الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 271 ] باب زكاة الحلي

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها كانت تحلي بنات أخيها أيتاما في حجرها فلا تخرج منه زكاة . وروي عن ابن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه ، ذهبا ثم لا يخرج زكاته ( قال ) ويروى عن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص أن في الحلي الزكاة وهذا مما أستخير الله فيه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : الحلي ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كان من جنس الأثمان ذهبا وفضة .

                                                                                                                                            والثاني : ما كان من غيره من الجواهر كاللؤلؤ والمرجان فهذا لا زكاة فيه ، وما كان ذهبا وفضة ضربان : محظور ومباح ونذكر تفصيلهما ، فالمحظور زكاته واجبة ، والمباح على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : نص عليه الشافعي في القديم لا زكاة فيه ، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وعائشة رضي الله عنهم ، ومن التابعين الحسن البصري ، وابن المسيب ، والشعبي .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء مالك ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أشار إليه الشافعي في الجديد من غير تصريح به أن فيه الزكاة ، وبه قال من الصحابة : عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، ومن الفقهاء : الزهري ، والثوري ، وأبو حنيفة وصاحباه .

                                                                                                                                            واستدل من أوجب فيه الزكاة بعد الظواهر هي العامة برواية عطاء عن أم سلمة قالت كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هي ؟ فقال ما بلغت زكاته فزكي فليس بكنز .

                                                                                                                                            [ ص: 272 ] وروى عبد الله بن شداد بن الهاد قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدي فتحات من ورق فقال : ما هذا يا عائشة ؟ فقلت صنعتهن أتزين لك يا رسول الله ، فقال أتؤدين زكاتهن ؟ فقلت : لا قال : فهو حسبك من النار قال الأصمعي الفتحات الخواتيم وأنشد :

                                                                                                                                            إن لم أقاتل فاكسواني برقعا وفتحات في اليدين أربعا

                                                                                                                                            وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة من اليمن أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها بنت لها ، وفي يدها مسكتان غليظتان من ذهب ، فقال لها أتعطين زكاة هذا ؟ فقالت : لا فقال : أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ، قال : فخلعتهما وألقتهما وقالت هما لله ولرسوله وروي أن زينب امرأة ابن مسعود قالت : يا رسول الله إن لي حليا وإن عبد الله خفيف ذات اليد ، وإن في حجري بنت أخ لي ، أفيجزيني أن أجعل زكاة حلي فيهم ؟ قال : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنفقي عليهم فلك في ذلك أجران .

                                                                                                                                            وروى الشعبي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : هذا حليي وهو سبعون دينارا فخذ حق الله تعالى منه ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم دينارا أو ثلاثة أرباع دينار وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى امرأة تطوف بالبيت وعليها مناجد من ذهب فقال : يسرك أن يحليك الله مناجد من نار . قالت : لا . قال : فأدي زكاته قال أبو عبيد : المناجد الحلي المكلل بالفصوص ، ولأنه من جنس الأثمان فوجب أن تجب فيه الزكاة كالدراهم والدنانير .

                                                                                                                                            واستدل من أسقط الزكاة منه وهو أظهر المذهبين وأصح القولين برواية هشام بن عمار عن سويد بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا زكاة في الحلي وروى [ ص: 273 ] أسامة بن زيد مثله ، وأبو الزبير عن جابر مثله ، روت فريعة بنت أبي أمامة قالت حلاني رسول الله صلى الله عليه وسلم رعاثا وحلى أختي ، وكنا في حجره ، فما أخذ منا زكاة حلي قط ، قال أبو عبيد الرعاث جمع رعثة وهو القرط وقال النمر بن تولب :

                                                                                                                                            وكل عليل عليه الرعاث     والخيلات ضعيف ملق

                                                                                                                                            والخيلات : كل ما تزينت به المرأة من جنس الحلي ، ولأنه جنس مال تجب زكاته بشرطين فوجب أن يتنوع نوعين :

                                                                                                                                            أحدهما : تجب فيه .

                                                                                                                                            والثاني : لا تجب فيه كالمواشي التي تجب الزكاة في سائمتها وتسقط في المعلوفة منها ، ولأنه مبدل في مباح فوجب أن تسقط زكاته كالأثاث والقماش ، ولأنه معدول به عن النماء السائغ إلى استعمال سائغ ، فوجب أن تسقط زكاته كالإبل العوامل ، ولأنه معد للقينة كالعقار ، ولأنه حلي مباح كاللؤلؤ .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الأخبار فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها محمولة على متقدم الأمر حين كان الحلي محظورا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم حظره في أول الإسلام في حال الشدة والضيق ، وأباحه في حال السعة وتكاثر الفتوح ، ألا ترى إلى ما روت أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار ، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أراد أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب ، ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليسوره سوارا من ذهب .

                                                                                                                                            والثاني : أن زكاته محمولة على إعارته لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : زكاة الحلي [ ص: 274 ] إعارته على أنها قضايا في أعيان يستدل بها على الإطلاق مع إمكان حملها على حلي محظور أو للتجارة ، وأما قياسهم على الدراهم والدنانير فالمعنى فيهما إرصادهما للنماء : فلذلك وجبت زكاتهما ، والحلي غير مرصد للنماء فلم تجب زكاته ، ألا ترى أن عروض التجارة لما أرصدت للنماء وجبت زكاتها ، ولو أعدت للقينة ولم ترصد للنماء وجبت زكاتها ، وكذا الحلي والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية