الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما السقي منه فإن الماء المباح على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            الضرب الأول : هو ماء نهر عظيم مثل دجلة ، والفرات وغيرهما ، والناس في السقي منه شرع سواء ، ولا يحتاج فيه إلى ترتيب وتقديم وتأخير لكثرته واتساعه .

                                                                                                                                            والثاني : ماء مباح في نهر صغير يأخذ من النهر الكبير ، ولا يسع جميع الأراضي إذا سقيت في وقت واحد ، ويقع في التقديم والتأخير نزاع ، فهذا يقدم فيه الأقرب فالأقرب إلى أول النهر الصغير ، والأصل فيه ما روي أن رجلا خاصم الزبير في سراح الحرة التي يسقون بها ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر عليه ، فأبى عليه الزبير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري ، وقال : يا رسول الله ، إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر قال الزبير : فوالله ، إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] الآية فدل هذا على أن الأقرب أولى ، فإذا استكفى أرسله إلى جاره إلى من يليه ، وروي أيضا أن رجلا من قريش كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرور السبل الذي يقتسمون ماءه ، فقضى بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الماء إلى الكعبين ثم يحبسه الأعلى عن الأسفل لكي يرسله إليه ، وأيضا فإن الأقرب إلى فرهة النهر بمنزلة السابق إلى المشرعة ، فوجب أن يكون أولى من الذي هو أبعد منه .

                                                                                                                                            وأما تأويل قصة البئر فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أولا بأن لا يستوفي جميع حقه ، ويرسل [ ص: 510 ] الماء إلى جاره ، فلما أساء جاره الأدب أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستوفي في حقه فقال : احبس الماء حتى يبلغ الجدر ( وهو الحائط ) .

                                                                                                                                            فإن قيل : ففي الحديث الآخر أنه علق الحق بأن يبلغ الماء إلى الكعبين ، وهذا مخالف لذلك .

                                                                                                                                            قلنا : ليس فيهما خلاف : لأن الماء إذا بلغ الكعبين وكانت الأرض مستوية رجع الماء إلى الجدار .

                                                                                                                                            إذا تقرر هذا ، فإن الأقرب إلى الفرهة يسقي ويحبس الماء عمن دونه ، فإذا بلغ الماء الكعبين أرسله إلى جاره ، وهكذا الأقرب فالأقرب يفعل كلما حبس الماء وبلغ في أرضه إلى الكعبين أرسله إلى من يليه حتى تشرب الأراضي كلها ، فإن كان زرع الأسفل يهلك إلى أن ينتهي الماء إليه لم يجب على من فوقه إرساله إليه ، فإذا أحيا على هذا النهر الصغير رجل أرضا مواتا هي أقرب إلى فرهة النهر من أراضيهم ، فإنهم أحق بمائه ، فإذا فضل عنهم شيء سقى المحيي منه ، ولا يقول : إن هذا الماء ملك لهم كما إذا حازوه ملكوه ، وإنما هو من مرافق ملكهم فكانوا أحق به مع حاجتهم إليه ، فما فضل منهم كان لمن أحيا على ذلك الماء مواتا ، وأما الذي في نهر مملوك فهو أن يحفروا في الموات نهرا صغيرا ليحيوا على مائه أرضا ، فإذا بدوا بالحفر فقد تحجروا إلى أن يصل الحفر بالنهر الكبير الذي يأخذون الماء منه ، فإذا وصلوا إليه ملكوه كما إذا حفروا بئرا فوصلوا إلى الماء ملكوه ، وإذا حفروا معدنا من المعادن الباطنة ، وقلنا : يملك في أحد القولين ، فإذا وصلوا إلى النيل ملكوه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإنهم يملكونه على قدر نفقاتهم عليه ، فإن أنفقوا على السواء كان النهر بينهم بالتسوية ، وإن تفاضلوا كان ملكهم على قدر ما أنفقوا .

                                                                                                                                            فإذا تقرر هذا ، فإن الماء إذا جرى فيه لم يملكوه كما إذا جرى الفيض إلى ملك رجل واجتمع لم يملكه ، ولكن يكون أهل النهر أولى به : لأن يدهم عليه وليس لأحد أن يزاحمهم فيه : لأن النهر ملك لهم ولكل واحد منهم أن ينتفع به على قدر الملك : لأن الانتفاع به لأجل الملك ، فإن كان الماء كبيرا يسعهم أن يسقوا من غير قسمة سقوا منه ، وإن لم يسعهم فإن تهابوا وتراضوا على ذلك جاز لهم ما تراضوا به ، فإن لم يفعلوا ذلك واختلفوا نصب الحاكم في موضع القسمة خشبة مستوية الظهر محفرة بقدر حقوقهم ، فإن كان لقوم مائة جريب ولآخر عشرة أجربة كانت الحفر إحدى عشرة حفرة متساوية فيكون حفرة منها لساقية من له عشرة أجربة ، والبواقي لأصحاب المائة جريب ، وذلك قسمة الماء العادلة . والله الموفق للصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية