . قلت : عليك السلام يا رسول الله ، مرتين ) إما لعدم سماعه أو لعدم جوابه تأديبا له ( قال : لا تقل ) نهي تنزيه ( عليك السلام ) أي : ابتداء ( عليك السلام تحية الميت ) أي : في زمان الجاهلية حيث لا شعور لهم بالأمور الشرعية ، وقال الطيبي : أراد أنه ليس مما يحيا به الأحياء لأنه شرع له أن يحيي صاحبه ، وشرع له أن يجيبه فلا يحسن أن يوضع ما وضع للجواب موضع التحية ، وإن جاز أن يحيوا بتقديم السلام كقوله - عليه السلام - : السلام عليكم دار قوم مؤمنين اهـ . ويوضحه كلام بعض علمائنا أنه لم يرد به أنه ينبغي أنه يحيا الميت بهذه الصيغة ، إذ قد سلم - صلى الله عليه وسلم - على الأموات بقوله : السلام عليكم ، وإنما أراد به أن هذه تحية تصلح أن يحيا بها الميت لا الحي ، وذلك لمعنيين ؛ أحدهما أن تلك الكلمة شرعت لجواب التحية ، ومن حق المسلم أن يحيي صاحبه بما شرع له من التحية فيجيب صاحبه بما شرع له من الجواب ، فليس له أن يجعل الجواب مكان التحية ، وأما في حق الميت فإن الغرض من التسليم عليه أن تشمله بركة السلام ، والجواب غير منتظر هنالك ، فله أن يسلم عليه بكلتا الصيغتين ، والآخر أن إحدى فوائد السلام أن يسمع المسلم المسلم عليه ابتداء لفظ السلام ليحصل الأمن من قبل قلبه ، فإذا بدأ بعليك لم يأمن حتى يلحق به السلام بل يستوحش ويتوهم أنه يدعو عليه ، فأمر بالمسارعة إلى إيناس الأخ المسلم بتقديم السلام ، وهذا المعنى غير مطلوب في الميت فساغ للمسلم أن يفتتح بالكلمتين بأيتهما شاء ، وقيل : إن عرف العرب إذا سلموا على قبر أن قالوا : عليك السلام ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " عليك السلام تحية الميت " على وفق عرفهم وعاداتهم ; لا لأنه ينبغي أن يسلم على الأموات بهذه الصيغة اهـ . فعلى الأخير يحمل على عرف خاص أو على جهل الرجل بالعرف ، والجاهل بمنزلة الميت ، فما أحسن موقع كلامه - عليه [ ص: 1345 ] الصلاة والسلام - : " عليك السلام تحية الميت " ولا يبعد أن يكون عليك السلام جوابا له ، وتحية الميت خبرا لمبتدأ محذوف ، ويمكن أن يقصد به هذا وهذا ، والله أعلم ( قل : السلام عليك ) أي : إذا سلمت فإنه أفضل ( قلت : أنت رسول الله ، فقال : أنا رسول الله الذي ) خبر مبتدأ مقدر هو : هو ، وهو يحتمل الاحتمالين الآتيين ، أو صفة لله أو لرسول الله على نسخة الضم بناء على صيغة المتكلم في " دعوته " في المواضع الثلاثة الآتية ، فيكون قوله " أنا رسول الله " مقرونا بدلالة المعجزة وإن كانت رسالته معلومة عندهم بالتواتر وظهور أنواع دلائل النبوة وأصناف شمائل الرسالة ، أو لكون المراد من سؤاله معرفة الشخص المسمى بوصف الرسالة الموصوف بدعوى النبوة لا إثباتها بالمعجزة ، وهذا محمل فتح التاء على الخطاب مع أنه يمكن أن يقدر " بي " بعد " دعوته " أي : بالتوسل إلي أو بعد كشفه أي : بسببي ، والله أعلم ( إن أصابك ضر ) بضم الضاد ويفتح " فدعوته " أي : أنت بوسيلتي أو أنا " كشفه " أي : أزال الله ذلك الضر " عنك ، وإن أصابك عام سنة " أي : سنة قحط لا تنبت الأرض شيئا " فدعوته أنبتها لك " أي : صيرها ذات نبات لك " وإذا كنت بأرض قفر " وفي نسخة بالإضافة أي : فلاة خالية من الماء والشجر فهي المفازة المهلكة " أو فلاة " أي : مفازة بعيدة عن العمران فهي المفازة الخطرة ، فأو للتنويع ويحتمل أن تكون للشك " فضلت راحلتك " أي : فحادت ومالت عن الطريق أو غابت عنك وهو الأظهر لقوله " فدعوته ردها عليك ، قلت : اعهد إلي " أي : أوصني ، ومنه قوله - تعالى - ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان " قال : لا تسبن أحدا " أي : لا تشتمه ، وإنما عهد - عليه الصلاة والسلام - عدم السب ، بعلمه أنه كان الغالب على حاله ذلك فنهاه عنه " فقال : فما سببت بعده " أي : بعد عهده أحدا " حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة " أي : لا إنسانا ولا حيوانا سدا للباب ، وإن كان يجوز سب إنسان مخصوص علم موته بالكفر فإنه لا ضرر في عدم سبه ، والأفضل الانشغال بذكر الرحمن حتى عن لعن الشيطان ، فإن خطور ما سوى الله في الخاطر نقصان " قال " أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - " ولا تحقرن شيئا من المعروف " أي : من الأعمال الصالحة أو من أفعال الخير والبر والصلة ولو كان قليلا أو صغيرا ( وأن تكلم أخاك ) قيل أي : وكلم أخاك تكليما فحذف الفعل العامل وأضيف المصدر إلى الفاعل أي : تكليمك أخاك ، ثم وضع الفعل مع أن موضع المصدر وهو معطوف على النهي ، كذا في الشرح ، وهو تكلف ذكره الطيبي ، وقال غيره : قوله : وأن تكلم أخاك إما عطف على شيء وأن ذلك من المعروف مستأنف علة له أو مبتدأ وإن ذلك خبره " وأنت منبسط " أي : بشاش " إليه وجهك " بالرفع على أنه فاعل " منبسط " والجملة حال ، والمعنى : أنك تتواضع له وتطلب الكلام حتى يفرح قلبه بحسن خلقك " إن ذلك " بكسر الهمزة على الاستئناف التغليبي ، وفي نسخة بفتحها للعلة ، والمعنى أن ما ذكر من التكليم مع انبساط الوجه من جملة " المعروف " الذي لا ينكر ولا يحقر فلا يترك " وارفع إزارك إلى نصف الساق " أي : ليكن سروالك وقميصك قصيرين " فإن أبيت " رفع إزارك إلى نصف الساق فارفعه إلى الكعبين ولا تتجاوز عنهما " وإياك وإسبال الإزار " أي : اجتنبه " فإنها " أي : هذه الفعلة أو الخصلة التي هي الإسبال من إرسال الثوب وإرخائه " من المخيلة " بفتح الميم وكسر الخاء أي : الكبر والعجب " وإن الله لا يحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك " أي : سبك ولعنك " وعيرك " أي : لامك وعيرك " بما يعلم فيك " أي : من [ ص: 1346 ] عيبك سواء يكون فيك أم لا " فلا تعيره بما تعلم فيه " أي : فضلا عما لا تعلم فيه " فإنما وبال ذلك " أي : إثم ما ذكر من الشتم والتعيير " عليه " أي : على ذلك المرء ولا يضرك شيء ( رواه أبو داود ) قال الجذري والمنذري والترمذي أيضا والنسائي مختصرا ( وروى الترمذي منه ) أي : من الحديث ( حديث السلام ) أي : صدر الحديث وهو ما يتعلق بالسلام ، قال ميرك : قال الترمذي : حسن صحيح ، ويفهم من كلام المنذري والشيخ الجذري أن الحديث بتمامه عند الترمذي أيضا لكن اللفظ لأبي داود ( وفي رواية ) أي : للترمذي " فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه " قال ميرك : هذه الرواية للترمذي أيضا ، فالأولى أن يقول المؤلف : وفي رواية له ، قلت : وفيه دلالة على أن الحديث في الترمذي بكماله .




الخدمات العلمية