الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 158 ] ذكر ما يدل على النسخ

أخبرني أبو الفضل محمد بن بنيمان بن يوسف الأديب ، أخبرنا عبد الرحمن بن حمد ، أخبرنا أحمد بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ ، أخبرنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا عمرو بن منصور ، حدثنا علي بن عياش ، حدثنا شعيب ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار .

أخبرني عبد المنعم بن عبد الله بن محمد ، أخبرنا أبو بكر عبد الغفار بن محمد بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن الحسن القاضي ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن رجلين : أحدهما جعفر بن عمرو بن أمية الضمري ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ، ثم صلى ولم يتوضأ .

هذا حديث صحيح ثابت متفق عليه ، أخرجاه في الصحيح من حديث إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن مسلم الزهري .

[ ص: 159 ] أخبرني أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد الطوسي من أصله العتيق ، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبد القادر بن محمد ، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد ، أخبرنا أبو بكر الشافعي ، أخبرنا إسحاق بن الحسن الحربي ، حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ، ثم صلى ولم يتوضأ .

هذا حديث حسن متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ، عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، وأخرجه مسلم عن القعنبي ، وفيما روى الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني عن الشافعي يقال : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء مما مست النار ، وإنما قلنا : لا يتوضأ منه ؛ لأنه عندنا منسوخ ، ألا ترى أن عبد الله بن عباس إنما صحبه بعد الفتح يروى عنه : أنه رآه يأكل من كتف شاة ، ثم صلى ولم يتوضأ ، وهذا عندنا من أبين الدلالات على أن الوضوء منه منسوخ ، أو أن أمره بالوضوء منه بالغسل والتنظيف ، والثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يتوضأ منه ، ثم عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عباس ، وعامر بن ربيعة ، وأبي بن كعب ، وأبي طلحة ، كل هؤلاء لم يتوضئوا منه .

وذكر الشافعي أيضا في رواية حرملة فقال : حديث ابن عباس أدل الأحاديث على أن الوضوء مما مست النار منسوخ ، وذلك أن صحبة ابن عباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - متأخرة ، إنما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربع عشرة سنة ، قد قيل : ست عشرة سنة ، وقيل : ثلاث عشرة سنة .

[ ص: 160 ] أخبرنا أبو العلاء الحافظ ، أخبرنا أبو الفضل جعفر بن عبد الواحد بن محمد ، أخبرنا محمد بن عبد الله الضبي ، أخبرنا سليمان بن أحمد ، حدثنا عباس بن الفضل الأسفاطي ، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدثنا قريش بن حيان ، عن يونس بن أبي خلدة ، عن محمد بن مسلمة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل آخر أمره لحما ، ثم صلى ولم يتوضأ .

ويمكن أن يقال : إن الوضوء مما مست النار اختلف فيه ، وتكافأت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك في الصحة والشهرة ، وتكلمت الأئمة في الأول منه والآخر ، والناسخ والمنسوخ ، فأكثرهم رواه منسوخا ، كما ذكرنا من حديث جابر ومحمد بن مسلمة الأنصاريين ، وابن عباس ، وذهب بعضهم إلى أن المنسوخ هو ترك الوضوء مما مست النار ، والناسخ الأمر بالوضوء منه .

وإليه ذهب الزهري وجماعة ، وتمسكوا في ذلك بأحاديث منها ما أخبرنا أبو طاهر روح بن بدر بن ثابت ، قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبرنا أبو منصور محمود بن إسماعيل بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين ، أخبرنا أبو القاسم اللخمي ، حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني زيد بن جبيرة بن محمود بن جبيرة الأنصاري من بني عبد الأشهل ، عن أبيه جبيرة بن محمود ، عن سلمة بن سلامة بن وقش صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنهما دخلا وليمة على وضوء فأكلوا ، ثم خرجوا ، فتوضأ سلمة فقال له جبيرة : ألم تكن على وضوء ؟ [ ص: 161 ] قال : بلى ؛ ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجنا من دعوة دعونا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على وضوء ، فأكل ثم توضأ ، فقلت له : ألم تكن على وضوء يا رسول الله ؟ قال : بلى ؛ ولكن الأمر يحدث ، وهذا مما حدث .

وقرأت على محمد بن أبي الأزهر القاضي ، أخبرك أحمد بن الحسن الكرجي في كتابه ، أخبرنا أبو علي بن شاذان ، أخبرنا دعلج ، أخبرنا محمد بن علي ، حدثنا سعيد ، حدثنا فليح بن سليمان قال : سألنا الزهري عما مست النار ؟ قال : فأخبرنا في ذلك بأحاديث أمر فيها بالوضوء عن أبي هريرة ، وعمر بن عبد العزيز ، عن خارجة بن زيد ، وعن سعيد بن خالد ، وعن عبد الملك بن أبي بكر ، فقلت له : إن ههنا رجلا من قريش يقال له : عبد الله بن محمد ، يحدث عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أهل سعد بن الربيع في نفر من أصحابه ، فيهم جابر بن عبد الله ، فأكلنا خبزا ولحما ، ثم صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا معه ، وما مس أحد منا وضوءا ، وانصرفت مع أبي بكر في ولايته من المغرب ، فابتغى عشاء ، فقيل له : ليس ههنا إلا هذه الشاة وقد ولدت ، فحلبها وطبخ لنا لباء ، فأكل وأكلنا معه ، ثم خرج إلى المسجد فصلى بنا ، وما مس ماء ولا مسست .

[ ص: 162 ] وكان عمر بن الخطاب ربما جفن لنا في ولايته ، فأكلنا الخبز واللحم ، فيخرج فيصلي ونصلي معه ، وما يمس أحدنا وضوءا .

فقال الزهري : وأنا أحدثكم أيضا - إن كنتم تريدونه - حدثني جعفر بن عمر بن أمية الضمري ، عن أبيه عمرو بن أمية ، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل عضوا فصلى ولم يتوضأ ، فقلنا له : فما بعد هذا ؟ فقال : إنه يكون أمر ، ويكون بعده الأمر .

دلنا ما ذكرناه على أن الأمر بالوضوء كان بعد الرخصة ، فحديث أبي هريرة يدل على الأمر بالوضوء ، وحديث ابن عباس ومن تابعه يدل على الرخصة ، وحديث ابن عباس بعد حديث أبي هريرة على ما بينه الشافعي .

ثم نظرنا هل نجد حديثا يدل على الرخصة ، وهو قبل حديث أبي هريرة ؟ فوجدنا حديثا يدل عليه وهو ما أخبرناه أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الفارسي في كتابه ، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس ، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار مولى بني حارثة ، أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي وادي خيبر - فنزل للعصر ، ثم دعا بالأذواد فلم يؤت إلا بالسويق ، فأمر به فثري فأكل ، ثم صلى ولم يتوضأ .

[ ص: 163 ] قال يحيى : ثري : بل بالماء .

هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في الصحيح ، عن عبد الله بن يوسف ، والقعنبي عن مالك .

ألا ترى أن حديث سويد بن النعمان هذا كان قبل فتح خيبر ، وإنما قدم أبو هريرة بعد فتح خيبر على ما صرحت به التواريخ ، فهذا يدلك على أن الرخصة كانت غير مرة ، وهو طريق الجمع بين الأخبار في تصحيحها .

[ ص: 164 ] ذكر خبر آخر يدل على أن الرخصة كانت غير مرة

قرأت على محمد بن أبي الأزهر بواسط العراق ، أخبرك أبو طاهر القارئ في كتابه ، أخبرنا الحسن بن أحمد ، أخبرنا دعلج ، أخبرنا محمد بن علي ، حدثنا سعيد ، حدثنا عبد الله بن إياد بن لقيط ، عن أبيه ، عن سويد بن سرحان ، عن المغيرة بن شعبة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل طعاما وأقيمت الصلاة فقام ، وقد كان يتوضأ قبل ذلك ، فأتيته بماء ليتوضأ ، فانتهرني وقال لي : وراءك فساءني ذلك ، ثم صلى ، فشكوت ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، إن المغيرة بن شعبة قد شق عليه انتهارك إياه ، خشي أن يكون في نفسك عليه شيء . فقال : ليس في نفسي عليه شيء إلا خير ، لكنه أتاني بماء لأتوضأ ، وإنما أكلت طعاما ، ولو فعلت ذلك فعل الناس ذلك من بعدي .

هذا حديث يروى عن سويد من غير وجه ، فمنهم من يقول فيه : كان يتوضأ قبل ذلك ، ومنهم من يقول : كان توضأ قبل ذلك .

وقال عثمان بن سعيد الدارمي : لما رأينا هذه الأحاديث قد اختلف فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلف من ذكرناهم في الأول والآخر ولم نقف على الناسخ منهما ، فنظرنا إلى ما اجتمع عليه الخلفاء الراشدون والأعلام من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذنا بإجماعهم في الرخصة فيه .

وقد ذهب بعض من رام الجمع بين هذه الأحاديث إلى أن الأمر بالوضوء منه محمول على الغسل للتنظيف كما أشار إليه الشافعي ، ورجح أخبار ترك الوضوء مما مست النار بما روي من اجتماع الخلفاء الراشدين وأعلام [ ص: 165 ] الصحابة على ترك الوضوء منه ، كما قال الدارمي ، غير أن أكثر الناس يطلقون القول بأن الوضوء مما مست النار منسوخ ، ثم اجتماع الخلفاء الراشدين ، وإجماع أئمة الأمصار بعدهم ، يدل على صحة النسخ ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية