الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3313 - وعنها ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو مسرور . " ، فقال : أي عائشة ! ألم تري أن مجززا المدلجي دخل ، فلما رأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض . متفق عليه .

التالي السابق


3313 - ( وعنها ) : أي : عن عائشة ( قالت : دخل علي ) : أي : عندي ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ) : أي : يوما من الأيام أو نهارا ( وهو مسرور ) : جملة حالية ( فقال : أي عائشة ! ) : أي : يا عائشة ، فأي نداء للقريب ( ألم ترى ) : بحذف النون أي : ألم تعلمي ، يعني : هذا مما يتعين أن تعلمي فاعلمي ( أن مجززا ) : بكسر الزاي الأولى مشددة بعد الجيم ، وفي نسخة بفتحها ( المدلجي ) : نسبة إلى مدلج بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الميم فجيم . وكانت القيافة فيهم ، وفي بني أسد يعترف لهم العرب ( دخل ) : أي : في المسجد ( فلما رأى أسامة وزيدا ) : أي : ابنه ( وعليهما قطيفة ) : أي : كساء غليظ ( قد غطيا ) : أي : بها ( رءوسهما ) : قال الطيبي : فيه دليل على أن أقل الجمع اثنان وليس هو من وادي قوله تعالى : ( فقد صغت قلوبكما ) ، لأنه قد ، اهـ . وقد تقدم تحقيق هذا المبحث . ( وبدت ) : أي : ظهرت وكشفت ( أقدامهما ، فقال ) : أي : المدلجي ( إن هذه الأقدام بعضها من بعض ) : قال النووي - رحمه الله - : وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة بن زيد مع إلحاق الشرع إياه به ، لكونه أسود شديد السواد ، وكان زيد أبيض ، فلما قضى هذا القائف بإلحاق نسبه مع اختلاف اللون ، وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه زاجرا لهم عن الطعن في نسبه ، وكانت أم أسامة حبشية سوداء اسمها بركة ، وكنيتها أم أيمن ، واختلفوا في العمل بقول القائف ، واتفق القائلون به على أنه يشترط فيه العدالة ، وهل يشترط العدد أم يكتفى بواحد ؟ والأصح الاكتفاء بواحد بهذا الحديث ، اهـ .

وقيل : فيه جواز الحكم بفعل القيافة ، وبه قال الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة . أقول : ليس في هذا الحديث ثبوت النسب بعلم القيافة ، وإنما هو تقوية ودفع تهمة ورفع مظنة ، كما إذا شهد عدل برؤية هلال ووافقه منجم ، فإن قول المنجم لا يصلح أن يكون دليلا مستقلا لا نفيا ولا إثباتا ، ويصح أن يكون مقويا للدليل الشرعي ، فتأمل ! قال القاضي : فيه دليل على اعتبار قول القائف في الأنساب ، وأن له مدخلا في إثباتها ، وإلا لما استبشر به ، ولا أنكر عليه ، إذ لا يجوز أن يقال رجما بالغيب ما يحتمل أن يوافق الحق في بعض الصور وفاقا ، وخصوصا ما يكون صوابه غير معتبر ، وخطؤه قذف محصنة ، ولا الاستدلال بما ليس بدليل ، وإليه ذهب عمر وابن عباس وأنس ، وغيرهم من الصحابة ، وبه قال عطاء ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي وأحمد ، وعامة أهل الحديث ، وقالوا : إذا ادعى رجلان أو أكثر نسب مولود مجهول النسب ، ولم يكن له بينة ، أو اشتركوا في وطء امرأة بالشبهة فأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهم ، وتنازعوا فيه حكم القائف فبأيهم ألحقه لحقه ، ولم يعتبره أصحاب أبي حنيفة ، بل قالوا : يلحق الولد بهم جميعا . وقال أبو يوسف : يلحق رجلين وثلاثا ، ولا يلحق بأكثر ولا بامرأتين ، وقال أبو حنيفة : يلحق بهما أيضا ، وكل ذلك ضعيف . قال ابن الهمام : وإذا كانت الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت نسبه منه ، سواء كانت في المرض أو الصحة ، وصارت أم ولد له اتفاقا إلا أنه يضمن نصيب شريكه في اليسار والإعسار . قال : وإن ادعياه معا يثبت نسبه منهما ، وكانت الأم أم ولد لهما فتخدم كلا منهما يوما ، وإذا مات أحدهما عتقت ، ويرث الابن من كل منهما ميراث ابن كامل ، ويرثان منه ميراث أب واحد ، فإذا مات أحدهما كان كل من ميراث الابن للباقي منهما . وقال : وبقولنا قال الثوري وإسحاق بن راهويه ، وكان الشافعي يقوله في القديم ، ورجح عليه أحمد حديث القيافة ، وقيل : يعمل به إذا فقدت القافة ، وقال الشافعي - رحمه الله - : يرجع إلى قول القائف ، فإن لم يوجد القائف وقف حتى بلغ الولد ، فينسب إلى أيهما شاء ، فإن لم ينسب إلى واحد منهما كان نسبه موقوفا لا يثبت له نسب من غير أمه ، والقائف : هو الذي يتبع آثار الآباء في الأبناء وغيرها من الآثار من قاف أثره يقوفه ، مقلوب قفا أثره مثل أرى مقلوب رأى ، والقيافة مشهورة في بني مدلج ، فإن لم يكن مدلجي فغيره ، وهو قول أحمد ، وقال به مالك في الآمالي . وهذا لأن إثبات النسب من شخصين مع علمنا بأن الولد لا يتخلق من ماءين ; [ لأنها كما تعلق من رجل انسد فم الرحم متعذر ] ، فقلنا بالشبه ، وهذا يفيد أن القافة لو ألحقته بهما لا يلحق ، وهو قول الشافعي أنه يبطل قولهم إذا [ ص: 2169 ] ألحقوا بهما ، وقد ثبت العمل بالشبه بقول القائف حيث سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما أخرج الستة في كتبهم ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مسرورا فقال : " يا عائشة ألم تري مجززا المدلجي دخل علي وعندي أسامة بن زيد وزيد وعليهما قطيفة وقد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما ، فقال : هذه الأقدام بعضها من بعض " . وقال أبو داود : وكان أسامة أسود ، وكان زيد أبيض .

قال صاحب الهداية : ولنا كتاب عمر - رضي الله تعالى عنه - إلى شريح في هذه الحادثة ذكر أن شريحا كتب إلى عمر بن الخطاب في جارية بين شريكين جاءت بولد ، فادعياه ، فكتب إليه عمر أنهما لبسا فلبس عليهما ، ولو بينا لبين لهما هو ابنهما يرثهما ويرثانه ، وهو للباقي منهما ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكر ، فحل محل الإجماع . قال ابن الهمام : والله تعالى أعلم بذلك ، والمعروف في قصة عمر هو ما قال سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر ، فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما ، وقال الشعبي : وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثانه ويرثهما ، وذكره سعيد أيضا . وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة ، أو وطئها رجلان في طهر ، فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعا ، فحملت فولدت غلاما يشبههما ، فرفعا ذلك إلى عمر فدعا القافة فنظروه فقالوا : نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، عن عروة بن الزبير أن رجلين ادعيا ولدا ، فدعا عمر القافة واقتدى في ذلك ببصر القافة ، وألحقه بأحد الرجلين ، ثم ذكر أيضا عبد الرزاق بعد ذلك ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : لما دعا عمر القافة فرأوا شبهه فيهما ، ورأى عمر مثل ما رأت القافة قال : قد كنت علمت أن الكلبة لا تلد إلا كلبا ، فيكون كل جرو لأبيه ، وما كنت أرى أن ماءين يجتمعان في ولد واحد ، وأسند عبد الرزاق أيضا عن معمر ، عن قتادة قال : رأى القافة وعمر جميعا شبهه فيهما فقال : هو بينكما يرثكما وترثانه . قال : فذكرت ذلك لابن المسيب ، فقال : نعم هو الآخر منهما .

قال : وقول المصنف : - يعني صاحب الهداية - وعن علي مثل ذلك يشير إلى ما أخرج الطحاوي في شرح الآثار عن سماك عن مولى مخزومي قال : وقع رجلان في طهر واحد فعلقت الجارية ، فلم يدر من أيهما هو فأتيا عليا ، فقال : هو بينكما يرثكما وترثانه ، وهو للباقي منكما .

