الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من منع فضل ماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وليس له منع الماشية من فضل مائه ، وله أن يمنع ما يسقى به الزرع أو الشجر إلا بإذنه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . الآبار على ثلاثة أضرب : ضرب يحفره في ملكه ، وضرب يحفره في الموات لتملكه ، وضرب يحفر في الموات لا للتملك .

                                                                                                                                            فأما الضرب الأول : وهو إذا حفر بئرا في ملكه ، فإنما نقل ملكه من ملكه : لأنه ملك المحل قبل الحفر .

                                                                                                                                            وأما الضرب الثاني : وهو إذا حفر بئرا في الموات ليتملكها فإنه يملكها بالإحياء ، والإحياء أن يبلغ إلى مائها : لأن ذلك نيلها ، وإذا بلغ نيل ما يحييه ملكه ، وقيل : إن يبلغ الماء يكن ذلك تحجرا ، وهذا كما قلنا في المعدن الباطن : إن تحجيره ما لم يبلغ النيل ، وإذا بلغ النيل كان ذلك إحياء ويملكه ، ويفارق المعدن على أحد القولين : لأن المعدن لا ينتهي عمارته ، والبئر تنتهي عمارتها ، فإذا بلغ الماء تكررت منفعتها على صنفيها ، إذا ثبت هذا فهل يملك الماء الذي يحصل في هذين الضربين أم لا ؟ نص الشافعي على أنه يملك ، ومن أصحابنا من قال : لا يملك : لأن الماء في البئر لو كان مملوكا يستباح بالإجارة : لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة ، ولأنه لو كان مملوكا لما جاز بيع دار في بئرها ماء بدار في بئرها ماء : لأن الربا يجري في الماء لكونه مطعوما ، ولما جاز ذلك دل على أنه ليس بمملوك ، والدليل على أنه مملوك أنه نماء ملكه فهو كثمرة الشجرة ، ولأن هذا الماء معدن ظهر في أرضه ، فهو كمعادن الذهب والفضة وغيرها إذا ظهرت في أرضه .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قولهم : لو كان مملوكا لم يستبح بالإجارة ، فهو أن العين قد تستباح بالإجارة إذا دعت الحاجة إليه ، ألا ترى أنه يجوز أن تملك بعقد الإجارة على الإرضاع عين اللبن : لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، وجواب آخر وهو أنه إنما جاز أن يستبيحه المستأجر : لأنه لا ضرر على المكري في ذلك : لأنه يستخلف في الحال ، وما لا ضرر عليه فيه فليس له منع [ ص: 507 ] الغير منه ، ألا ترى أنه ليس له أن يمنع أن يستظل بحائطه فكذلك هاهنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن دليلهم الثاني فهو أن الماء يجري فيه الربا على أحد الوجهين فهو مملوك ، ولا يجري فيه الربا على هذا الوجه ، فكذلك صح البيع إذا تقرر هذان الوجهان ، فإن قلنا :

                                                                                                                                            إنه مملوك فليس لغيره أن يأخذ شيئا منه ، وإن أخذه كان عليه رده على صاحبه ، فإن قلنا : ليس بمملوك ، فليس لغيره أيضا أن يأخذ منه شيئا : لأنه يحتاج أن يتخطى في ملك غيره بغير إذنه ، فإن تخطى بغير إذنه واستقى من ذلك الماء ملكه ، وليس عليه رده ، كما إذا توغل في أرضه صيد فليس لغيره أن يأخذه : لأنه يحتاج أن يتخطى ملك غيره بغير إذنه ، وذلك لا يجوز ، فإن خالف وتخطى فأخذه ملكه ، وأما إذا أراد أن يبيع منه شيئا ، فإن خالف قلنا : إنه غير مملوك لم يجز بيع شيء منه حتى يستقيه ويحوزه فيملكه بالحيازة ، وإن قلنا : إنه مملوك جاز أن يبيع منه وهو في البئر إذا شاهد المشتري كيلا أو وزنا ، ولا يجوز أن يبيع جميع ما في البئر : لأنه لا يمكن تسليمه إذا كان ببيع ويريد كلما استقى منه شيء ، فلا يمكن تمييز المبيع من غيره .

