الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( 13 ) كتاب العتق

الفصل الأول

3382 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام - : " من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه " . متفق عليه .

التالي السابق


( 13 ) كتاب العتق

في المغرب : العتق الخروج من المملوكية ، يقال : أعتق العبد عتقا وعتاقا وعتاقة وهو عتيق وأعتقه مولاه ، ثم جعل عبارة عن الكرم وما يتصل به كالحرية فقيل : فرس عتيق رابع ، وعتاق الحمل والطير كرائمها ، وقيل : مدار التركيب على التقدم ، ومنه العاتق لما بين المنكب والعنق لتقدمه ، والعتيق والقديم . وقال ابن الهمام : لا يخفى ما في الإعتاق من المحاسن ، فإن الرق أثر الكفر ، فالعتق إزالة أثر الكفر وهو إحياء حكمي ، فإن الكافر ميت معنى ، فإن لم ينتفع بحياته ولم يذق حلاوته العليا فصار كأنه لم يكن له روح قال تعالى جل جلاله : أومن كان ميتا فأحييناه أي كافرا فهديناه ، ثم أثر ذلك الكفر الرق الذي هو سلب أهليته لما تأهل له العقلاء من ثبوت الولايات على الغير من إنكاح البنات والتصرف في المال والشهادات ، وامتناعه بسبب ذلك عن كثير من العبادات ، كصلاة الجمعة والحج والجهاد [ ص: 2213 ] ونحوها ، وفي هذا كله من الضرر ما لا يخفى ، فإنه صار بذلك ملحقا بالأموات في كثير من الصفات ، فكان العتق إحياء له معنى ، ولذا كان - والله تعالى أعلم - جزاؤه - عند الله تعالى إذا كان العتق خالصا لوجهه الكريم - الإعتاق من نار الجحيم ، كما وردت به الأخبار عن سيد الأخيار ، والعتق والعتاق لغة عبارتان عن القوة ، ومنه البيت العتيق لاختصاصه بالقوة الدافعة عن ملك أحد في عصر من الأعصار ، وقيل : للقديم عتيق لقوة سبقه ، ومنه سمي الصديق عتيقا لجماله ، وقيل : لقدمه في الخير ، وقيل : لعتقه من النار ، وقيل : لشرفه ، فإنه قوة في الحسب ، وهو معنى ما ذكر أنه يقال للكريم بمعنى الحسيب ، وقيل : قالت أمه لما وضعته : هذا عتيقك من الموت ، وكان لا يعيش لها ولد ، وقيل : هو اسمه العلم فيمكن أن يكون سبب وصفه له الجمال أو تفاؤلا بالحسب المنيف أو بعدم الموت ، وكل هذه المعهودات ترجع إلى زيادة قوة في معانيها ، وإذا كان العتق لغة القوة فالإعتاق إثبات القوة كما قال في المبسوط : العتق في الشرع خلوص حكمي يظهر في الآدمي عما بيناه سابقا بالرق ، ولا يخفى ثبوت القدرة الشرعية لقدرته على ما لم يكن يقدر عليه ، وشرطه أن يكون المعتق حرا بالغا مالكا ، وحكمه زوال الرق عنه ، وصفته في الاختياري أنه مندوب إليه غالبا ، وقد يكون معصية ، كما إذا غلب على ظنه أنه لو أعتقه يذهب إلى دار الحرب ، أو يرتد ، أو يخاف منه السرقة ، أو قطع الطريق ، وينفذ عتقه مع تحريمه خلافا للظاهرية ، وقد يكون واجبا كالكفارة ، وقد يكون مباحا كالعتق لزيد ، والقربة ما يكون خالصا لله تعالى ، وأما ما روي عن مالك : إذا كان العبد الكافر أغلى ثمنا من العبد المسلم يكون عتقه أفضل من عتق المسلم ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( أفضلها أغلاها ) بالمهملة والمعجمة ، فبعيد عن الصواب ويجب تقييده بالأغلى من المسلمين ; لأنه تمكين للمسلم من مقاصده وتفريغه ، والوجه الظاهر في استحباب عتق الكافر تحصيل الجزية منه للمسلمين ، وأما تفريغه للتأمل فيسلم فهو احتمال ، والله تعالى أعلم وأحكم .

الفصل الأول

3382 - ( عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أعتق رقبة ) : الرقبة عضو خاص مما يطلق ويراد به الذات من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، في النهاية : الرقبة في الأصل العتق ، فجعلت كناية عن جميع ذات الإنسان تسمية للشيء ببعضه ، فإذا قال : أعتق رقبة فكأنه قال أعتق عبدا أو أمة ، فالمعنى من أعتق نفسا مملوكة ( مسلمة ) : والتقييد بالإسلام ليكون ثوابه أكثر ( أعتق الله ) : ذكر أعتق للمشاكلة والمعنى أنجاه ( بكل عضو منه ) : أي من المعتق ( عضوا ) : أي منه كما في نسخة صحيحة ، وكما في رواية مسلم على ما ذكره العسقلاني والسيوطي أي عضوا كائنا من المعتق ( من النار ) : متعلق بأعتق الثاني أي أنقذه منها ( حتى فرجه ) : بالنصب عطف على ( عضوا ) وما بعد حتى هنا أدون مما قبله كقولهم : حج الناس حتى المشاة ، أي حتى أعتق الله فرجه ( بفرجه ) : أي سواء كان ذكرا أو أنثى . قال الأشرف رحمه الله : إنما خص الفرج بالذكر ، لأنه محل أكبر الكبائر بعد الشرك ، وهو كقولهم : مات الناس حتى الكرام ، فيفيد قوة . قال المظهر : ذكر الفرج تحقير بالنسبة إلى باقي الأعضاء اهـ .

والأظهر أن المراد بذكره المبالغة في تعلق الإعتاق بجميع أعضاء بدنه ، ويؤيده ما ورد : ( أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما ; لأن الله تعالى جل جلاله جاعل وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محرره من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة ; لأن الله تعالى جل جلاله جاعل وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار يوم القيامة ) . رواه أبو داود ، وابن حبان في صحيحه عن أبي نجيح السلمي ، وقال الخطابي : يستحب عند بعض أهل العلم أن لا يكون المعتق خصيا كيلا يكون ناقص العضو ، ليكون معتقه قد نال الموعود في عتق أعضائه كلها من [ ص: 2214 ] النار ، بإعتاقه إياه من الرق في الدنيا . ( متفق عليه ) . وكذا رواه الترمذي على ما في الجامع الصغير . قال ابن الهمام : رواه الستة في كتبهم عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " أيما امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار " . وفي لفظ : " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو عضوا من أعضائه من النار حتى الفرج بالفرج " . أخرجه الترمذي في الأيمان والنذور ، ورواه ابن ماجه في الأحكام ، والباقون في العتق ، وأخرج أبو داود وابن ماجه ، عن كعب بن مرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار " . وروى أبو داود : " وأيما رجل أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار ، يجزئ مكان عظمين منهما عظما من عظامه " . وهذا يستقل بما ذكره المصنف يعني صاحب الهداية من استحباب عتق الرجل الرجل والمرأة المرأة ، لأنه ظهر أن عتقه بعتق المرأتين بخلاف عتقه رجلا اهـ .

لكن يبقى قوله : والمرأة المرأة ، ولعل مأخذه حديث الفرج بالفرج ، وفي الجامع الصغير : ( أيما امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما فهو فكاكه من النار ، يجزئ بكل عظم منه عظما منه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فهي فكاكها من النار ، تجزئ بكل عظم منها عظما منها ، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين فهما فكاكه من النار ، يجزئ بكل عظمين منهما عظما منه ) . رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن عوف ، وأبو داود وابن ماجه والطبراني عن مرة بن كعب ، والترمذي عن أبي أمامة .




الخدمات العلمية