ورواه عبد الرزاق ، أخبرنا عن سفيان الثوري ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن علي قال : أتاه رجلان وقعا على امرأة في طهر ، فقال : الولد بينكما وهو للباقي منكما . وضعفه البيهقي فقال : يرويه سماك عن رجل مجهول لم يسمه ، وعن قابوس وهو غير محتج به ، عن أبي ظبيان عن علي قال : وقد روي عن علي مرفوعا بخلاف ذلك ، ثم أخرج من طريق أبي داود ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا الثوري ، عن صالح الهمذاني عن الشعبي ، عن عبد خير ، عن زيد بن أرقم قال : أتي علي - كرم الله وجهه - وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ، فسأل اثنين أتقران بهذا الولد ؟ قالا : لا ، حتى سألهم جميعا ، فجعل كلما سأل اثنين قالا : لا ، فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة ، وجعل عليه ثلثي الدية . قال : فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه . واعلم أن أبا داود رواه أيضا موقوفا وكذا النسائي عن علي بإسناد أجود من إسناد المرفوع ، وكذا رواه الحميدي في مسنده ، وقال فيه : فأغرمه ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه ، وهو حسن ، بين المراد بالدية فيما قبله ، وحاصل ما تحصل من هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - سر بقول القافة ، وأن عمر قضى على وفق قولهم ، وأنه - عليه الصلاة والسلام - لم ينكر إثبات علي النسب بالقرعة ، ولا شك أن المعول على ما ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك هو سروره بقول القافة ، فأجاب المصنف - أي صاحب الهداية - عنه بأن سروره كان لأن الكفار كانوا يطعنون في نسب أسامة ، لما تقدم عن أبي داود أنه كان أسود ، وزيد أبيض ، فكانوا لذلك يطعنون في ثبوت نسبه منه ، وكانوا مع ذلك يعتقدون قول القافة ، فكان قول القافة مقطعا لطعنهم ، فسروره - لا شك - أنه لما يلزمه من قطع طعنهم واستراحة مسلم من التأذي بنفي نسبه وظهور خطئهم والرد عليهم ، ثم يحتمل ذلك كون القيافة حقا في نفسها ، فيكون متعلق سروره أيضا ، أو ليست حقا فيختص سروره بما قلنا ، فيلزم أن يكون حكمنا بكون سروره بها نفسها فرع حكمنا بأنه حق ، فيتوقف على ثبوت حقيتها ، ولم تثبت بعد ، وطعن يطعن - بضم عين المضارع - في الرمح والنسب .

[ ص: 2170 ] قال ابن الهمام : واعلم أنه استدل على صحة القيافة بحديث اللعان حيث قال - عليه الصلاة والسلام - فيه : ( إن جاءت به أصهب أسحم خمش الساقين فهو لزوجها ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به ) : وهذه هي القيافة والحكم بالشبه ، وأجاب أصحابنا بأن معرفته ذلك - صلى الله تعالى عليه وسلم - من طريق الوحي لا القيافة ، وقد يقال : الظاهر عند إرادة تعريفه أن يعرف أنه ابن فلان ، والحق أنه ينقلب عليهم ; لأنه لو كانت القيافة معتبرة لكان شرعية اللعان تختص بما إذا لم يشبه المزني به شبه الزوج أو لا لحصول الحكم الشرعي حينئذ ; لأنه ليس ابنا للنافي ، وهو مستلزم للحكم بكذبهما في نسب الولد ، وأجيب أيضا : بأنه لا يلزم من حقية قيافته - صلى الله عليه وسلم - حقية قيافة غيره ، وفيه نظر فإن القيافة ليست إلا باعتبار أمور ظاهرة يستوي الناس في معرفتها ، ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - سر بفعل علي - رضي الله عنه - وهو إلحاقه بالقرعة ، وقد نقل ذلك عن بعض العلماء ، وطريقه صحيحة ، لتقريره - عليه الصلاة والسلام - إياه ، بل سر به ; لأن الضحك دليله مع عدم الإنكار ، وإذا لم يقل به يلزمه الحكم بنسخه ، غير أنه يبقى ما ثبت عن عمر من العمل بقول القافة ، فإنه من القوة بكثرة الطرق بحيث لا يعارضه المروي عنه من قصة شريح لخفائها وعدم تبينها ، وإن كانت قصة مرسلة ، فإن سليمان بن يسار عن عمر مرسل ، وكذا عروة عنه ، وهما إمامان لا يرويان إلا عن قوي مع حجية المرسل عندنا ، فكيف به من هذين ؟ على أن قول سعيد بن المسيب : " نعم " ، في إسناد عبد الرزاق ربما يكون كالموصل بعمر ; لأن سعيدا روى عن عمر ، وبالجملة فلا خلاف في ثبوت هذا ، وإذا ثبت عمل عمر بالقيافة لزم أن ذلك الاحتمال في سروره عليه الصلاة هو كون الحقبة من متعلقاته ثابت ، والشافعي لما لم يقل بنسبة الولد إلى اثنين يلزمه اعتقاد أن فعل عمر كان عن رأيه لا بقول القافة ، فيلزمه القول بثبوت النسب من اثنين إذ حل محل الإجماع من الصحابة ، وهو ملزوم لأحد الأمرين : إما سروره - عليه الصلاة والسلام - لم يكن متعلقا إلا برد طعنهم ، أو ثبوت نسبه ، وبه نقول ، إلا أنا نقول : إنه من مائهما كما يفهم من بعض الروايات ، لأن الماءين لا يجتمعان في الرحم إلا متعاقبين ، فإذا فرض أنه خلق من الأول لم يتصور خلقه من الثاني ، بل إنه يزيد الأول في سمعه قوة وفي بصره وأعضائه ، وأما التعليل بأنه ينسد فم الرحم فقاصر على قولنا : إن الحامل تحيض ، فأما من يقول [ لا ] تحيض لا يمكنه القول بالانسداد ، فيثبت النسب مع الحكم بأنه في نفي الأمر من ماء أحدهما . ( متفق عليه ) . ورواه الأربعة .




الخدمات العلمية