                                                                                                                                            وأما الضرب الثالث من الآبار : وهو إذا نزل قوم موضعا من الموات فحفروا فيه بئرا ليشربوا من مائها ويسقوا منه مواشيهم مدة مقامهم ، ولم يقصدوا التملك بالإحياء ، فإنهم لا يملكونها : لأن المحيي إنما يملك بالإحياء مدة ما قصد به بملكه ، فإنه يكون أحق به مدة مقامه ، فإذا رحل فكل من يسبق إليه كان أحق به ، وكل موضع قلنا إنه يملك البئر فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه ، فإذا فضل بعد ذلك شيء وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه وشرب ماشيته من السائلة وغيرهم ، وليس له منع الماء الفاضل عن حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعي الكلأ ، والذي يقرب ذلك الماء ، وإنما يجب عليه ذلك لشرب المحتاج إليه وشرب ماشيته ، فأما لسقي زرعه فلا يجب عليه ذلك ولكن يستحب . وقال أبو عبيد بن حربويه : يستحب ذلك لشرب ماشيته وسقي زرعه ، ولا يجب عليه ، ومن الناس من قال : يجب عليه بذله بعوض لشرب الماشية وسقي الزرع ، فأما بلا عوض فلا ، واحتج أبو عبيد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه وقال : ولأنه لو كان كلأ مملوكا وبجنبه بئر ، ولا يمكن سقي المواشي من تلك البئر إلا بالرعي في ذلك الكلأ لم يلزمه بذل الفاضل من كلائه ، فإن كان منعه يؤدي إلى منع الماء المباح ، فكذلك إذا كان الماء له ، وكان الكلأ مباحا لم يلزمه بذل الماء ، وإن كان المنع يؤدي إلى منع الكلأ المباح ، قال : ولأنه لما لم يجب ذلك لسقي زرعه فكذلك لمواشيه .

                                                                                                                                            ودليلنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة وفيه أدلة :

                                                                                                                                            أحدها : أنه توعد على المنع فدل على أن البذل واجب .

                                                                                                                                            والثاني : أنه دل على أن الفاضل هو الذي يجب بذله ، فأما ما تحتاج إليه الماشية ونفسه وزرعه فلا يجب عليه بذله وهو أحق من غيره .

                                                                                                                                            [ ص: 508 ] والثالث : أنه دل على أنه يجب عليه البذل بلا عوض .

                                                                                                                                            والرابع : أنه دل على أنه إنما يجب عليه ذلك للماشية دون غيرها وروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الناس شركاء في ثلاث : الماء ، والنار ، والكلأ وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع فضل الماء .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الخبر الذي احتج به فهو أن يقول : هو عام وخبرنا خاص فقضى عليه .

                                                                                                                                            وأما ما ذكره من الكلأ فهو أن الفرق بين الماء وبينه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الماء إذا أخذ استخلف في الحال ونبع مثله ، وليس كذلك الحشيش فإنه إذا أخذ لا يستخلف بدله في الحال .

                                                                                                                                            والثاني : أن الحشيش يتمول في العادة ، والماء لا يتمول في العادة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن دليله الأخير فهو أن الزرع لا حرمة له ، وليس كذلك الحيوان فإن له حرمة ، ألا ترى أنه لو عطش زرعه فلم يسقه لم يجبر على ذلك ، ولو عطش حيوان أجبر على سقيه ، فبان الفرق بينهما إذا ثبت أنه يلزمه البذل لما ذكرنا ، فإنه لا يلزمه أن يبذل آلته التي هي البكرة ، والدلو ، والحبل : لأنها تبلى بالاستعمال ، ولا تستخلف ، ويفارق الماء : لأنه يستخلف في الحال بدله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية