الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : واستدل من نصر قول أبي حنيفة برواية أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما ولاه البحرين كتب له كتاب الصدقات ، وقال فيه : " إذا لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فلا شيء فيها إلا أن يشاء ربها " فدل على أن الخلطة لا تأثير لها ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا خلاط ولا وراط " يريد أن الخلطة في المواشي لا تأثير لها في الزكوات ، ولأن ملك [ ص: 137 ] كل واحد منهما ناقص عن النصاب فوجب أن لا تلزمه زكاة كالمنفرد ، ولأن الزكاة تجب بالحول والنصاب ، فلما لم يكن للخلطة تأثير في الحول ووجب اعتبار حول كل واحد منهما على انفراده ، وجب أن لا يكون لها تأثير في النصاب ، ويعتبر نصاب كل واحد منهما على انفراد ، وتحرير ذلك قياسا أنه أحد شرطي الزكاة ، فوجب أن لا يتغير بالخلطة كالحول ، ولأن النصاب الذي يقطع فيه السارق مقدر كما أن النصاب الذي تجب فيه الزكاة مقدر ، فلما كان الشركاء في سرقة نصاب لا قطع عليهم حتى تبلغ سرقة كل واحد منهم نصابا ، وجب أن يكون الخلطاء في المال لا زكاة عليهم حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا ، وتحرير ذلك قياسا أنه حق تعلق بقدر من المال فوجب أن يستوي فيه حكم الاشتراك والانفراد كالقطع في السرقة .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم : " في أربعين شاة شاة ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي ثلاثين بقرة تبيع " ولم يفرق بين أن يكون ذلك لمالك أو ملاك . وروى الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية "

                                                                                                                                            وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله " لا يجمع بين مفترق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة " أي : لا يجمع بين الأملاك المتفرقة ، وهو أن يكونوا ثلاثة لكل واحد منهم أربعون مفردة ، فلا تجمع ليؤخذ منها شاة ، وتكون على تفريقها ليؤخذ منها ثلاث شياه ، ولا يفرق بين الأملاك المجتمعة ، وهو أن يكونوا ثلاثة بينهم مائة وعشرون مجتمعة ، فلا تفرق ليؤخذ منها ثلاث شياه وتكون على اجتماعها ليؤخذ منها شاة ، فيحمل قوله " لا يجمع بين متفرق " على الأملاك ، " ولا يفرق بين مجتمع " على الأملاك . وقال أبو حنيفة : أحمل قوله " لا يجمع بين متفرق " على الأملاك كقول الشافعي ، " ولا يفرق بين مجتمع " على الملك الواحد لا على الأملاك ، وهو أن يكون لرجل مائة وعشرون شاة ، فلا تفرق ليؤخذ منها ثلاث شياه ، وتكون على اجتماعها في المال ليؤخذ منها شاة ، وهذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن هذا معلوم بقوله " في أربعين شاة شاة إلى مائة وعشرين " فكان حمل الحديث على استفادة حكم آخر أولى .

                                                                                                                                            والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تفريق ، ما نهى عن جمعه ، فلما كان نهي الجمع في الأملاك لا في الملك ، وجب أن يكون نهي التفريق في الأملاك لا في الملك ، فصحت هذه الدلالة من الخبر .

                                                                                                                                            [ ص: 138 ] والدلالة الثانية : قوله : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية والتراجع يكون في خلطة الأوصاف دون الأعيان ، يؤيد ذلك ويؤكده ، رواية سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والخليطان ما اجتمعا في الحوض والسقي والرعي " وروي : " والفحول " ولأنه ملك لو انفرد به أحدهما وجبت زكاته ، فجاز إذا اشتركا فيه أن تجب زكاته لوجود النصاب كما أن كل مال سقطت عنه الزكاة لا لنقصان النصاب لم تجب فيه الزكاة بوجود النصاب ، كمال الذمي والمكاتب ، ولأن إيجاب الزكاة يفتقر إلى مالك ومملوك ، فلما وجبت الزكاة وإن افترق الملك اقتضى أن تجب الزكاة وإن افترق الملاك . وأما الجواب عن قوله : " وإذا لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فلا شيء فيها " فهو دليلنا ؛ لأنه قال : " الرجل " فأدخل الألف واللام الداخلة للجنس أو للمعهود ، فلم يصح حملها على المعهود لفقده ، فكانت محمولة على الجنس ، كأنه قال : وإذا لم تبلغ سائمة الرجال أربعين فلا شيء فيها ، وأما قوله : " لا خلاط ولا وراط " فهذا حديث ذكره أبو عبيد في " غريب الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لوائل بن حجر الحضرمي ، ولقومه : " من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، على البيعة شاة واليتيمة لصاحبها ، وفي السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط ولا شناق ، ولا شغار في الإسلام " . قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث : أن الأقيال : ملوك باليمن دون الملك الأعظم ، والعباهلة : الذين قد أقروا على ملكهم لا يزالون عنه ، والبيعة : أربعون من الغنم ، واليتيمة : الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى ، والسيوب : الركاز ، قال أبو عبيد : ولا أراه أخذ إلا من السيب وهو العطية ، والخلاط : الشركة في المواشي ، والوراط : الخديعة والغش ، والشنق : ما بين الفريضتين ، والشغار : عقد النكاح الخالي من الصداق ، فهذا تفسير أبي عبيد ، وليس في قوله " لا خلاط " دلالة على ما ذكروا ، لأنه يقتضي النهي عن نفس الخلطة ، وليس للزكاة ذكر ، والخلطة جائزة باتفاق ، وإنما أريد بها خلطة الجاهلية الواقعة على صفات حظرها الشرع ، وأما قياسهم على المنفرد فالمعنى فيه عدم النصاب ، وأما جمعهم بين الحول والنصاب ، فالمعنى فيه سواء ؛ لأننا نعتبر النصاب من حين الخلطة لا فيما قبل ، وأما قياسهم على السرقة فالمعنى فيه أنه لما لم تضم بعض سرقاته إلى بعض لم تضم سرقة غيره إلى سرقته ، ولما ضم بعض ماله إلى بعض ضم مال غيره إليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية