[ ص: 23 ] بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي جعل أسباب من انقطع إليه موصولة ، ورفع مقام الواقف ببابه ، وآتاه مناه وسؤله ، وأدرج في زمرة أحبابه من لم تكن نفسه بزخارف المبطلين معلولة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة برداء الإخلاص مشمولة ، وللملكوت الأعلى صاعدة مقبولة ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، الذي بلغ به من إكمال الدين مأموله ، وآتاه جوامع الكلم ، فنطق بجواهر الحكم ، وفاحت من حدائق أحاديثه في الخافقين شذا أزهارها المطلولة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ذوي الأصول الكريمة والأمجاد المأثولة .
أما بعد : فإن علم الحديث رفيع القدر ، عظيم الفخر ، شريف الذكر ، لا يعتني به إلا كل حبر ، ولا يحرمه إلا كل غمر ، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر ، وكنت ممن عبر إلى لجة قاموسه ، حيث وقف غيري بشاطئه ، ولم أكتف بورود مجاريه ، حتى بقرت عن منبعه ومناشئه ، وقلت لمن على الراحة عول ، متمثلا بقول الأول :
لسنا وإن كنا ذوي حسب يوما على الأحساب نتكل [ ص: 24 ] نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
مع ما أمدني الله تعالى به من العلوم ، كالتفسير الذي به يطلع على فهم الكتاب العزيز ، وعلومه التي دونتها ولم أسبق إلى تحريرها الوجيز ، والفقه الذي من جهله فأنى له الرفعة والتمييز ، واللغة التي عليها مدار فهم السنة والقرآن ، والنحو الذي يفتضح فاقده بكثرة الزلل ولا يصلح الحديث للحان ، إلى غير ذلك من علوم المعاني والبيان ، التي لبلاغة الكتاب والحديث تبيان ، وقد ألفت في كل ذلك مؤلفات ، وحررت فيها قواعد ومهمات ، ولم أكن كغيري ممن يدعي الحديث بغير علم ، وقصارى أمره كثرة السماع على كل شيخ وعجوز ، غير ملتفت إلى معرفة ما يحتاج المحدث إليه أن يحوز ، ولا مكترث بالبحث عما يمتنع أو يجوز ، ثم ظن الانفراد بجمع الكتب والضن بها على طلابها ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا عاريا عن الانتفاع بخطابها .
إن سئل عن مسألة في المصطلح لم يهتد إلى جوابها ، أو عرضت له مسألة في دينه لم يعرف خطأها من صوابها ، أو لو تلفظ بكلمة من الحديث لم يأمن أن يزل في إعرابها ، فصار بذلك ضحكة للناظرين ، وهزأة للساخرين ، والله تعالى حسبي وهو خير الناصرين .
هذا ، وقد طال ما قيدت في هذا الفن فوائد وزوائد ، وعلقت فيه نوادر وشوارد ، وكان يخطر ببالي جمعها في كتاب ، ونظمها في عقد لينتفع بها الطلاب ، فرأيت كتاب " التقريب والتيسير " لشيخ الإسلام الحافظ ، ولي
[ ص: 25 ] الله تعالى
أبي زكريا النواوي ، كتابا جل نفعه ، وعلا قدره ، وكثرت فوائده ، وغزرت للطالبين موائده ، وهو مع جلالته وجلالة صاحبه وتطاول هذه الأزمان من حين وضعه لم يتصد أحد إلى وضع شرح عليه ، ولا الإنابة إليه .
فقلت لعل ذلك فضل ادخره الله تعالى لمن يشاء من العبيد ، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد ، فقوي العزم على كتابة شرح عليه كافل بإيضاح معانيه ، وتحرير ألفاظه ومبانيه ، مع ذكر ما بينه وبين أصله من التفاوت في زيادة أو نقص ، أو إيراد أو اعتراض ، مع الجواب عنه إن كان مضيفا إليه زوائد علية ، وفوائد جلية ، لا توجد مجموعة في غيره ، ولا سار أحد قبله كسيره ، فشرعت في ذلك مستعينا بالله تعالى ، ومتوكلا عليه ، وحبذا ذاك اتكالا ، وسميته : " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي " ، وجعلته شرحا لهذا الكتاب خصوصا ، ثم لمختصر ابن الصلاح ولسائر كتب الفن عموما .
والله تعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه ، فهو بإجابة السائل أحرى ، وينفع به مؤلفه وقارئه في الدنيا والأخرى .
[ ص: 23 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ أَسْبَابَ مَنِ انْقَطَعَ إِلَيْهِ مَوْصُولَةً ، وَرَفَعَ مَقَامَ الْوَاقِفِ بِبَابِهِ ، وَآتَاهُ مُنَاهُ وَسُؤْلَهُ ، وَأَدْرَجَ فِي زُمْرَةِ أَحْبَابِهِ مَنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسُهُ بِزَخَارِفِ الْمُبْطِلِينَ مَعْلُولَةً ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، شَهَادَةً بِرِدَاءِ الْإِخْلَاصِ مَشْمُولَةً ، وَلِلْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى صَاعِدَةً مَقْبُولَةً ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، الَّذِي بَلَغَ بِهِ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ مَأْمُولَهُ ، وَآتَاهُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، فَنَطَقَ بِجَوَاهِرِ الْحِكَمِ ، وَفَاحَتْ مِنْ حَدَائِقِ أَحَادِيثِهِ فِي الْخَافِقَيْنِ شَذَا أَزْهَارِهَا الْمَطْلُولَةِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْأُصُولِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَمْجَادِ الْمَأْثُولَةِ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ عِلْمَ الْحَدِيثِ رَفِيعُ الْقَدْرِ ، عَظِيمُ الْفَخْرِ ، شَرِيفُ الذِّكْرِ ، لَا يَعْتَنِي بِهِ إِلَّا كُلُّ حَبْرٍ ، وَلَا يُحْرَمُهُ إِلَّا كُلُّ غَمْرٍ ، وَلَا تَفْنَى مَحَاسِنُهُ عَلَى مَمَرِّ الدَّهْرِ ، وَكُنْتُ مِمَّنْ عَبَرَ إِلَى لُجَّةِ قَامُوسِهِ ، حَيْثُ وَقَفَ غَيْرِي بِشَاطِئِهِ ، وَلَمْ أَكْتَفِ بِوُرُودِ مَجَارِيهِ ، حَتَّى بَقَرْتُ عَنْ مَنْبَعِهِ وَمَنَاشِئِهِ ، وَقُلْتُ لِمَنْ عَلَى الرَّاحَةِ عَوَّلَ ، مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الْأَوَّلِ :
لَسْنَا وَإِنْ كُنَّا ذَوِي حَسَبٍ يَوْمًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ [ ص: 24 ] نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا
تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا
مَعَ مَا أَمَدَّنِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْعُلُومِ ، كَالتَّفْسِيرِ الَّذِي بِهِ يُطَّلَعُ عَلَى فَهْمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَعُلُومِهِ الَّتِي دَوَّنْتُهَا وَلَمْ أُسْبَقْ إِلَى تَحْرِيرِهَا الْوَجِيزِ ، وَالْفِقْهِ الَّذِي مَنْ جَهِلَهُ فَأَنَّى لَهُ الرِّفْعَةُ وَالتَّمْيِيزُ ، وَاللُّغَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ فَهْمِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ ، وَالنَّحْوِ الَّذِي يَفْتَضِحُ فَاقِدُهُ بِكَثْرَةِ الزَّلَلِ وَلَا يَصْلُحُ الْحَدِيثُ لِلَحَّانٍ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ ، الَّتِي لِبَلَاغَةِ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ تِبْيَانٌ ، وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مُؤَلَّفَاتٍ ، وَحَرَّرْتُ فِيهَا قَوَاعِدَ وَمُهِمَّاتٍ ، وَلَمْ أَكُنْ كَغَيْرِي مِمَّنْ يَدَّعِي الْحَدِيثَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَقُصَارَى أَمْرِهِ كَثْرَةُ السَّمَاعِ عَلَى كُلِّ شَيْخٍ وَعَجُوزٍ ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَحْتَاجُ الْمُحَدِّثُ إِلَيْهِ أَنْ يَحُوزَ ، وَلَا مُكْتَرِثٍ بِالْبَحْثِ عَمَّا يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ ، ثُمَّ ظَنَّ الِانْفِرَادَ بِجَمْعِ الْكُتُبِ وَالضَّنِّ بِهَا عَلَى طُلَّابِهَا ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا عَارِيًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِخِطَابِهَا .
إِنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْمُصْطَلَحِ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى جَوَابِهَا ، أَوْ عَرَضَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ فِي دِينِهِ لَمْ يَعْرِفْ خَطَأَهَا مِنْ صَوَابِهَا ، أَوْ لَوْ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَزِلَّ فِي إِعْرَابِهَا ، فَصَارَ بِذَلِكَ ضُحْكَةً لِلنَّاظِرِينَ ، وَهُزْأَةً لِلسَّاخِرِينَ ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَسْبِي وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ .
هَذَا ، وَقَدْ طَالَ مَا قَيَّدْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ فَوَائِدَ وَزَوَائِدَ ، وَعَلَّقْتُ فِيهِ نَوَادِرَ وَشَوَارِدَ ، وَكَانَ يَخْطُرُ بِبَالِي جَمْعُهَا فِي كِتَابٍ ، وَنَظْمُهَا فِي عِقْدٍ لِيَنْتَفِعَ بِهَا الطُّلَّابُ ، فَرَأَيْتُ كِتَابَ " التَّقْرِيبِ وَالتَّيْسِيرِ " لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ الْحَافِظِ ، وَلِيِّ
[ ص: 25 ] اللَّهِ تَعَالَى
أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَاوِيِّ ، كِتَابًا جَلَّ نَفْعُهُ ، وَعَلَا قَدْرُهُ ، وَكَثُرَتْ فَوَائِدُهُ ، وَغَزُرَتْ لِلطَّالِبِينَ مَوَائِدُهُ ، وَهُوَ مَعَ جَلَالَتِهِ وَجَلَالَةِ صَاحِبِهِ وَتَطَاوُلِ هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ حِينِ وَضْعِهِ لَمْ يَتَصَدَّ أَحَدٌ إِلَى وَضْعِ شَرْحٍ عَلَيْهِ ، وَلَا الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ .
فَقُلْتُ لَعَلَّ ذَلِكَ فَضْلٌ ادَّخَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْعَبِيدِ ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا يُرِيدُ ، فَقَوِيَ الْعَزْمُ عَلَى كِتَابَةِ شَرْحٍ عَلَيْهِ كَافِلٍ بِإِيضَاحِ مَعَانِيهِ ، وَتَحْرِيرِ أَلْفَاظِهِ وَمَبَانِيهِ ، مَعَ ذِكْرِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ ، أَوْ إِيرَادٍ أَوِ اعْتِرَاضٍ ، مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ إِنْ كَانَ مُضِيفًا إِلَيْهِ زَوَائِدَ عَلِيَّةً ، وَفَوَائِدَ جَلِيَّةً ، لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةً فِي غَيْرِهِ ، وَلَا سَارَ أَحَدٌ قَبْلَهُ كَسَيْرِهِ ، فَشَرَعْتُ فِي ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ ، وَحَبَّذَا ذَاكَ اتِّكَالًا ، وَسَمَّيْتُهُ : " تَدْرِيبَ الرَّاوِي فِي شَرْحِ تَقْرِيبِ النَّوَاوِي " ، وَجَعَلْتُهُ شَرْحًا لِهَذَا الْكِتَابِ خُصُوصًا ، ثُمَّ لِمُخْتَصَرِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَلِسَائِرِ كُتُبِ الْفَنِّ عُمُومًا .
وَاللَّهَ تَعَالَى أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ ، فَهُوَ بِإِجَابَةِ السَّائِلِ أَحْرَى ، وَيَنْفَعَ بِهِ مُؤَلِّفَهُ وَقَارِئَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى .